ثقافة ومجتمع
13 نيسان 2016, 06:22

قصة اليوم : العم راضي

العم راضي رجل طيب عاش في القاهرة فى منطقة جزيرة بدران حتى وفاته فى بداية السبعينيات من القرن الماضي. كان رجلاً عادياً يخرج كل يوم إلى عمله، ويراه أهل شارعه في ذهابه وإيابه، ولا يعلم أحد منهم أي عظمة يحملها هذا الرجل.

تزوج عم راضي في شبابه شابة جميلة ملأت حياته بهجةً وسروراً، ورزق منها بطفليه الصغيرين، ولم يكن هناك ما يعكر صفو حياته، ولم يكن يدري ماذا تخبىء الأيام لهذه الأسرة السعيدة. فما مرت أعوام قليلة على حياتهما الهانئة حتى نكبت الأسرة بمرض الزوجة الشابة، وجاء تشخيص المرض صادم، إنه نوع خطير ومزمن من ضمور العضلات، فما هي إلا شهور قليلة حتى كانت الزوجة طريحة الفراش لا تحرك ساعداً أو ساقاً، وهنا بدأ إختبار معدن هذا الرجل العملاق .

كان عم راضي يبدأ نهاره مبكراً جداً، يبدأه راكعاً بجوار سرير زوجته مرنماً مزامير صلاة بصوت رخيم مسموع حتى تشترك زوجته معه في الصلاة، ثم يعدّ طعام الإفطار لطفليه، ويعتني بأمر إستحمام زوجته وتغيير فراشها، ثم يحملها مرة أخرى إلى سريرها ليقوم بإطعامها بيده، ثم يصحب طفليه إلى مدرستهما، وحينما يعود من عمله يعيد ما عمله صباحاً، ثم يحمل زوجته على كرسيها إلى شُرفة شقتهما المتواضعة، وهي جسد هامد لا يتحرك فيه سوى اللسان والعينين، حيث يعدّ لها الشاي ويأنس بمجالستها، ويفرح بحديثها الهامس البسيط، ويحكي لها كل ما يسر قلبها، ملقياً عنها أي إحساس بالضيق أو كآبة المرض. لم يضجر مرة ولم يحتج، لم يشتك قط، بل كان دائم الإبتسامة أمامها وأمام الناس .

هل تعلم كم من الزمن مرَّ على عم راضي وهو راضٍ بما قسم الله له ؟ ثمانية عشر عاماً، نعم، ثمانية عشر سنة كبر خلالها طفلاه، وكبر حبه لزوجته المشلولة ولم يكن يعكّر صفو حياته إلا بعض من أقاربه الذين طالما رددوا على مسامعه قائلين: لماذا ترضى بهذه العيشة؟ كيف تدفن نفسك بهذا الشكل؟ أودعها فى مصحة أو دار رعاية وهم قادرون على رعايتها! نحن نساعدك على الحصول على الطلاق! لماذا تعيش هذا القهر ما زلت في عز شبابك.."  
لكنه أغلق الباب أمام كل هذه التعليقات تماماً، بل وقاطع بعضاً من أقاربه الذين ألحوا عليه فى هذا الأمر، حتى أنه صرخ فيهم مرة "لن يجرؤ أحد أن يهدم هذا السر المقدس الذي يربطني بزوجتي، إنها جسدي، إنها لحمي، كيف تقطعونه مني؟ وهل كنتم ستقولون مثل هذا الكلام لزوجتي لو انعكس الحال وكنت أنا المريض؟  من يدخل بيتي عليه أن يحترم السر المقدس الذى أقيم عليه هذا البيت". كان يتكلم بكل قلبه كمن اختبر سر المسيح الذي أحب الكنيسة كجسده وارتفع بسر الزيجة المقدسة إلى مستوى سر حبه

توفت الزوجة بعد أن أكمل العم راضي الرسالة معها كاملة، كبر الأولاد، وإنفضت المسؤوليات، فعاد الأهل إلى نصيحتهم له بالزواج! وألحواوكانت الضغوط أقوى من أن يحتمل الرجل، فرضخ للأمر، حيث إختار له الأقارب "عروسة" جديدة، وتمّت الخطبة فعلاً وسط فرحة الكل، إلا العم راضي، فلم يكن قلبه راضياً  وفوجئ الجميع بوفاته بعد أسبوع واحد من الخطبة وهو في كامل صحته، وأبى إلا أن يكون معها فى السماء وكأنه يقول للجميع إن الروح أعظم من الحرف، والوفاء أسمى من الناموس، وإن ما جمعه الله لا يفرقه إنسان.