علوم
03 تشرين الأول 2022, 06:15

إكسير الحياة المديدة

الأمم المتّحدة
باختيارنا نمط حياة صحيًا، سيصير بإمكاننا إجراء تغييرات وراثية ذاتية لدرء الأمراض وتعزيز سبل الحياة المديدة.

إمنح نفسك لحظة استرخاء وتخيل المكان المفضل لديك في العالم الذي يتطلب منك الصعود مشيًا إلى قمّته. قد يكون ذلك المكان هو "السلالم الإسبانية" في روما أو "قصر بوتالا" في التبت؛ أو ربما يكون تلًّا هادئًا في منتزه مدينتك؛ أو الصف العلوي في مدرّجات ملعب الفريق المفضّل لديك.

وتَخيل بعد ذلك أنك بلغت قمّته، فتلقي نظرة إلى الأسفل نحو الأشخاص الآخرين الذين ما زالوا يمشون باتجاهك. هنالك ترى فئتين من الناس: 

أولًا، فئة رشيقة نشيطة؛ وتتكون من أناس مفعمين بالحيوية يتحركون بخفة الكنغر أثناء عملية الارتقاء. وهم يبتسمون، ويضحكون، وبالكاد يتعرّقون، ويحققون أقصى درجات المتعة من رحلتهم. ويفرحون بوصولهم إلى وجهتهم، متطلعين بحماس ولهفة لما ينتظرهم عند وصولهم.. على كل الجهد الذي يتطلبه هذا الوصول.

ثانيًا، فئة تشق طريقها بجُهد ومشقة؛ وتضم أولئك الذين يضطرون للتوقف والتقاط أنفاسهم عشر مرات خلال صعودهم. فكل خطوة تأخذ منهم جهدًا كبيرًا ولسانهم يلهث ويتأفف في كل حين قائلًا: ألم نصل بعد؟".رغم وصولك المتخيَّل قبل الفئتين معًا، فمن المحتمل أن تكون أشبه بإحداهما دون الأخرى. 

فما الفرق بين أفراد كلا الفئتين، عدا سرعتهم وسهولة تنقلهم؟ قد يكون حجم أجسامهم أو عمرهم.. أجل. فالفرق يتمثل بالتأكيد في حالتهم الصحية العامة.

لكن هل تعرف الفرق الأقل احتمالًا؟ مورّثاتهم (جيناتهم) التي وُلدوا بها؛ أو بالأحرى، اختياراتهم بشأن نمط عيشهم.

إعادة تشغيل العمر العظيم هو العنوان الذي وسمْنا به -أنا والمؤلفان المشاركان لي "بيتر لينيمان" و"ألبرت راتنر"- كتابنا الجديد الذي نشرته ناشيونال جيوغرافيك. وأردنا بعبارة "إعادة تشغيل العمر العظيم" ذلك التحوّل الذي بدأنا نشهد بزوغ فجره في شكل فتوحات في مجالَي الصحة والطب، والتي ستتيح لنا العيش حياة أطول وأكثر شبابًا، واكتشافات ستُحدث تغييرًا كبيرًا في مجتمعنا واقتصادنا ومستقبلنا.ولإعداد العُدّة لإعادة تشغيل العمر العظيم، يجب أن يكون المرء على استعداد للتغيير.. لا للحصول على صحة جيدة والحفاظ عليها فحسب، ولكن للحصول أيضًا على صحة كافية لإجراء "إصلاحات" على جسمه عند الحاجة إلى ذلك. 

وتلوح أمامنا معالم مستقبل رائع. لكن الاستمتاع به والتمتع بالحياة المديدة سيتطلب من المرء أن يكون مهندسًا وراثيًا منذ الآن. أما فائدة ذلك فهي أنك ستتمكن -بالمعنى الحرفي للكلمة- من تغيير مصير عائلتك الطبي.. إنْ رغبت بذلك. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، يرتبط زهاء 40 بالمئة من الوفيات المبكرة -وهي التي تحدث قبل سن الـ 75، حسب العلماء- بخيارات أسلوب العيش، وهي أنماط سلوك بإمكاننا تغييرها. فنمط العيش والوراثة أمران مترابطان؛ إذ تؤثر اختياراتنا بشأن نمط العيش في الطرق التي يعمل بها كثيرٌ من مورّثاتنا.. ومن ثم تؤثر في الطريقة التي تعمل بها أجسامنا.وتُظهر الدراسات المرتبطة بالتعبير الوراثي البشري أنه إذا اختار المرء إجراء تغييرات بعينها في نمط حياته، فيمكنه التأثير في مورّثاته بجعلها "تعمل" أو "تتوقف عن العمل". وفي الواقع، يمكن أن تؤثر اختياراتنا في نحو 1200 مورّثة من بين الـ 1500 مورّثة النشطة، ويُرجح أن تؤثر في الـ 21000 مورّثة -تقريبًا- أخرى غير النشطة. فعلى سبيل المثال، تمكن رجال بعد إجراء تغييرات على نشاطهم البدني ومستوى إجهادهم ونظامهم الغذائي، من إيقاف المورّثات المرتبطة بنمو سرطان البروستات وتشغيل مورّثة تنتج بروتينًا يجعل الخلايا السرطانية تُدمر نفسها. وينسحب المبدأ نفسه على سرطان القولون والثدي: فقد أدت التغييرات في نمط العيش إلى تفعيل المورّثات التي حاربت السرطان وإيقاف المورّثات التي تحفزه.

ويُخبرنا العلم أنه بحلول الوقت الذي يقترب المرء فيه من سن الستين، تكون اختياراته قد حددت 75 بالمئة من محصّلاته الصحية (Health outcomes). وتلكم هي الهندسة الوراثية الذاتية: فكل سلوك صحي يُشغِّل المورّثات المعزِّزَة للشباب ويوقف المورّثات التي تتسبب في تقدم العمر. وهذه العملية هي نتاج ملايين السنين من التطور، حسب العلماء. فالخيارات الجيدة (والبروتينات التي تنشأ وتتطور نتيجةً لها) تولِّد مزيدًا من البروتينات الجيدة، فيما يولِّد تنشيط المورّثات السيئة مزيدًا من المورّثات السيئة والمدمرة. فلديك القدرة على تغيير طريقة عمل جسمك وتفاعله؛ ومن ثم تغيير مستوى تمتعك بالصحة وأمد الحياة الذي قد تعيشه. وسنقدم لك ثلاثة أسباب رئيسة تجعل من سعيك لتحقيق المستوى الأمثل للصحة والشباب من خلال اختيارات نمط العيش، ضرورة لا غنى عنها. وينبغي أن تبني أساسًا متينًا بشأن ذلك الآن. ربما تعرف أشخاصًا نجوا من مرض مرعب أو حادث مروع أو عملية جراحية خطيرة؛ وقيل إن قوتهم البدنية والعقلية الموجودة مسبقًا قد قوّت أجسامهم لخوض المعركة وجعلتهم أكثر استعدادًا لتحمل تلك الضغوط. ويَصدق هذا القول في جائحة "كوفيد-19" التي ضربت العالم مؤخرًا: إذ سُجل ما يزيد على 80 بالمئة من الوفيات في أوساط الأشخاص الذين تفوق أعمارهم 65 عامًا، والأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بحالات حادة هم من يعانون بالأصل أمراضًا كالبدانة والسكري وأمراض القلب وأمراض الرئة المزمنة والاضطراب المناعي. ويستقيم المنطق ذاته عند الحديث عن طول العمر؛ أي أن الخيارات الصحية ستساعد في درء الأمراض المزمنة وتهيئنا لحياة مديدة. فكلما تحسنت اللياقة البدنية، زادت فرص "اتخاذ" إجراءات مكافحة الشيخوخة الجديدة على مستوى عالٍ، مع الحد من المضاعفات. وكلما كانت البداية أقوى، تواصلت الوتيرة القوية طوال السباق بأكمله وعلى طول الطريق حتى النهاية. لا يُعرف عدد عمليات إعادة التشغيل التي ستحصل عليها. ربما سيشهد عالَم مثالي في القرن الـ 25 ظهور بعض سراديب الموتى الشبيهة بغرفة ارتداء الملابس التي تسمح لك بالدخول إلى إحدى الحجيرات، والضغط على بعض الأزرار، وحذف تأثير كل سيجارة دخّنتها، وكل تقاعس عن الجهد البدني، وكل نظام غذائي غير سليم.  ولكن في المستقبل المنظور، من المرجح أن تكون فرص إعادة التشغيل محدودة، إذ ستكون قدرتك على زيادة فعاليتها إلى أقصى حد رهينة بالتزامك بتحسين نظامك البيولوجي من خلال وسائل فعالة، وهي: التغذية والنشاط البدني والنوم والامتناع عن التدخين، وتدبير الإجهاد.

 

المصدر: National Geographic