ثقافة ومجتمع
11 شباط 2016, 10:24

أبعد من الفيروس.. أعمق من الإجهاض

ريتا كرم
عاصفة فيروسيّة جديدة تطرق أبواب العالم اليوم وبخاصّة بلدان أميركا الجنوبيّة. هو فيروس "زيكا" ينتقل إلى الإنسان عبر لسعة البعوض وتشبه أعراضه أعراض العدوى بالفيروسات الأخرى المنقولة بالمفصليّات، وتشمل الحمّى والطّفح الجلديّ والتهاب الملتحمة والألم العضليّ وآلام المفاصل والتّوعّك والصّداع. وعادة ما تكون خفيفة تستمرّ لمدّة تتراوح بين يومين وسبعة أيّام. أمّا الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة به فهم الّذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة، أيّ: المسنّون، الحوامل، المصابون بأمراض تضطرّهم إلى تناول أدوية تضعف مناعتهم، والمقيمون في المناطق الموبوءة. أمّا العلاج ضدّ هذا الفيروس المستجدّ ليس بواضح، وإنّما يُنصح للمصابين به بالرّاحة وتناول السّوائل والمضادّات حسب وصفة طبّيّة.

ولكن المعضلة الأكبر الّتي تكتسح السّاحة اليوم مع تفشّي هذا الفيروس هي ولادة الأطفال برأس صغير أو مشوّه يتسبّب في أضرار عصبيّة حادّة وانخفاض تطوّر قدرة الدّماغ، ما يعيد إلى الواجهة قضيّة الإجهاض، ولاسيّما في البرازيل وكولومبيا حيث سُجّلت إصابات عديدة لدى حديثي الولادة مع انتشار "زيكا" وإصابة أمّهاتهم أثناء الحمل.
وإزاء هذه التطوّرات، علت أصوات مسؤولين في منظّمات عالميّة تدعم حقّ النّساء في الإجهاض وتوفير استشارات متعلّقة بالصّحّة الجنسيّة والإنجابيّة، أصوات حوّلت مطلقيها إلى "هيرودس العصر" كما وصفهم رئيس أساقفة ليما الكاردينال البيروفي خوان لويس تشيبرياني. فهل يحقّ لأيّ إنسان أن ينهي "متعة الحياة" لطفل بدأت حياته منذ تكوّنه الأوّل في رحم والدته؟ وهل يجوز أن تتجدّد الملحمة ويُقتل كلّ من دبّت فيهم الرّوح لأنّ بشريّ شرّع ذلك؟ أفلا تدركون أنّ الحياة الإنسانيّة سليمة كانت أم مشوّهة تبقى على صورة الله ومثاله، ولا يُسوَّغ لأحد أن يمسّها؟ أنسيتم أنّ "الحياة تبدأ منذ اللّحظة الأولى" (البابا يوحنّا بولس الثّاني)؟!

وبغضّ النّظر عن موقف الأديان الرّافض للإجهاض والقوانين المحرّمة له في العديد من الدّول، لنقف كمخلوقات حيّة أمام هذه الجريمة الّتي تجرّد المخلوق الجديد من كرامته الإنسانيّة وقيمته الاجتماعيّة، وتجرّد مرتكب الفعل من إنسانيّته، فيقضي على الفرصة الّتي أتيحت لهؤلاء الأطفال في النّموّ في عائلة حاضنة والتّفاعل ضمن مجتمع داعم. علماً أنّ كلّ معوّق يمكن أن يكون يقظة للضّمير الإنسانيّ وتنبيه لكلّ ظالم وأنانيّ يسرح في المجتمعات من دون اعتبار الآخر.

فإلى كلّ النّساء الحوامل المصابات بهذا الفيروس أم لا، إلى كلّ أب أعطاه الله نعمة المشاركة بالخلق، إلى كلّ طبيب نسي أنّ رسالته المحافظة على حياة البشر، إلى كلّ عائلة ميّزها الله فوهبها فرداً إستثنائيّاً، إلى كلّ قارئ، لنتذكّر اليوم معاً أمّاً- من بين الكثيرات حول العالم- اختبرت سرّ الألم في حياتها، وتحديداً في حملها الرّابع حيث عانت من مرض خبيث في الرّحم وجب اسئصاله، غير أنّها رغم إدراكها الكامل للمخاطر النّاتجة عن مرضها، اختارت عدم الإجهاض وحرمان الجنين "متعة الحياة"، بل سلّمت أمرها للرّبّ ضارعة إليه أن ينقذ حياة ولدها ولو على حساب حياتها. وهكذا تمّ، ولدت الابنة بصحّة جيّدة غير أنّ الأمّ فارقت الحياة بعد أيّام. لنتذكّر طبيبة الأطفال الإيطاليّة جيانّا بيريتا مولّلا الّتي أعلنت قدّيسة في 17 أيّار 2004، لنتكّرها في عالم تجتاحه حضارة الموت، ولنعتبر من حالة شهدها عصرنا محافظين على ثقافة الحياة مدافعين عن كرامة الفرد.