التّجلّي والحرّيّة
"في هذا اليوم المبارك نحتفل بعيد التّجلّي المعروف أو كما يسميّه المؤمنون بعيد الرّبّ، حيث يخبرنا الإنجيليّ متّى في الإصحاح 17، إذ يقول "وتجلّى قدّامهم وأضاء وجهه كالشّمس وصارت ثيابه بيضاء كالنّور". هنا تقرّ الكنيسة المقدّسة بإعلان سرّ التّجسّد حيث المسيح معلنًا منذ البداية أنّه سيعطي الحياة لمن هم يملكون النّعمة ونور القيامة .
لقد حدث تجلّي المسيح على الجبل قبل الآلام بقليل، بالتّحديد قبل أربعين يومًا من الآلام والصّلب. إذًا قانونيًّا ينبغي التّعييد لتجلّي المسيح في شهر آذار استنادًا إلى توقيت تعييد الفصح، ولكن بما أنّ هذا الوقت يقع في فترة الصّوم الكبير ولا يمكن الاحتفال فيه فقد نقل العيد إلى السّادس من آب. هذا التّوقيت ليس محددًّا عشوائيًّا، بل هو قبل أربعين يومًا من عيد رفع الصّليب (14 أيلول) المشابه ليوم الجمعة العظيمة .
سؤال يطرح، لماذا التّجلّي؟ وما هو التّجلّي؟ ولماذا أصعدهم إلى الجبل؟ ألم يكن من الممكن أن يكون التّجلّي في أرض منخفضة! ولماذا صار التّجلّي في أرض مرتفعة؟
إذًا ما هو التّجلّي؟ كلمة تجلّي تعني تغيير الشّكل. تجلّى أيّ كشف من ألوهيّته كما يقول الذّهبيّ الفمّ. بتعبير آخر، في لحظة ما كشف المسيح ما يخفيه، وأظهر مجد ألوهيّته الذي حفظه غير منظور في الجسد المنظور، لأنّ البشر أو التّلاميذ لم يكونوا قادرين على مواجهته، وأيضًا لكي لا يحترق التّلاميذ بسبب عدم أهليّتهم كونهم لم يتهيّئوا بعد .
إلى هذا، هدف التّجلّي كان تثبيت التّلاميذ في الإيمان بأنّ هذا أيّ يسوع هو ابن الله، حتّى لا يضعفوا من الأمور التي كانوا مزمعين أن يروها في تلك الأيّام، أيّ عندما يرون المسيح مصاوبًا .
تظهر هذه الحقيقة من قنداق العيد إذ يقول: "حتّى عندما يعاينوك مصلوبًا يفطنوا أنّ آلامك طوعًا باختيارك ويكرزوا للعالم أنّك أنت بالحقيقة شعاع الآب."
تجلّى الرّبّ على الجبل لكي يريهم كيف ينبغي "أن يأتي الرّبّ في ذلك اليوم الأخير بمجد لاهوته وبجسد ناسوته وكيف سيتمجّدون هم أيضًا". لم يكن التّجلّي من أجل المسيح بل من أجل تلاميذه، من أجل الكنيسة كلّها، أظهر لهم ألوهته ليروا مجده حتّى لا يقعوا في الشّكّ حين يرونه متألّمًا بالجسد ومائتًا بالصّليب عاريًا مرذولًا، فيدركوا أنّه مخلّص جميع البشر .
تجلّى الرّبّ ليريهم من الإبن وابن مَن هو، لأنّه حين سألهم من هو ابن الانسان قالوا: "قوم يقولون إيليّا وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء" (متّى 16 : 13- 14)، لقد تجلّى ليظهر لهم أنّه ليس إيليّا بل إله إيليّا، وليس إرمياء بل مقدّس إرميا في بطن أمّه، وليس أحد الأنبياء بل ربّ الأنبياء ومرسلهم. تجلّى ليظهر لهم أنّه هو صانع السّماء والأرض وربّ الأحياء والأموات. تجلّى كي يظهر لهم أنّه ابن الله المولود من الآب قبل كلّ الدّهور.
لقد عرفوه إنسانًا، وما علموا أنّه الله. عرفوه ابنًا لمريم مرافقًا إيّاهم من العالم وأظهر لهم على الجبل أنّه ابن الله. ولذا نقلهم إلى الجبل حتّى ينادي الآب الابن. أصعدهم إلى الجبل ليريهم قبل صلبه وقيامته مجد ألوهته الذي كان مخفي في جسده في ناسوته، فرأوا وجهه لامعًا كالبرق وثيابه بيضاء كالنّور، غير أنّ المخلّص لم يظهر لتلاميذه كامل مجده بل أظهر لهم ما يمكن لعيونهم أن تحتمل.
لماذا تمّ التّجلّي على الجبل وإلَامَ يشير؟ كلّ الأحداث المهمّة كانت تجري عادة على أماكن مرتفعة على جبال. بحسب ما يقول المسيح يسوع هو أتى ليبحث عن الخروف الضّال الذي ضاع في الجبال. إذًا المسيح صعد إلى الجبل لكي يظهر أنّه وجد الخروف الضّال الضّائع وحرّره من الخطيئة وأنّه الرّاعي الصّالح. وأيضًا يظهر الصّعود إلى الجبل أنّ كلّ الذين يريدون أن يروا مجد ألوهيّة المسيح عليهم أن يخرجوا من الدّناءة ويتخلّوا عن الأمور الخفيضة ويرتفعوا ويسموا عاليًا أيّ أن يتطهّروا من كلّ الأمور الأرضيّة التي تبقيهم مربوطين بالأرض.
أيضًا يعلّمنا الكتاب المقدّس ولاسيّما سفر المزامير أنّ الجبل يشير إلى الإيمان أو بمعنى آخر إلى الاتّكال على الله "فالمتّكلون على الرّبّ مثل جبل صهيون" (مز125/1 )، كما أنّه يعني مصدر المعونة الدّائمة من عند الرّبّ فيقول المزمور "رفعت عيني إلى الجبال حيث معونتي من عند الرّبّ صانع السّموات والأرض".
لذا للجبل مكانة بارزة في تعامل الله مع الجبل، وكثير من آيات الكتاب المقدّس تبرز لنا هذه المكانة الفريدة والمعنى الخاصّ للجبل، فعلى الجبل التقى الله موسى في حوريب، كما التقاه في جبل سيناء حيث العلّيقة المشتعلة بالنّار وكمّله وسلّمه الوصايا العشر مكتوبة على لوحي العهد.
فمن أعلى قمّة الجبل أقام الله عهده مع الإنسان بواسطة موسى بالوصايا، وعلى الجبل انتصر المسيح على الشّيطان، وهذا ما يسمّيه العهد الجديد جبل التّجربة. وكما صار عهد الوصايا على الجبل مع موسى هكذا يصير مع المسيح عهد الوصايا الجديدة لشريعة المحبّة المعلنة على جبل التّطويبات.
ومن هنا لم يترك المسيح أبنائه، بل أشبعهم من الطّعام. فهناك على الجبل حيث الجموع محتشدة بارك الخمس خبزات والسّمكتين "يوحنا 6/1"، وتجلّى لتلاميذه على جبل التّجلّي، وقد ظهر معه موسى وإيليّا وهذا الجبل دفع بالتّلاميذ إلى القول "حسن لنا يا ربّ أن نبقى ههنا". وعلّم الرّبّ يسوع تلاميذه الصّلاة (متى24/3) والصّلاة الحارّة بالبكاء والدّموع وصلاة الخضوع والبنوّة لله بقوله متى صلّيتم فقولوا "أبانا"، وهذا هو جبل الزّيتون إلى أن صار يسوع معلّقًا على الصّليب لأجلنا على جبل الجلجثة (يوحنا 19/17).
إذًا، لقد رأى التّلاميذ مجدَ إنسانيّة يسوع. وبتعبيرٍ أدَقّ، سمحَ يسوع لتلاميذه الثّلاثة بأن يَرَوا، لمدّةٍ محدودَةٍ من الزّمن، ما كانت إنسانيّته تتمتّع به من مجدٍ سماويّ.
لا شكَّ في أنّ يسوع إنسانٌ مثلنا، ولكنّه إلهٌ أيضًا. فكان من الطّبيعيّ أن ينعكس جمال ألوهيّته على إنسانيّته، ويَشعَّ جسده نورًا باستمرار، وهو يمشي بين النّاس ويعيش معهم. ولكنّ يسوع أخفى نور إنسانيّته عليهم ليتمكّن من الاختلاط بهم، وخصوصًا ليستطيع أن يتألّم ويُصلب ويموت لأجلِ خلاصهم. فاكتفى بأن يُظهِرَ هذا النّور مرّةً واحدة لتلاميذه الثّلاثة وحدَهم، وهو منفردٌ معهم على جبلٍ عالٍ لكي لا تُبصِرَهُ عيون البشر.
خشيةَ أن يذيعوا للنّاس، من دون فطنَةٍ ولا تروٍّ، خَبر تجلّيه على الجبل، فيكون كلامهم عُرضَةً للهزء أو للشّكّ، فيشوّهون بذلك شخصيّة يسوع ورسالته الرّوحيّة تشويهًا بليغًا. فاكتفى بثلاثةٍ من تلاميذه ليضمن كتمان الخبر إلى ما بعد قيامته من بين الأموات.
إذًا، إنّ الرّبّ عند التّجلّي قد أشرق مظهرًا المجد وضياء النّور الذي سيأتي به في اليوم الأخير لتلاميذه، بهذا النّور استضاء جسد المسجود له وكذلك ثيابه، فلقد أضاء وجهه كالشّمس وأمّا الثّياب فلأجل اقترابها من الجسد أصبحت هي أيضًا مضيئة. وبهذه الأمور أظهر لنا السّيّد المسيح ما هو لباس المجد الحقيقيّ الذي سنتوشّح به في الدّهر الآتي، الذي طرحه آدم بسبب المعصية فظهر عريانًا وشعر بالخجل .
في التّجلّي أعاد الله للإنسان لباسه الأوّل والحقيقيّ أيّ الجمال الأوّل متأمّلًا في المجد الإلهيّ، وأن يعاين مجد الله وملكوته .
بالتّجلّي أيضًا شعّ يسوع بمحبّته للبشر إذ دعانا من الظّلمة إلى نوره العجيب هو الشّمس التي لا تغيب وقد قال الكتاب: "النّور يظهر للصّدّيقين والفرح لمستقيمي القلوب" ( مزمور 77- 11).
ماذا نتعلّم أو ماذا يعلّمنا عيد التّجلّي؟ يا أحبّائي:
نتعلّم بأنّ المسيح هو الله وليس نبيّ مثل الأنبياء وليس شخص عاديّ معادي لله كما حاول اليهود إظهاره حيث تكلّموا معه عن خروجه أيّ عن صلبه الذي سيتمّ في أورشليم.
نتعلّم من عيد التّجلّي بأنّ طبيعة المسيح الإلهيّة المخفيّة بإرادته وراء الطّبيعة البشريّة يكشفها للّذين يطلبونه بقلب نقيّ .
نتعلّم من عيد التّجلّي أنّ طبيعة المسيح البشريّة هي ممجّدة ولن تتلوّث أبدًا بالخطيئة، وأنّ طبيعة المسيح البشريّة كانت ممجّدة عند لحظة الحبل به ولكن هذا المجد لم يظهر حتّى التّجلّي .
بالحقيقة السّيّد المسيح لم يُظهر شيء مخفيّ بل أعين التّلاميذ هي التي تجلّت روحيًّا وأصبحت قادرة أن ترى النّور غير المخلوق، والنّور الذي سينير دومًا ملكوت السّموات حيث لا يكون ليل أبدًا، ولا يكون ليل هناك ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس لأنّ الرّبّ الإله ينير عليهم ( رؤية 22:5) .
نتعلّم من عيد التّجلّي أنّ الطّبيعة البشريّة للإنسان قد تتأهّل، يعني الإنسان ممكن أن يصير قدّيسًا معاينًا لله بحسب النّعمة الإلهيّة. لهذا التّجلّي مهمّ جدًّا في تعاليم الكنيسة الأرثوذكسيّة حول الفداء والخلاص، لأنّه يظهر هدف وجود الإنسان وهو التّألّه ورؤية مجد الله ومجد ملكوته .
أخيرًا وصيّة عيد التّجلّي لكلّ واحد منكم :
كون المسيح هو إله كامل وأحد أقانيم الثّالوث القدّوس الذي تجسّد وأخذ الطّبيعة البشريّة الكاملة، يجب أن نعترف به كإله ومخلّص وأن نتبع وصاياه، وهذا أساس ما نطلبه في الصّلاة الرّبانيّة الذي علّمنا إيّاها الرّبّ يسوع.
إذًا هناك دعوة إلى كلّ واحد منّا ليحاسب ضميره ويطرح على نفسه بعض الأسئلة وبخاصّة على الذين يعتبرون أنفسهم من أبناء المسيح وكنيسته ويعملون في حقله، هل هم يحفظون وصايا يسوع بدقّة أم يخالفونها أو لا يبالون بها أو يتشاطرون أو يتذاكون بالحيل والمكايد الشّريرة ويدّعون بأنّهم يقومون بأعمال خيريّة بالظّاهر وهي شريرة في الباطن؟
هل يحاربون ما في داخلهم من ميول شرّيرة تدفعهم إلى نسيان وصايا يسوع؟
إذا لم نطع وصاياه هناك نهاية على الأرض تحت التّراب، أمّا إذا نطيع وصاياه فهناك نهاية ملكوت السّموات حيث هناك معاينة لله وللنّور غير المخلوق، فاختاروا لحياتكم نهايتها ما شئتم لكم كلّ الحرّيّة، آمين."