دينيّة
15 آب 2025, 13:00

صوم ورقاد السّيّدة

ما هو صوم السّيّدة العذراء؟ كيف أصبح ضمن الأصوام المعمول بها بحكم القانون الكنسيّ؟ وما علاقته بعيد رقاد السّيّدة؟ الإجابات في مقال جديد لخادم وكاهن عائلة كنيسة الصّليب للرّوم الأرثوذكس في النّبعة الأب باسيليوس محفوض، وفيه يشرح:

"صوم السّيّدة العذراء هو من الأصوام المهمّة والمحبوبة لدى فئة كبيرة من المسيحيّين الممارسين مسيحيّتهم، ويكاد يقال إنّ الشّعب المؤمن هو الذي وضعه وفرضه على روزنامة الكنيسة لأنّه حتّى القرن الحادي عشر لم يكن ضمن الأصوام المعمول بها بحكم القانون الكنسيّ، كما لا نجده في أيّ قانون من قوانين الصّوم. وكان هذا الصّوم معروفًا بصوم العذراى ويعتبرونه كسند للطّهارة والتّبتّل، لهذا أكثر من يصومه هم المتنسّكون والرّهبان. وهكذا بات الشّعب يمارسه على كافّة المستويات جاعلًا منه مناسبة لتجديد الحياة الرّوحيّة وفرصة للتّوبة وجعل مريم العذراء من هذا الصّوم ليس المثل الحيّ للطّهارة والتّبتّل بل الشّفيع المؤتمن لنوال القوّة والنّعمة من الله لسلوك هذه الحياة.

إذًا سرّ هذا الصّوم يكون في شفيعته، فالعذراء شفيعة مقتدرة لكلّ من يلتجئ إليها لجوء الإيمان والرّجاء والمحبّة، وهذا ما يبرز في كنيستي صورة من أروع الصّور الرّوحيّة على إمكانيّة التزام الشّعب بهذا الصّوم بدون التزام أو توجيه يكاد يوحي لنا أنّ هذا الصّوم دخل إلى قلب الشّعب من مدخل صحيح وعن حبّ واقتناع.

 

للعذراء في كنيستي مكانة رفيعة ومميّزة في اللّيتورجيا ولذا لها خمسة أعياد تتعلّق بها مباشرة: عيد مولدها (8 أيلول)، عيد دخولها (21 ت2)، عيد دخول السّيّد إلى الهيكل (2 شباط)، عيد بشارتها (25 آذار)، عيد رقادها (15 آب). يضاف إلى هذه الأعياد الرّئيسيّة عدد آخر من الأعياد المرتبطة بمريم العذراء.

تاريخيّة العيد:

لم يذكر الكتاب المقدّس شيئًا عن انتقال العذراء بالجسد والنّفس ولا عن تقديم العبادة الدّينيّة إلى مريم العذراء. نعم أنّها دعيت من الملاك ممتلئة نعمة الرّبّ ومباركة في النّساء وهي نفسها إذ حلّ عليها روح الله ولكن لا ينتج من هذه العبارات أن تكون موضوع العبادة لكن من حيث هي والدة ربنا يّسوع المسيح وقد وجدت نعمة الرّبّ تستحقّ منّا كلّ الإكرام والتّمجيد لأنّ التّكريم ليس هو العبادة، العبادة هي لله الرّبّ يسوع المسيح.

إلّا أنّ الآباء في ميامرهم (عظاتهم) كثيرًا من آيات الكتاب المقدّس تدلّ على انتقال العذراء مثلا كقول داود : "قم يا ربّ إلى راحتك أنت وتابوت قدسك" (المزامير 131 – 8 ) أنّ تفسير الآباء يذهب إلى أنّ المسيح قد أدخل إلى السّماء الجسم الذي منه ولد ولادة زمنيّة، أيضًا "قامت الملكة من عن يمينك بألبسة مزخرفة منسوجة بخيوط مذهّبة". نرى في هذه الآية مريم موشاة بحلّة ملوكيّة قائمة على يمين السّيّد. وأيضًا هناك آية من رؤية يوحنّا : "وظهرت علامة في السّماء امرأة ملتحفة بالشّمس وتحت قدميها القمر وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبًا".

إنّ تلك الآيات لا تنطبق على انتقال مريم العذراء إلى السّماء إلّا بالمعنى الرّمزيّ، أمّا المصدر الذي استقى منه الآباء خبر صعود مريم العذراء إلى السّماء فهو الكتاب الذي كان متداولًا لدى جماعة الغنوصيّين في القرن الثّالث الذي يورد خبر رقادها وصعودها وهو من جملة كتب الابوكريفا التي تحمل سيرة مريم العذراء والتي أخذت عنها الكنيسة. فهكذا بدأت الكنيسة تتداول هذه الرّواية في السّنين الأولى بتحفّظ شديد ما بين القبول والرّفض حتّى القرن السّادس. 

ولكن بسبب ظهور البدعة النّسطوريّة تقبّلت الكنيسة كلّ ما يختصّ بتمجيد العذراء وكرامتها من التّراث التّقليديّ المتوارث، لذا قام كثير من الآباء بتثبيت هذه الرّواية في كتاباتهم وعظاتهم ومن أبرزهم القدّيس مودستيوس الأورشليميّ واندراوس الكريتيّ. وفي أواخر القرن السّادس كتب القدّيس غريغوريوس الكبير كتابه في الأسرار نقرأ فيه عن رقاد مريم وصعودها. وفي أواخر القرن السّادس أيضًا كتب القدّيس غريغوريوس أسقف تور كتابًا بعنوان بمجد الشّهداء وقال فيه : " ... إنّ الرّبّ رفع جسد البتول ونقلها بين السّحب إلى السّماء". وأيضًا هناك عظات شهيرة تشهد لهذا العيد ألقاها القدّيس جرمانوس بطريرك القسطنطينيّة والقدّيس يوحنّا الدّمشقيّ. كما تكلّم عنه يوحنّا التّسالونيكيّ في النّصف الأوّل من القرن السّابع، والقدّيس انسلم تكلّم أيضًا عنه.

هكذا تكون بداية القرن السّابع ونهاية القرن السّادس وضّحتا فكرة انتقال العذراء إلى السّماء. أمّا في القرون الأربعة الأولى، فليس من شهادة تتكلّم عن انتقال العذراء سوى فقرة من كتاب الأسماء الإلهيّة المنسوب إلى ديونيسيوس الاريوباجي، وقد وجدت أيضًا في تاريخ يوسابيوس القيصريّ آية تقول : إنّه في السّنة 48 من الميلاد أخذت مريم شخصيًّا إلى السّماء بحسب ما وجد مدوّنًا عن أشخاص شهدوا أنّ ذلك أعلن لهم شخصيًّا". وهناك عظة منسوبة إلى المغبوط اوغسطين لكن البعض يقول إنّها تعود إلى القدّيس جيروم.

أمّا سبب قلّة المعلومات والاهتمام بانتقال مريم إلى السّماء وظهوره "عيد الرّقاد"، إلّا في القرن السّادس وليس قبله يعود إلى أنّ الكنيسة كانت تخشى من أنّ التّفريط بتكريم العذراء يؤدّي بالمؤمنين إلى التّفريط في عبادة الأصنام شأن الوثنيّين الذين عبدوا كثيرًا من والدات الآلهة الكاذبة لذا لم تكثر الكنيسة من التّكريم حتى لا يعبدوها المسيحيّون لأنّ العبادة لا تجب إلّا لله وحده فقط. وهناك سبب أخر يعود إلى الاضطهادات التي عانت منها الكنيسة، إذ لم تمارس كلّ طقوسها وعبادتها إلّا بعد انتهاء الاضطهادات العشر الكبرى. 

إذا الاعتقاد بانتقال مريم العذراء إلى السّماء قديم جدًّا يعود إلى أيّام الرّسل، لولا ذلك لما كانت الكنيسة جمعاء تحتفل به. أوّل من حدّد هذا العيد في 15 آب وأمر أن يحتفل به في كلّ المشرق بمزيد الحفاوة والتّكريم الإمبراطور موريتيوس سنة (600). وفي السّنة نفسها أصدر البابا غريغوريوس الكبير أمرًا بالاحتفال بالعيد، وكان يحتفل به في الغرب قبل هذا التّاريخ في (18 كانون الثّاني). أيضًا البابا ثاوذورس الأوّل أدخله إلى روزنامة الكنيسة في روما وفي القرن السّابع أضاف البابا سرجيوس زيّاحًا ليزيد من العيد رونقًا وبهاء. وفي القرن التّاسع جعله البابا لاون الرّابع من الأعياد التي يحتفل بها ثمانية أيّام، ويكون هناك أيضًا وداع للعيد ثم أضاف سهرانيّة رهبانيّة وصيامًا مدّته أربعة عشر يومًا (1- 15). كرّس الإمبراطور اندونيكوس كلّ شهر آب لتمجيد والدة الإله وإكرامها، وكان ذلك في السّنة (1297).

لذلك تدعو كنيستي هذا الشّهر (آب) شهر مريم العذراء والدة الإله الكلّيّة القداسة، عيد الرّقاد، ذكرًا لها وهذا هو الدّافع الرّئيسيّ الذي جعل لشهر آب طابعًا مريميًّا. الأيّام الأولى (14 يومًا) ما هي إلّا تقدمة للعيد، والأيّام التّالية حتّى الوداع ما هي إلّا امتداد لهذا العيد العظيم.

لاهوت العيد :

يشير عيد الرّقاد (اختيرت كلمة "رقاد " إشارة إلى وفاة مريم العجيبة المجيدة لأنّ وفاة أم ابن الله لا يمكن أن تكون وفاة عاديّة مثل وفاة سائر النّاس) إلى حدثين يصعب فصلهما في إيمان الكنيسة : موت العذراء وثانيهما قيامتها وصعودها إلى السّماء، غير أنّ إعلان مريم والدة الإله في مجمع أفسس (431 ) مهّد الطّريق لتفهم وفاتها، مع العلم أنّ كنيسة أورشليم أقامت عيد ذكرى السّيّدة مريم نحو (425) قبل مجمع أفسس، فمن الأكيد إذًا أنّها كانت ترى مريم في المجد السّماويّ.

لذا فهمت الكنيسة منذ مجمع أفسس أنّ بين الأم والإبن وحدة مطلقة، مع أنّ مريم هي في الأرض وفي الزّمان في حين أنّ المسيح هو في السّماء وفي الأبديّة. إذًا تؤمن الكنيسة بأنّه لا بد لابن الله الذي اتّخذ طبيعته البشريّة في حشا البتول أن يدخل خادمة التّجسّد أمّه في مجده.  لقد تجسّد ابن الله من والدة الإله وأصبح ابنًا للإنسان قابلًا للموت، أمّا مريم فصارت أمًّا لابن الله وحصلت على المجد. وعلى هذا الأساس لم تنل مريم العذراء فساد القبر والموت، وهكذا لم يستطع أيّ شيء أن يفصل بين الأم والابن حتّى في الجسد.

إنتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها هو نتيجة لعمل الرّوح القدس فيها، فهو الذي حلّ عليها وأحيا جسدها لتصير أمًّا لابن الله. هو نفسه يكمل عمله فيها فهو الذي حلّ عليها وأحيا جسدها لتصير أمًّا لابن الله، هو نفسه يكمل عمله فيها ويحي جسدها المائت وينقله إلى المجد.

الرّوح القدس هو قدرة الله المحيية التي لا توقفها أيّ شدّة. بهذه القدرة كان يسوع يشفي المرضى ويخرج الشّياطين ويقيم الموتى، وبهذه القدرة أيضًا قام هو نفسه من الموت، وبهذه القدرة سيقيم الأموات ولأنّ مريم العذراء كانت بكليّة مستسلمة استسلامًا كاملًا لعمل الرّوح القدس. آمن المسيحيّون الأوائل أنّها حصلت حالًا بعد موتها على قيامة الجسد التي هي مصير كلّ المؤمنين في نهاية الزّمن.

إنّ صعود مريم العذراء إلى السّماء هو تكريم مباشر للبشريّة كلّها التي صار لها مثل هذا الاستحقاق بأن يكون جسدها وهو مثيل لأجسادنا. هذه الكرامة والمجد المسبق عربون وبرهان لقيامة عتيدة أن تجوزها أجسادنا جميعًا حينما ننال تغييرًا مماثلَا برحمة الله ونعمته لنكون على صورة جسد تواضع الرّبّ القائم من الأموات.

كلّ مؤمن سيخلص بالجسد وسيضمّه الرّبّ إليه ويرفعه من وهدة الهلاك والفساد، هكذا يعوضنا الرّبّ يوم الافتقاد عوض أنين ودموع وعوض مرارة التّوبة وأحزانها أن يرفعنا إليه بروح نعمته وبقوّة قيامته أن نشترك في ملكوته."