دينيّة
26 تشرين الأول 2025, 14:00

المسيحيّة والعالم

تيلي لوميار/ نورسات
"المسيحيّة غريبة في تعليمها وفي أهدافها وفي طبيعتها عن العالم ولكنّها وجدت ولا تزال موجودة من أجل العالم ولأجل تغيير العالم. إلّا أنّ ثمّة اختلاف جوهريّ قائم بين المسيحيّة والعالم، فهو أيضًا ضمن رسالة المسيحيّة وعملها لأنّها مسؤولة في جعل هذا الاختلاف لا يتعارض مع خلاص النّاس." بهذه المقدّمة استهلّ خادم وكاهن عائلة كنيسة الصّليب للرّوم الأرثوذكس في النّبعة الأب باسيليوس محفوض مقاله لهذا الأسبوع عن "المسيحيّة والعالم".

وتابع: "يقول الإنجيل أنّ "اللّه أحبّ العالم"، أحبّه كما كان وكما هو الآن ولا يزال يحبّه.

المسيحيّة هي ملح الأرض بمعنى أنّها ضرورة مطلقة في العالم تحفظ العالم من الفساد وتمنحه طعمه الإلهيّ رغم الصّراعات والحروب والبؤس في تاريخ الإنسانيّة. لذلك يحتاج العالم إلى أن يرتفع عن هذه الشّرور. ولذلك فالمسيحيّة ليست غريبة عنه ولا المسيحيّ عابر سبيل فيه. فالمسيحيّة هي بمثابة الرّئة التي يتنفّس بها العالم من روح اللّه وهي ضرورة حيّة فيه وبدونها يختنق ويموت حتمًا. ولكنّ المسيحيّة بدون العالم لا يمكن أن تقوم برسالتها.

عندما بدأ السّيّد يسوع المسيح يعلّم تلاميذه كيف يخدمون العالم ويحبّونه لم يعلّمهم أن يخشوا شرّ العالم "ها أنا أرسلكم مثل حملان بين ذئاب" (لوقا 10 - 3)، ولم يحرّضهم على أن يخشوا تيّاراته خوفًا على نورهم من شرّ العالم، بل دعاهم ودعا كلّ مؤمن به أن يضع نفسه على المنارة في أعلى مكان من دنيا الشّرّ وظلامه ليروا أعماله ويراه الجميع ويمجدوا اللّه. لقد حدّد المسيح دور الرّسالة المسيحيّة في العالم كما يتحدّد الملح للطّعام، إذ يلزم أن يذوب فيه ويتلاشى عن شكله وكيانه ويترك طبيعته المطهّرة تعمل وحدها. هكذا مات المسيح ليعيش العالم ثمّ قام ليقيم العالم معه. فالمسيحيّة تصير أداة تمليح حينما تكون مستعدّة لنشر رسالتها في أرجاء المسكونة. وعليها أن تفقد كلّ ميزة خصوصيّة واهبة ذاتها بعطاء كامل حتّى الموت لكي تموت كلّ يوم عن العالم، فتقوم ويقوم العالم بواسطتها لأنّها وهبت روح القيامة بعد أن قام المسيح.

لا عمل للمسيحيّة على الأرض سوى أن تحبّ المسيح وأن تموت عن الآخرين لكي تفرح جميع البشر بهذا الحبّ المحيي. حقيقة إنّ رسالة المسيحيّة ليست ذات مظهر أو كيان حيّ يمكن وصفها بالأعمال والأقوال بل هي رسالة سرّيّة غاية في الأهميّة لكنّها غير منظورة كما يقول بولس الرّسول "مستترة في المسيح" (كو 3- 3).

لهذا لا نتعجبن من ثبات رسالة المسيحيّة وقوّتها وانتشار رسالتها في المسكونة. أعظم برهان ساطع وبسيط على حقيقة رسالة المسيح هو التّغيير الأدبيّ الذي حصل عند البشر بواسطة تلك الرّسالة. فمنذ ظهور المسيحيّة تعلّم الإنسان حقيقة واجباته نحو اللّه ونحو قريبه ونحو نفسه "أحبب الرّبّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ عقلك وقريبك كنفسك" (لوقا 10 - 27). وبهاتين الوصيّتين يقول الكتاب المقدّس "يتعلّق النّاموس والأنبياء" (متّى ٢٢-٤٠)، أيّ أنّه فيهما يحتوي كلّ واجبات الإنسان نحو اللّه ونحو الآخر. ومن كلتا الوصيّتين معًا تخرج فضيلة إنكار الذّات التي بموجبها يترك الإنسان المسيحيّ جميع شهوات هذا العالم.

إستطاعت المسيحيّة أن تستأصل من قلب الإنسان محبّة الذّات وحبّ الذّات والبغض للآخرين، وأن تغرس بدلًا منها الاتّضاع حتّى إنكار الذّات وطول الأناة حتّى محبّة الأعداء والعفّة حتّى ترك شهوة العالم كلّها.

إذًا لا ارتياب في المسيحيّة ولا ازدراء بتعليمها الإلهيّ "تعال وانظر". نعم تعالوا وانظروا المسيحيّة هي التي أدخلت إلى العالم سلامة القلب وحرّيّة الضّمير. هي التي أبطلت العبوديّة ونشرت بين النّاس راية الحرّيّة ورفعت المرأة إلى مقامها الإنسانيّ بعد أن كانت قد أمست كسائر مقتنيات الرّجل، وهي التي ألغت قتل الأطفال عند الرّومانيّين. كما أنّها هي التي رفعت وهدمت الحواجز العرقيّة والجنسيّة التي كانت تفصل بين الأمم والشّعوب المختلفة. وهي التي أدخلت الآخاء والمساواة والمحبّة في كلّ الإنسان. أكبر برهان على قدسيّتها هم الرّجال القدّيسين والأبرار الذين يضيئون بنور المسيح البهيّ. قدّمت المسيحيّة لنا نموذجًا حيًّا للكمال وهو السّيّد يسوع المسيح مصدر الفضيلة والطّهارة ومثال القداسة للأجيال تقتدي به في كلّ زمان ومكان.

المسيحيّة ليست رسالة فقط بل هي شخص يسوع المسيح، وتعلمون أنّ الإنجيل ليس أوّلاً ما يقوله لنا المسيح بل هو بشرى التّجسّد. وقد ثبت للإنسان أنّه بدون المسيح لا يستطيع أن يحتفظ بميراثه الأخلاقيّ. وبدون المسيح قد ينجح الإنسان في عمل كلّ شيء، ولكنّه لن ينجح في حفظ طهارته وأمانته ومحبّة الآخرين بدون عيب حتّى النّهاية. لذا يجعل المسيحيّ المؤمن الممارس من المسيح العصب الرّئيسيّ المسؤول عن السّير والنّموّ في حياته لكي يصل إلى ملء قامة يسوع المسيح."