دينيّة
04 كانون الأول 2015, 22:00

من تاريخ المدينة المقدّسة “أمّ الأمم”! بقلم الأب د. بيتر مدروس

صدق النّبيّ داود إذ كتب عن القدس : “الله يكتب في لائحة الشّعوب: إنّ هذا وُلد فيها وذاك… ويترنّمون: إنّ فيكِ ينابيعنا” أي منك مصدرنا. وكتب إشعيا بإلهام من الله ووحي منه تعالى: “من أوروشالم تخرج الشّريعة”. وفعلاً التقت في هذه المدينة وما تزال معظم شعوب المعمور بحيث لا يجوز أن يسيطر عليها قوم باحتكار ولا يسيئوا معاملة الآخرين باحتقار. وفي الأيّام الماضية تجلّت مركزيّة القدس كما تتجلّى دومًا كقلب القضية الفلسطينية وأولى قضايا العروبة – وإن كانت نكبات سورية والعراق وليبيا واليمن وسواهما خطيرة أليمة. ولا مجال لتحليل سياسي وتاريخيّ ليس من إلمامنا في هذا المنبر، يربط كل هذه المآسي بالقضيّة الأولى. ويعرف المرء شأن القدس مسيحيًّا وإسلاميًا: الكلام هنا عنّا نحن معشر العرب.

 

سطعت مركزيّة القدس مرّة أخرى في حضور قداسة الأنبا تواضروس الثّاني لتشييع جثمان نيافة الأنبا أبراهام الأسقف القبطي الأرثوذكسي في القدس وسائر فلسطين والأردنّ. ومنطقيًّا لدى أشقّائنا الأقباط الأرثوذكس يتقدّم كرسي القدس على سائر الكراسي، ولا عجب فهي مدينة الفداء والقيامة وهي “أمّ جميع الكنائس” وما روما والإسكندريّة وإنطاكية والقسطنطينيّة سوى فروع انطلقت من الشجرة الأمّ، “كنيسة الرسل والشهداء والمدافعين والمعترفين”.
الحضور القُبطيّ في القدس والعالم
يضيق هنا المقام لسرد ولو سريع لشأن الشّعب المصريّ في العالم القديم وفراعنته وتراثه. وقدّر الله العالم الفرنسي “شامبليون” في فكّ رموز الكتابة الهيروغليفيّة أي “المقدّسة الكهنوتيّة”. وعن طريق “حجر رشيد” وبفضل اللسان القُبطيّ المستخدم في الطقوس الدينية المسيحيّة استطاع شامبليون والذين تبعوه في الأبحاث أن يفهموا فحوى النصوص الهيروغليفيّة. وتألّق المصريّون القدماء بعلوم وفنون لا نستطيع أن نجاريها حتّى في عصرنا، ومنها طريقة تحنيط الموتى وسرّ بناء الأهرامات ومقياس مياه البحار والأنهار المعروف باسم “نيلومتر”(ونجده في كنيسة “تكثير الخبز والسمك” في “الطّابغة” بقرب بحيرة طبريّا، وهي الكنيسة التي أحرق قسمّا منها نفر من اليهود الحاقدين). ولا ينسى المرء أنّ مصر وطن”هاجر” والدة إسماعيل ابن إبراهيم.
وتألّقت مصر بإنسانيّة سامية ولا سيّما بإكرامها للمرأة وتسليمها أحيانًا المُلك، حسب البكوريّة. وسعى أمنحوتب الرابع الذي بدّل اسمه إلى “أخناتون” – سعى إلى التوحيد أو إلى عبادة قريبة من التوحيد. لذا، ما كان غريبًا أن يجد كليم الله موسى في بعض البيئات المصريّة القديمة تجاوبًا مع فكرة الإله الواحد. ويبدو أن اليهود نقلوا – بعد التنقية والتشديد على التوحيد – عناصر من الهيكل المصريّ لتساعد في شكل الهيكل الذي استعان سليمان الحكيم لتشييده بحيرام الصوري الذي كان ابن الملك وأرملة يهوديّة، وذلك من أجل الأرز وسائر الأخشاب.
يذكر الإنجيل المقدّس أن الأسرة المقدّسة المكوّنة من يسوع ومريم القديسة وخطيبها العفيف مار يوسف نزحت إلى مصر خوفًا من هيرودس الكبير الآدوميّ المتهوّد، باكورة مضطهدي المسيح والمسيحيين. وتورد تقاليد أنّ أصنام قوم الفراعنة تحطّمت لدى مرور العائلة الطاهرة بقربها. واعتنقت مصر المسيحيّة، على ما يبدو، على يد القديس مرقس البشير تلميذ مار بطرس و”ترجمانه” بل “ابنه الروحانيّ كما كتب أمير الرسل (عن بطرس الأولى 5: 13). وهنا كلّلت المسيحيّة الحضارة الفرعونيّة بالطرق السلميّة، وإن كانت هنالك بشكل استثنائي أحداث عنف لأن قوم الإنجيل ضاقوا ذرعًا بالخرافات الفرعونيّة أو حسبوا الفلسفة والفكر الفرعونيين ولا سيّما النسائيين ضربًا من الكُفر. وُلدت اللغة والليتورجة القبطيّة تحفة في التقوى والأدب، وقد غيّرت الكنيسة الأبجديّة من الهيروغليفيّة إلى “القُبطيّة” أي إلى الأحرف اليونانيّة، تيمّنًا بالإنجيل المقدس وسائر العهد الجديد الذي كُتب في اليونانية وكانت اللسان الدولي آنذاك. ونقصت في اللغة اليونانية سبعة أحرف- ولا سيّما الحنجريّة الحلقيّة- فاخترعتها الكنيسة وبقيت الفرعونية القبطيّة لسانًا حيًا حتى القرن السابع الميلادي والقرون التالية. ويظهر أنّ قرية واحدة في مصر تنطق القبطيّة حتّى اليوم. وازدهرت مدارس اللاهوت وظهر فيها عاليًا نجم أوريجانس الإسكندريّ والبطريرك “الرسولي” أثناسيوس من قبله، المدافع عن طبيعة السيد المسيح، وكيرلس الإسكندري الفيلسوف، وغيرهم كثر. وعُرفت المدرسة الإسكندرية بالتأويل الرّمزي للكتاب المقدّس ولأحداث تاريخ الخلاص أكثر من تمسّكها بالتفسير الحرفيّ. ونشأت على هامش الكنيسة حركات “المعرفة” المزيّفة المعروفة باللفظة اليونانية “غنوسيس”. وهكذا في نجع حمّادي كشفت الحفريات عن أدب غنوصيّ مكتوب في اللسان القُبطيّ ما اعترفت به الكنيسة ولا المنطق يومًا أنه من كلام الله وذلك لمخالفته العقل السليم والحسّ القويم. فمن مصائب ذلك الفكر الهرطوقيّ (والهرطقة كلمة يونانية تعني “تمزّق”) حسبانه جسد الإنسان شرًّا والزواج (الذي حلّله الله بين رجُل وامرأة) شرًّا مضاعفًا والإنجاب شرًّا متكرّرًا لا حدّ له ولا شفاء منه! ووردت في شأن مريم المجدليّة عبارات غريبة عجيبة إذ يُنسب إلى السيد المسيح قوله في شأنها : “سآخذها إليّ وأحوّلها إلى رجُل، فما من امرأة تدخل الفردوس إن لم تتحوّل إلى رجُل”. وكان نفر من ناقصي “المعرفة” قد طبّلوا لذلك الأدب “الغنوصيّ” وزمّروا، متوهّمين عن حسن نيّة وسوء اطّلاع، أو كان غيرهم غير نزيه الوجدان، متأمّلين أن يحلّ ذلك الأدب غير المتّزن مكان الإنجيل الطاهر.
وعودة إلى فلسطين حيث أسس أوريجانس العلاّمة في قيصريّة البحر مدرسة لاهوت وتفسير للكتاب المقدّس كانت مركزيّة للمسيحيّة الأولى. وبعد الانشقاق سنة 449 م بين روما والإسكندرية وإلى ايامنا بقيت جالية قُبطيّة في القدس تحتفظ بحرص شديد على مكان متواضع في كنيسة القيامة وبقرب كنيسة المهد. ولابنتها الكنيسة الحبشية أيضًا مكان في هذه المقدّسات تفتخر به وتحافظ عليه حفظ الحدقة بنت العين!
ونعرف من كتب التاريخ عن دخول العروبة والإسلام إلى مصر بحيث لا يتطفل المرء هنا على أهل تلك العلوم. ولكن يكفي هنا، على سبيل المثال لا الحصر، أن يلحظ المرء ان اسم “متسرايم” في العبريّة مثنّى ولعلّه يعني “مصيبتان” أو “ضيقان” (وما هما؟) في حين فضّلت العربيّة المفرد، وجعلت “مصر، أمصار” مرادفة ل “بلد، بلاد”. وفي شأن الشكل اي الحركات على القاف الأولى، تجدر الإشارة إلى أنّ الإنسان المصريّ القديم والمسيحيّ والإنسانة القديمة والمسيحيّة  هما قِبطيّان بالكسرة، في حين أن كلّ الاستخدامات المعنويّة تُكتَب بالضمّة وكذلك تُلفظ، كقولك الكرسي القُبطيّ، والكتاب والتاريخ والتراث القُبطيّة. وهذا لعمري من إعجاز لسان العرب!
خاتمة
جمعت القدس أيضًا في هذه الأيام المئات من الفرنسيين وسواهم محتفلين بمرور مئة وخمس وعشرين سنة على تأسيس “مدرسة الكتاب المقدّس والآثار الفرنسية”، “المدرسة البيبلية” التي كان قد أسسها سنة 1890 الأب الدومنكاني العبقري العالم الراحل  جوزف ماري لاجرانج. وتحضن القدس في جناح الكنيسة الكاثوليكيّة ثلاثًا من أشهر مدارس الكتاب المقدّس في العالم وهي معاهد تألّقت في التبحر العلمي والتدقيق في الآثار وهي : “مدرسة الكتاب المقدس للآباء الدومنكان” المذكورة آنفًا، “والمعهد الحبريّ للكتاب المقدس” في القدس الغربية للآباء اليسوعيّين، و”معهد حبس المسيح” للآباء الفرنسيسكان حرّاس الأراضي المقدسة ومقدساتها المسيحيّة. ويا ليت العدل والسلام والاستقرار تزيّن زهرة المدائن التي تتألق في سمائها المسيحي كلّ هذه الأنوار العلميّة التقويّة، ناهيكم عن المقدسات الإسلامية ومنارات الحضارة الإسلاميّة في بيت المقدس. ولكننا نرى بواقعيّة ليس فقط الحزن على حبر قُبطيّ جليل بل الظُّلم والإحباط والحرمان في وجوه أطفال القدس وسائر أهلها، وهي المدينة “كثيرة الشعب التي جلست وحدها، فكيف أمست كأرملة العظيمة في الأمم، سيّدة البلدان أمست تحت الجزية؟” (المراثي 1:1).