"بين الإيمان وَالخرافَة": نظرةٌ أُرثوذكسيّةٌ إلى طرد الأرواح الشّرّيرة والعين الحاسدة
"في لحظات الضَّعف والمرض، يلجأ البعض إلَى طقوس الرُّقية الشَّعبيَّة، بحثًا عن الشّفاء ودفع العين الحاسدة. هذه الظَّاهرة، المتجذِّرة في الاعتقاد بقدرة قوى خفيّةَ على التَّأثير في حياتنا، تستدعي الوقوف على موقف الكنيسة منها، لفهم صحيح الإيمان وممارسته.
تؤَكِّد الكنيسة أَنَّ الشَّرَّ في العالم ليس له أصلٌ في طبيعة الخلق، بل هو نتيجة اختيارٍ حُرٍّ من قبل الشَّيطان، الَّذي كان ملاكًا في البداية، فسقط نتيجةً لسوء استخدام حرِّيَّته.
العالم بين الخير والشّر:
العالم، كخليقةٍ إلهيَّةٍ، ليس شرّيرًا في جوهره، لكنَّه ساحة صراعٍ بين قوى الخير والشَّرِّ. هذا الصّراع سيصل إلى نهايته بانتصار الحقِّ في اليوم الأخير، حيث يبيد اللهُ قوى الشَّرِّ، ويجدِّد الخليقة.
موقف الكنيسة من طرد الأرواح:
السَّيِّد المسيح نفسه أخرج الشَّياطين، وكلَّف تلاميذه بهذه المهمّة:
"أَعطاهم سلطةً على الأرواح النَّجسة ليطردوها ويشفوا كلَّ مرض وكلَّ ضعفٍ." (متى ١٠: ١)
والكنيسة، اقتداءً بسيِّدها، تؤمن بقوَّة اسم يسوع في طرد الأرواح الشّرّيرة، وتمارس الصَّلوات الخاصَّة بذلك.
دور الكاهن في طرد الأرواح:
في الكنيسة الأرثوذكسيَّة، يلعب الكاهن دورًا هامًّا في طرد الأرواح الشّرّيرة. فهو الشّخص المفوَّض من قبل الكنيسة لممارسة هذه الخدمة، من خلال الصَّلوات والطُّقوس الخاصَّة.
الكاهن، بما يمثِّله من سلطة كنسيَّةٍ، هو الأداة الَّتي يستخدمها اللهُ لإخراج الشَّياطين، وإعادة السَّلام إلى الشّخص المتأثِّر.
قوَّة اسم يسوع في طرد الأرواح:
يعتبر اسم يسوع المسيح هو السّلاح الأمضى في مواجهة قوى الشَّرِّ. فبمجرَّد استدعاء هذا الاسم المبارك، تهرب الشّياطين وتتلاشى قوَّتها.
تؤمن الكنيسة بأنّ اسم يسوع هو اسمٌ فوق كلّ اسم:
"لِذلك رفعه الله إِلى أعلى مكانٍ، ووهبه الاسم الَّذي هو فوق كلِّ اسمٍ، لكي تجثو باسم يسوع كلُّ ركبةٍ في السَّماء وعلى الأرض وفي العالم السُّفليِّ، ويردِّد كلُّ لسانٍ أَنَّ يسوع المسيح هو الرَّبُّ، تمجيدًا للهِ الآب." (فيلبي ٢: ٩-١١)
آباء الكنيسة وممارسات طرد الأرواح:
لعب آباء الكنيسة، وهم اللَّاهوتيُّون الأوائل، دورًا هامًّا في فهم وتوضيح ممارسات طرد الأرواح، وأبرزهم:
- أغناطيوس الأنطاكيُّ الَّذي كتب عن قوَّة اسم يسوع في طرد الشَّياطين، قائلًا: "إِنَّه ليس سوى فم واحدٍ ينطق باسم يسوع المسيح."
- يوحنَّا الذَّهبيُّ الفم الَّذي شدَّد على أهمِّيَّة الإيمان والمحبَّة في مواجهة قوى الشَّرِّ، قائلًا:"ليس هناك سلاحٌ أقوى من الإيمان والمحبَّة لطرد الشَّياطين."
- باسيليوس الكبير الَّذي كتب عن قوَّة الصَّلاة والصَّوم في طرد الشَّياطين، قائلًا: "الصَّلاة والصَّوم هما أقوى سلاحين ضدَّ الشَّياطين."
صيبة العين (العين الحاسدة):
من غير المعروف على وجه التَّحديد متى أُدخِلت "صلاة العين الحاسدة" إلى كتاب "الأفخولوجي"، ولكن من المؤكَّد أنَّها أضيفت استجابةً لعدم اكتمال وعي بعض المؤمنين وتشبُّثهم بعاداتٍ موروثةٍ، لا قيمة لها.
وقد أولت الكنيسة اهتمامًا خاصًّا بظاهرة العين الحاسدة، موضِّحةً للمؤمنين أَنَّ الأمر لا يتعلَّق بقوَّةٍ سحريَّةٍ مستقلَّةٍ، بل باستغلال الشَّيطان لمشاعر الحسد والغيرة لدى البعض، واستخدامها لإلحاق الضَّرر بالآخرين، مركِّزًا على النّعم الَّتي قد يفتقر إليها الشَّخص الحاسد، كالجمال، والحيويَّة، أو قوَّة الشَّخصيَّة، أو حتَّى الصِّحَّة الجيِّدة.
لذلك تشدِّد الكنِيسة على أَنَّ هذا هو التَّعليم الوحيد الَّذي تتبنَّاه، وأنَّ أيّ اعتقادٍ آخر يتعارض مع إيمانها الرَّاسخ بالعناية الإلهيَّة الشَّاملة، وترى أَنَّ العلاج الحقيقيَّ هو الإيمان بالله، والصَّلاة من أجل المحسود والحاسد على حدٍّ سواء.
صلوات طرد الشّياطين في الكنيسة الأرثوذكسيَّة:
تحتوي طقوس الكنيسة الأرثوذكسيّة على صلواتٍ خاصّة لطرد الشَّياطين، تستخدم في حالات التَّلبُّس الشَّيطانيّ، والاستقسامات الَّتي تقام قبل المعموديَّة، وصلاة العين الحاسدة الّتي تقام لطلب الحماية من تأثير العين.
ومن هنا ترفض الكنيسة أيّ ممارساتٍ سحريّةٍ، وتعتبرها خرافات خارجة عن الإيمان المسيحيّ.
الختام:
ترفض الكنيسة الشَّعوذة والمشعوذين الَّذين يستغلُّون ضعف النَّاس. وعلى الرَّغم من أنَّ البعض قد يظنُّ أنَّ رفضها لكلِّ أنواع التَّعاويذ الشَّعبيَّة يهدف إلى حصر هذه الممارسة بصلاحيَّات الكهنة، إلّا أنَّ هذا الاعتقاد خاطئٌ كلّيًّا.
فالكنيسة، تستند إلى الكتاب المقدَّس، وتشجّع المؤمنين على الصَّلاة والدُّعاء بعضهم لأجل بعضٍ، كما ورد على لسان يعقوب الرَّسول:
"أمرِيضٌ أحدٌ بينكم؟ فليدع شيوخ الكنيسة فيصلُّوا عليه ويدهنوه بزيتٍ بِاسم الرَّبِّ. وصلاة الإيمان تشفي المريض، والرَّبُّ يُقيمه، وإن كان قد فعل خطيئةً تغفر له. صلُّوا بعضكم لأجل بعضٍ لكي تشفوا". (يعقوب ٥: ١٤-١٦)
وأخيرًا، تؤكّد الكنيسة أنَّ يسوع المسيح هو وحده القادر على طرد الأرواح الشّرّيرة، ومقاَومة قوى الظَّلام، وأيُّ لجوءٍ إلى غير المسيح هو اعترافٌ بسلطة الشَّيطان عليه."