قدّيسو وآباء الكنيسة

عيد القدّيس 11 تشرين الثاني

القديس ثيودوروس

الكنيسة الأرثوذكسيّة

ولد القديس ثيودوروس في القسطنطينية في العام 759م، في حضن الارستقراطية. وقد امتاز زمانه بحرب كان وطيسها يخف حيناً ويشتد أحياناً على الإيقونات ومكرميها والمدافعين عنها. يذكر أن هذه الحرب كانت قد اندلعت في العام 726. واستمرت، بصورة متقطعة، إلى العام 842 للميلاد حيت تم وضع حد نهائي لها.

كانت ولادة ثيودوروس في زمن الإمبراطور قسطنطين الخامس كوبرنيموس لأب يدعى فوتين كان حافظاً للخزانة الملكية ووزيراً للمالية ولأم تدعى ثيوكتيستي كانت تقية متمسكة بالإيمان الأرثوذكسي وحياة الفضيلة. ويبدو أن حميّة ثيودوروس النسكية وحبّه للصلاة كانتا من فضل أمه بعد ربّه عليه.

 

خاله والرهبنة:

تلقى ثيودوروس نصيباً ممتازاً من العلوم الدينية والدنيوية المعروفة في زمانه. وكان لخاله القدّيس أفلاطون الذي تحتفل الكنيسة بذكراه في الرابع من شهر نيسان، الدور الأبرز في بلورة أمياله الرهبانية والتزامه الحياة الملائكية. والحق أن تأثير القدّيس أفلاطون تخطى ثيودوروس ليشمل كافة أفراد الأسرة: الأب والأم والإخوة والأخوات وحتى بعض الأصدقاء الذين اقتبلوا الحياة الرهبانية بصورة جماعية. وقام فوتين، الأب، إلى أرزاقه فباعها إلا عقاراً في جبل الأوليمبوس في بيثينيا ووزع أثمانها على الفقراء. يذكر أن جبل الأوليمبوس كان موئل الرهبان الأول في آسيا الصغرى، لا بل في الإمبراطورية كلها، قبل ازدهار الجبل المقدس المسمى آثوس. وكان هذا العقار يتضمن بعض الأبنية التي يمكن تحويلها إلى أجنحة لدير مشترك. وهذا ما حدث بالفعل بحكمة القديس أفلاطون ومشورته. وكان اسم المكان "ساكوذيون".

أقبل ثيودوروس على الحياة الرهبانية بهمّة ونشاط فسلك في الطاعة وقطع المشيئة وكشف الفكر. ورغم صحته الرقيقة وعلمه الغزير، كان يشترك في الأشغال البيتية واليدوية كأي راهب آخر: ينقل الماء والحطب ويفلح الأرض وينهض في الليل، سراً، لينقل الزبل على كتفيه. وقد صعد بسرعة سلم التواضع لأنه سلك في امحاء ولم يعتبر كرامته أو حتى نفسه عزيزة لديه. كان ممتداً صوب ربه وصوب إخوته. وإذ قرن ذكر الله بذكر الموت منّ عليه ربّه في وقت قصير بموهبة الدموع. ويبدو أن دموعه كانت من الغزارة بحيث أنه من تلك الساعة فصاعداً لم يمرّ عليه يوم إلا ذرف فيه الدمع مدراراً. أوكل إليه خاله، القديس أفلاطون، بمهمة بناء كنيسة الدير فجاءت مثار إعجاب الجميع. الجدية في كل أمر كانت عنوان سعيه. كان يحب أن يخلد إلى ربه وحيداً في الكنيسة لساعات طويلة أثناء الليل. وكان صارماً في نسكه وأصوامه دون مبالغات تضر بصحته وتوهن عزيمته على حفظ الصلاة.

 

راهباً حريصاً:

سيم ثيودوروس كاهناً وهو في الثامنة والعشرين، فأضحى لذلك أكثر قسوة على نفسه مما كان، لا يرقد سوى ساعة واحدة في الليل ويقضي بقية وقته في الصلاة والتأمل في ما كتبه الآباء القديسون: القديس باسيليوس، القديس دوروثاوس الغزواي، القديس نيلس السينائي، القديس يوحنا السلمي وغيرهم وغيرهم. وقد كانت له مساهمة فعالة في التنبيه وإصلاح ما أعوج من ممارسات رهبانية في جبل الأوليمبوس باتت مألوفة، كأن يحمل بعض الرهبان ما لهم من متاع إلى الدير وأن يكون لهم خدام وأن يهتموا بإقامة المزارع وتربية الدواجن. وإن حرص القديس ثيودوروس ودقته وأمانته هو ما حدا بالقديس أفلاطون إلى أن يعرض على ابن أخته رئاسة الدير مكانه بعدما زاد عدد رهبانه وصار مئة. فأبى ثيودوروس تواضعاً، إلى أن اضطر أخيراً للرضوخ للأمر الواقع بعدما أصيب خاله بمرض.


رجل المواجهة:

وكما كان ثيودوروس رجل المواجهة في شؤون الحياة الرهباينة، كان كذلك في شؤون الكنيسة عموماً، لاسيما في حفظها من تسلط الأباطرة والموظفين المتنفذين والوقوف في وجه ممارساتهم الكيفية واستهانتهم بالحق الكنسي. من ذلك وقوفه في وجه الإمبراطور قسطنطين السادس بعدما طلق زوجته لسبب أهوائي وأراد الاقتران بأخرى. وقد أبى البطريرك مباركة زواجه، فأتى الإمبراطور بكاهن تمم الزواج. وتحول التحدي إلى صراع طالما عانت منه الكنيسة في علاقتها بالدولة: سعي الدولة إلى فرض نفوذها على الكنيسة وسعي الكنيسة إلى الحفاظ على استقلالية قرارها. وقد كان لثيودوروس دوره في هذا السياق لاسيما وأنه كانت للرهبان، عموماً، كلمة يقولونها في القضايا التي تمس الكنيسة، عقائد وقوانين. وكانت النتيجة أن احتدمت المواجهة وعمد الإمبراطور إلى نفي ثيودوروس إلى تسالونيكي حيث مكث في ضيقات وشدائد سنة كاملة إلى أن تمت إزاحة الملك قسطنطين عن كرسيه فعاد ثيودوروس إلى ديره مظفراً واعتبره الشعب المؤمن رمزاً لصمود الكنيسة في وجه عبثية الحكام.

ولكن، لم تطل إقامته في ديره كثيراً إذ اضطر في العام 798 للميلاد إلى مغادرته إلى القسطنطينية بعدما تواترت غزوات العرب لناحية جبل الأوليمبوس. هكذا انتقل أهل دير ساكوذيون برمتهم إلى الدير المعروف باسم "ستوديون" في القسطنطينية، نسبة إلى القنصل الروماني "ستوديوس" الذي أسسه في العام 463 للميلاد.

 

في دير الستوديون:

في القسطنطينية، بدأت مرحلة جديدة من حياة القديس ثيودوروس استبانت أكثر خصباً ونضوجاً من التي سبقتها حتى اقترن اسمه باسم دير "ستوديون"، لأنه منذ أن وطئت قدماه الدير الجديد باشر فيه حملة مركزة لإزكاء الحياة الكنسية مما جعله ولأجيال، أنموذجاً للعديد من الأديرة، لاسيما لدير اللافرا الكبير الذي أسسه القديس أثناسيوس الآثوسي في القرن العاشر، وللأديرة الروسية ابتداء من القرن الحادي عشر.

يذكر أن عدد رهبان دير "الستوديون" ما لبث أن تعدى الألف. وقد اهتم ثيودوروس بجعل الحياة المشتركة فيه على النمط الباسيلي أكثر من دير ساكوذيون. ففي "ستوديون" كانت حياة الرهبان صورة أمينة عن الحياة في الكنيسة الرسولية: قلب واحد ونفس واحدة وكل شيء مشترك (أع32:4). لم يكن للرهبان قلالي خاصة بل عنابر واسعة يشتركون فيها ولا يلبسون إلا ثوباً واحداً يتبادلونه من وقت إلى آخر. كانت شؤون الدير تنتظم كل يوم بلياقة وترتيب وكان ثيودوروس قد اعتمد كموسى قديماً (خر18) نظاماً وزّع فيه المهام الروحية والمادية وفقاً لتراتبية معينة بحيث أمكنه أن يشرف على سير شؤون الدير وأن يبقى أباً لكل واحد من رهبانه. اعتاد ثيودوروس، أثناء الخدم الإلهية، أن يقتبل اعترافات الرهبان وكشفهم لأفكارهم. وكان يعظ ثلاث مرات في الأسبوع خلال خدمة السحر. وقد وضع أعداداً من الأناشيد الكنسية. والمعروف أن كتاب "التريودي" لدينا يعود إليه. كان الدير أشبه بخلية نحل نشطة يعمل فيها كل راهب وفقاً لطاقته وموهبته: فهناك رسامو الإيقونات والنساخ والمزخرفون وهناك الصناع والحرفيون. كل ذلك وغيره جعل الدير المركز الإيماني والثقافي الأول في زمانه.

 

منفياً من جديد:

وأن هي إلا سنوات معدودات حتى تعرض ثيودوروس للنفي من جديد. هذه المرة لأن قطع الشركة مع البطريرك نيقفوروس بعدما أعاد هذا الأخير الاعتبار للكاهن يوسف الذي تجرأ فبارك الزواج غير الشرعي للإمبراطور قسطنطين السادس كما سبق فذكرنا. كان ذلك في العام 809 للميلاد وقد اهتم ثيودوروس من منفاه بتوجيه العديد من الرسائل إلى تلاميذه والمؤمنين. استمرت فترة نفيه هذه سنتين عاد بعدها إلى ديره لينعم بسنوات قليلة من السلام.

ثم في العام 815 للميلاد بدأ مواجهة جديدة شرسة ضد الإمبراطور لاون الأرمني الذي باشر، من جديد، حملة لاضطهاد مكرمي الإيقونات والقضاء عليها. وقد كانت لثيودوروس في الدفاع عن الإيقونات عظات ومقالات كثيرة. وقد عمد، في موقف تحد، في أحد الشعانين من العام 815 للميلاد، إلى تنظيم مسيرة في الشوارع اشترك فيها ألف راهب حملوا الإيقونات ورتلوا الأناشيد إكراماً لها. وكانت النتيجة أن تم سجنه ونفيه من جديد. ورغم أنه كان ممنوعاً عليه أن يراسل أحداً فإنه تمكن من كتابة عدد كبير من الرسائل وجهها إلى رهبانه وإلى المؤمنين هنا وهناك. إذ ذاك جرى نقله إلى برج في أقاصي الأناضول للحؤول دون اتصاله بالعالم الخارجي. وقد عانى من الرطوبة والبرد ومنع عنه الطعام إلا خبزة كل يومين. ومع ذلك لم يفقد شيئاً من شدة عزمه وإصراره على المراسلة. لسان حاله كان ولو انقطع عني ورق الكتابة لاتخذت جلدي ورقاً ولو جف المداد لاستعنت بدمي. ويبدو أن تلاميذه كانوا من الحيوية والنشاط بحيث وفروا له ما يحتاج إليه من ورق وحبر فكتب المئات من الرسائل، حتى بلغت أورشليم وروما والإسكندرية.

 

نهايته:

إلى ذلك تعرض ثيودوروس للجلد مرات وترك يسبح في دمه، لكن الله كان معه. واستمرت حاله على هذا المنوال حتى العام 820 للميلاد. ولكن، حتى بعد ذلك لم يعرف الهدوء تماماً إذ أن الملك ميخائيل الثاني الألثغ (820 -829) أخرج المساجين من سجونهم وأعاد المنفين من منافيهم، ولكنه لم يعد الاعتبار للإيقونات. لذلك هاجم ثيودوروس الملك بعنف لموقفه في العام 824 للميلاد فأخرجه الملك من العاصمة فتنقل بين عدة أديرة إلى أن وافته المنية في 11 تشرين الثاني من العام 826. يومها كان قد تحول من كثرة الأتعاب والمشاق إلى شبه هيكل عظمي وكان مرض خطير قد أصاب معدته. وقد سأل تلاميذه أن يأتوه بالقدسات. وبعدما تناولها قال لهم أن يبدأوا بخدمة الجناز. وفيما كانوا يتلون المزمور 118 وقد بلغوا الآية 93 التي فيه: "لن أنسى فروضك أبداً لأنك بها أحييتني" أغمض عينيه وأسلم الروح. عمره يومذاك كان قد بلغ السابعة والستين.