دينيّة
02 كانون الثاني 2016, 22:43

المنسينور قاشا يكتب..عذراً... لندرك أين وجودنا

في البدء إن الإرهاب يُكفّر المسيحيين ويقتلهم ويهدد حياتهم في العديد من مختلف دول العالم وتحديداً في الشرق الأوسط في العراق وسوريا ومصر ولبنان وليبيا... ونسأل من أين جاء هؤلاء الذين يتشدقون باسم الدين، والدين منهم براء، لينكلوا بالبشر والحجر دون حياء وأمام مرأى من أبناء البسيطة، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وربما بتواطئ من الجيران في مسيرة لاستعمار جديد يعيدنا إلى مآسي الزمن البائد وإلى نكبات المسيحيين أمام العثمانيين والسلاطين. فالوضع المربك الذي نحياه في العراق ربما سيطول لسنوات على مستوى طرد الإرهاب والداعش ثم البناء والإعمار والعودة وعلى جميع المستويات، وهذا يستدعي منا أن ندرك أين وجودنا وهل سنكتب مستقبلنا، أم سنرتكب خطيئة جسيمة.

 

أوهام فاسدة 
نحن اليوم في مواجهة أساليب إرهابية مختلفة التنوع وغريبة الأفكار، فما يلزمنا أن نواجه بعقلانية حاملين الحوار والحكمة في الكلمة وفي المسيرة، في وحدة هدفنا وليس تعداد نوعياتنا. فاليوم أقولها: لن يرحمنا التاريخ إذا كنا منقسمين حباً بكراسينا ومناصبنا وغير مبالين بفقراء شعبنا ومهمَّشي ديارنا وحاملي أفكارنا الذين أردناهم لنا عبيداً وإنْ أُشترينا بصدقة وحيكت مهامنا في زوايا الدنيا المظلمة، وإنْ قُدّست مهامُنا بسبب أوهام فاسدة لتدمير الأبرياء كما فعل بيلاطس يوم أدان المسيح الحي كلمة الإله، وجعله ضحية نفاق قيافا وحنّان وشكوى يهوّذا ونكران بطرس (متى 69:26)، ولكن البريء سار في درب الجلجلة ولم يبالي بكبار الزمن ورجال الحكم، ولم ييأس أبداً لأنه آمن أن الله لا يتركه (يو10:14)، وإن الآب الذي أرسله سيجده... وهذه الحقيقة لابدّ أن يدركها الذين على أرجل الزمن قاسوا قاماتهم وقوالب المناصب أهداب أثوابهم فكانوا هم، وليمت الضحايا الأبرياء وإلى غير رجعة ومن بعدهم الطوفان كما يقول المَثَل.

 

 الإرشاد الرسولي
ما قاله الإرشاد الرسولي للكنيسة في الشرق الأوسط في احتفال مهيب أُقيم بعد القداس في بيروت وترأسه قداسة البابا الفخري يبندكتس السادس عشر في الرابع عشر من أيلول عام 2012 وحمل عنوانً "شركة وشهادة"، وقد جاء في صفحاته ما نصّه:"الشرق الأوسط بدون أو حتى بعدد ضئيل من المسيحيين ليس الشرق الأوسط، لأن المسيحيين يشاركون مع باقي المؤمنين في صنع الهوية الخاصة للمنطقة. فالجميع مسؤولون عن بعضهم بعضاً أمام الله" (فقرة 31)... أمام هذه الفقرة يضعنا الإرشاد الرسولي أمام الحقيقة، حقيقة وجودنا. فالأرض أرضنا، وإفراغنا لها يعني هناك لا أرض شرق أوسطية. فالأصلاء _ وإنْ بعدد محدود _ هم أصلاء وما عليهم إلا أن يتمسكوا بأرضهم في عيش الرجاء وفي إبعاد اليأس مهما كانت طريق الزمن قاسية، ويحثهم على البقاء في الوطن وعدم بيع الأملاك (فقرة 31)، ويؤكد حقيقة الآلام والإضطهاد، فهو ضحية محتَمَلة لأي اضطرابات (فقرة 31).

 

 حقيقة وغفران
ما الذي صنعناه واقترفناه كي نُطرَد من بيوتنا وتُنهَب أملاكنا وأموالنا ونستوطن أوطاناً مختلفة خوفاً، هل لأننا أمناء لإيمان المسيح الناصري أم لأننا أوفياء لحب أرضنا وتربتنا؟ ... فما الذي صدر عنا؟، هل لأننا حملنا شعاراً ملؤه المحبة والحقيقة والغفران؟، هل لأننا أردنا بحضارتنا أن نجدد الأرض بروح رب السماء؟، أليس الذي حصل هو اضطهاد لمكوِّن، وتدمير لحضارة عريقة، واقتلاع لجذور أصيلة؟، هل الحقيقة أن ما حلّ بنا من حقهم في غزوات عفا عليها الزمن؟، وهل حقيقة العيش هي في النهب والسلب وقتل الآخر وتدمير البريء في مصالح إحصائية فاسدة؟، فالأملاح قاتلة للبشر بارتفاع ضغطها، والمصالح آفة لذبح الأبرياء في تقسيم الأرض وتشتيت الأبناء.
 
 الهجرة مرة أخرى
وإنْ كان الحديث عنها قد فات زمانه، فالبلدان قد إرتوت من عرق جبين المهاجرين الذين ضحّوا بالغالي والرخيص، فعبروا البحار والمحيطات من أجل البقاء، ولكن الحقيقة لم يكن بإمكانها أن تُزيَّف، فهو خائف على عائلته وأولاده وأمواله، فهو ينشد بلداً ملئ بالإنسانية غير بلده... وهذه حقيقة مؤلمة في أن نكون أو لا نكون. وما يؤلمني أن أكتب _ كما قلتُها سابقاً _ يكفي لي أن أعمل صباغاً للأحذية أهون لي من أن أعيش هنا... فهم ينشدون مستقبلاً في بلدٍ آمن بدلاً من رقصة الجوبية وبقلاوة نينوى، وهذه كلها أصبحت أملاك الداعشيين الإرهابيين. وكنيسة الطاهرة والدير الأعلى وبهنام وسارة ويونان (يونس النبي) ترسم العذابات التي قاسها مسيحيو الموصل ومدنها وقُراها، والعالم يتفرج وكأننا أمام وحوش كاسرة تفترس مَن تشاء وتهدم ما تشاء.

 

 التاريخ شاهد 
المنطقة بشكل عام، والعراق بشكل خاص، تشهد تطورات مخيفة ومرعبة، وممكن أن تكون مدخلاً لحرب كونية جديدة، وعراقنا لحد اللحظة لا يعرف أين هو من كل هذه الأحداث وما يجري من دوامة مخيفة، والنار تأخذ ذيول أثواب الشعب قليلاً فقليلا، فهو يفكر في عدة خيارات بل خيارات عدة، فهم يرحلون عنوةً وغصباً بسبب داعش ومسيرته المميتة، وآخرون فقراء في صراع ونزيف الدم وكأنه عقاب ليس فردي بل جماعي. فشعب بأكمله، ومواطنو مدن وقرى بأعدادهم يُرحَّلون والتاريخ شاهد وبئس تاريخ لا يحكي الحقيقة، فأفرغوا البلد من الكفاءات والثقافات وحاملي العقول والعلوم وصانعي التاريخ، وأصبحوا نكرات في شوارع المدن وساحات الدول، ولم يعد أحد من الساسة يفكر ماذا يأكل الشعب وماذا سيشرب، ليس هذا المهم، فاحتلال أرضنا حصل دون إرادتنا واحتلال عقولنا مآرب ومصالح، ويبقى المهم مَن الجالس على الكرسي بل الكراسي، ومَن يعانق المنصب أو يبتلع لكي لا يظهر أنه المصيبة، ومسيرة المشروع الطائفي يسير قُدُماً ليسكن في قلوب كبار الزمن بمختلف أديانهم وطوائفهم ومحسوبياتهم وقومياتهم، وهمهم أن يبيعوا الهوية العراقية، هوية الحقيقة، بفساد الزمن والمصلحة ،من أجل هوية أنانية ودنيوية، بدلاً من ان يكونوا شهوداً لحقيقة الكلمة، وكنا نحن ولا زلنا الضحية لِسِمان البطون، والشهية لحاملي السيف والساطور، ومسحوا هويتنا وكم كانوا يتمنون أن يقولوا لنا "إرحلوا"، وقد رحلنا حقاً ومُسحت أسماء قُرانا وسكنانا وأصبحنا من المتوطنين ليس إلا!.

 

 الخاتمة 
رسالتنا هي اللقاء مع الله في مسيرة أديان غايتها خدمة الإنسان من أي دين أو طائفة انتمى. فدعوات التهجير والقتل ومصادرة الأملاك وتهديد المكوِّنات بمختلف أجناسها ما هو إلا خطر يمحو وجود الإنسان مع تشويه الأديان في حمل عنفوان التكفير والإرهاب... لذا فرسالة الأديان هي واحدة عندما تلتقي في الإله الذي أحبنا حتى النهاية، وهذا الحب شهادة يحمل إلينا احترام الآخر، ويجعله أمانة في أعناقنا، وذمة في مسيرة حياتنا... هذا ما ننشده بدلاً من رقصة الجوبية ليس إلا!. فالرقص حركة تنتهي بساعاتها أما الأمان فرسالة تدوم مدى حياتنا، فهل أدركنا أين وجودنا، وبُعدَ هدفنا، ورسالة إرشادنا الرسولي، أمام الذي يحصل فينا، أم بعدُ لا زلنا نراوح في مكاننا، كي نحصد ثمار مصالحنا، من حقل لم نتعب فيه!!. إنها مأساة الزمن الفاسد، ألا يكفي تزوير الحقيقة، فالحقيقة شهادة وحرية (يو 31:8)، نعم شهادة وإن بيعت لمصالح من أجل تشويهها، والحقيقة حينما تقال، يكون قائلها قريباً من الله، إنها المسيح الحي، الذي سكن بيننا... نعم، فلندرك أين محلنا ووجودنا، ولا نَخَف المصالحَ مهما كان البحر مالحاً، وكل عام والجميع بخير، وبركة رب السماء تحل علينا جميعاً، الرحمن الرحيم، نعم وآمين. 
 
*المنسينيور بيوس قاشا