العراق
02 تشرين الثاني 2020, 15:00

إليكم ما قاله البطريرك يونان في الذّكرى العاشرة لمذبحة سيّدة النّجاة!

تيلي لوميار/ نورسات
في إطار زيارته إلى العراق، ترأّس بطريرك السّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان، مساء السّبت، قدّاس الذّكرى السّنويّة العاشرة لشهداء مذبحة كاتدرائيّة سيّدة النّجاة- بغداد، عاونه فيه لفيف من أساقفة كنيسته في العراق، بمشاركة إكليروس من أبرشيّة بغداد والموصل وحدياب، بحضور عدد من الرّسميّين والعسكريّين وجموع غفيرة من المؤمنين.

تخلّلت القدّاس كلمة ترحيبيّة تلاها رئيس أساقفة بغداد للسّريان الكاثوليك المطران أفرام يوسف عبّا توقّف فيها عند بطولة الشّهداء، سائلًا الله أن يؤهّلهم للاحتفال بتطويبهم وتقديسهم.  

بدوره ألقى البطريرك يونان كلمة قال فيها: "نجتمع في هذا المساء في كاتدرائيّة سيّدة النّجاة، أمّ الشّهداء، لنُقيم الذّكرى العاشرة لاستشهاد إخوةٍ وأخواتٍ لنا في الإيمان، جرّاء الهجمة الإرهابيّة، الّتي راح ضحيّتها 48 شهيدًا وشهيدةً، وخلّفت أكثر من ثمانين من الجرحى. قبل عشر سنوات تمامًا ارتكبتْ عصاباتٌ مكفِّرةٌ في هذه الكاتدرائيّة مجزرةً، اعتُبِرتْ جرس إنذارٍ للمسيحيّين أدّى إلى تهجير ونزوح أكبر عددٍ لهم في العصور الحديثة، ليس فقط من بغداد العاصمة، بل من كلّ أنحاء بلاد الرّافدين.

كثيرون منكم عرفوا الشّهداء عن قرب: الكاهنان الشّابّان ثائر عبدال ووسيم القسّ بطرس، والأطفال، والشّبّان والشابّات، والآباء والأمّهات، إذ كانوا في ليلة عيد جميع القديسين يصلّون ويشاركون في ذبيحة القداس الإلهيّة. في مثل هذا الوقت باغتهم المجرمون الجُبناء، بالتّفجير والتّكفير والقتل دون هوادة.

إمتزجت دماءُ شهدائنا بذبيحة الحمل على المذبح، وارتقت أرواحُهم إلى السّماء تنظر إلينا من عليائها بحنان، شافعةً فينا. أرواحٌ بارّةٌ تشاركنا اليوم في الصّلاة، راجيةً معنا، ومع أخينا صاحب السّيادة مار أفرام يوسف عبّا راعي الأبرشيّة، وجميع أفراد الإكليروس والمؤمنين، أن تكتمل دعوى تطويبهم جميعًا لدى المراجع المختصّة في الكرسيّ الرّسوليّ، لكي نعود ونحتفل برتبة تطويبهم بأقرب وقت.

جئنا إلى هذه الكاتدرائيّة الشّاهدة على الإيمان والرّجاء والمحبّة، والعابقة بعطر الاستشهاد من أجل الرّبّ الفادي، لكي نشترك في الصّلاة الحارّة، وفي التّأمّل العميق، وفي تجديد الأمانة لذكراهم الحيّة في قلوبنا، ولكي نقيم الاحتفال بغلبتِهِم، فخورين ببطولتِهم، ونحن راسخون في الإيمان وثابتون في الرّجاء، لأنّ الرّبّ الفادي وَعدنا أن يبقى معنا في حياتنا ومماتنا، ووعده لا ولن يخيب أبدًا!

"... فإنّي متيقّنٌ بأنّه لا موت ولا حياة... تقدر أن تفصلنا عن محبّة الله الّتي في المسيح يسوع ربّنا".  

هذا ما استمعنا إليه من رسالة مار بولس رسول الأمم إلى كنيسة روما. كلامٌ مقرونٌ بالفعل، لأنّه قضى رسالته متحمّلًا من الآلام والاضطهادات أنواعًا لا تُحصى، حتّى نيله إكليل الشّهادة، حبًّا بيسوع فاديه.  

وهذا ما تحمّله شهداؤنا الأبطال، مساء ذاك الأحد، كما سبق وذاق الاضطهاد الألوف المؤلّفة من آبائهم وأمّهاتهم وأجدادهم وجدّاتهم على مرّ العصور، والّذين تعذّبوا أو قُتلوا أو شُرِّدوا ما وراء البحار والمحيطات، لأنّهم أرادوا أن يبقوا أمناء لمخلّصهم الرّبّ يسوع، المعلّم الّذي أوصاهم بأن يحبّوا الجميع حتّى الأعداء، وأن يسامحوا مبغضيهم ويُحسنوا إليهم! فمن أجل هذا المعلّم الإلهيّ، ولأنّهم أرادوا أن يتبعوا إنجيل المحبّة والسّلام، استشهد أهلنا بهجماتٍ بربريّةٍ، وهم يعلّموننا أيضًا أن نتأمّل أيضًا بعبارةٍ ثانيةٍ سمعناه من الرّسول بولس: "من سيفصلنا عن محبّة المسيح؟ أشدّةٌ أم ضيقٌ أم اضطهادٌ أم جوعٌ أم عريٌ أم خطرٌ أم سيف؟"  

وكم هو عذبٌ هذا النّشيد الّذي تكرّره كنيستنا السّريانيّة، وملؤه تعزية الشّهداء لنا وشفاعتُهم من أجلنا:  

"ܣܳܗܕ̈ܶܐ ܒܪ̈ܺܝܟܶܐ ܕܶܐܬܩܰܛܰܠܬܽܘܢ ܡܶܛܽܠ ܦܳܪܽܘܩܰܢ܆ ܘܰܣܠܶܩ ܕܶܡܟܽܘܢ ܥܶܛܪܳܐ ܚܰܠܝܳܐ ܩܕܳܡ ܒܺܐܡ ܕܰܡܫܺܝܚܳܐ. ܐܰܢ̱ܬܽܘܢ ܠܡܳܪܟܽܘܢ ܐܰܦܺܝܣܽܘܢ܆ ܕܢܰܫܪܶܐ ܫܰܝܢܶܗ ܘܰܫܠܳܡܶܗ ܒܰܐܪܒܰܥ ܦܶܢܝ̈ܳܬܳܐ".

وترجمته: "أيّها الشّهداء المبارَكون الّذين قُتِلتُم في سبيل مخلّصنا، وصعد دمكم بخورًا طيّبًا أمام منبر المسيح. تضرّعوا إلى ربّكم كي يحلّ أمانه وسلامه في جهات المسكونة الأربع".

جئنا نصلّي، والصّلاة هي أفضل تعبير عن لقائنا مع الرّبّ، نناجيه ونبثّه آمالنا وتساؤلاتنا ومخاوفنا. نضرع إليه كي يقوّي ضعفنا في معترك هذه الحياة الدّنيا، ونقبل حكمتَه غير المدركة، ونجابه بنعمته القدّوسة تحدّيات هذا العالم وتجاربه وأخطاره، فنبقى دومًا أمناء له. فالصّلاة هي زوّادتنا الرّوحيّة الّتي ترافقنا في كلّ زمان وكلّ مكان، في ساعات الفرح كما في أوقات الشّدّة والضّيق، في السّلم والاضطهاد، في العافية والألم، في النّجاح والإخفاق، منفردين كنّا، أم مجتمعين. نفتح قلوبنا له تعالى، كما الأبناء لأبيهم الحنون، واثقين بأنّه يعرف ما نحتاج إليه، من غذاءٍ روحيّ وعوزٍ مادّيّ، من حمايةٍ وأمنٍ، كي نعيش في بلدنا بالحرّيّة الحقّة والكرامة الإنسانيّة!

وإذ جئنا نشترك مع أرواح شهدائنا الأبرار، في ذبيحة القدّاس الإلهيّة هذه، وهي الصّلاة الأسمى، لا بدّ وأن نتأمّل في التّدبير الإلهيّ الّتي يفوق كلّ حكمةٍ وعلمٍ، ضارعين إلى الرّوح القدس كي يمنحنا مواهبه، لاسيّما موهبة "الفهم"، لهذه الجريمة النّكراء الّتي دنّست هذه الكاتدرائيّة، بيت الله. فنتساءل بأيّ حقٍّ إلهيّ أو عدالةٍ بشريّةٍ تُزهَق نفوس الأبرياء على أيدي جزّارين لم يلتقوا وما عرفوا ضحاياهم؟ وبأيّ مفهومٍ أخلاقيّ تفتك عصاباتٌ إرهابيّةٌ غُسِلَتْ أدمغتها وأعمى الشّرُّ ضمائرها، بمؤمنين اجتمعوا للصّلاة، وجاؤوا ينشدون العون والقوّة في أزمات حياتهم الخانقة، متضرّعين إلى ربِّهم بأن يُحِلّ أمنه وسلامه في وطنهم العراق الحبيب؟ ألسنا محقّين أن نرفع استغاثتنا مع صاحب المزمور، ونقول: "من الأعماق صرختُ إليك يا ربّ. يا ربّ، اسمع صوتي، ولتكن أذناك مصغيتين إلى صوت تضرّعاتي". كما نتعزّى بقول ربّنا وفادينا يسوع لنا: "إن كانوا قد اضطهدوني فسوف يضطهدونكم أيضًا"، كما سمعنا في الإنجيل بحسب يوحنّا الرّسول، مدركين أنّنا نقتفي إثر معلّمنا الربّ يسوع على درب الاضطهاد والألم، كي ننال مجد القيامة والسعادة التي لا تزول.  

واليوم، يحثّنا شهداؤنا الأبرار، ونحن نحيي ذكراهم بالصّلاة والتّأمّل، أن نجدّد عهدنا لهم بروح الأمانة لتضحيتهم، مفتخرين معهم بصليب الرّبّ الفادي الّذي أشركهم في ذبيحته الفدائيّة. هذه الذّكرى العاشرة لغياب إخوتنا وأخواتنا، ليست فقط للتأسّف والشكوى والبكاء على خسارة الكنيسة لهم، بل هي مدعاةٌ لافتخارنا بنيل كنيستنا والمسيحيّة في العراق جوقًا من الشّهداء الأبرار يشاركون في سعادة السماء مع كواكب القديسين. إنّنا نؤكّد لهم أنّ حنايا هذه الكاتدرائيّة ستبقى عابقةً ببخور تضحياتهم، مذكّرةً جميع المصلّين بأنّ شهداءنا هم المشاعل الإيمانيّة الّتي تنير لنا دروب حياتنا، وتُلهِب فينا نار المحبّة نحو الجميع.  

مهما حلّ ولا يزال يحلّ بنا من ظلمٍ ونكباتٍ، فلن نصبح دعاة عنفٍ أو انتقام، إنّما رُسلَ سلامٍ وإخاءٍ وتسامُح. نستذكر شهداءنا للعبرة والصّلاة والتّشجيع على التّمسّك بالإيمان، وعلى المضيّ نحو المستقبل برجاءٍ ثابتٍ بالرّبّ إله المحبّة المتجسّدة.  

أجل أيّها الأحبّاء بالرّبّ، شهداء هذه الكاتدرائيّة الصّامدة والمتجدّدة بالرّوح، هم أهلٌ لكي نحتفل بانتصارهم على الشّرّ الّذي ينخر قلوب المجرمين بتعصُّبهم اللّاأخلاقيّ، الّذي سبّب غيابهم عنّا دون مبرّر. شهداؤنا يتطلّعون إلينا في هذه الذّكرى مُحلّقين كالنّسور، كما اعتدنا أن نُنشد لهم:

"ܣܳܗܕ̈ܶܐ ܠܢܶܫܪ̈ܶܐ ܕܳܡܶܝܬܽܘܢ ܘܡܶܢ ܐܳܐܰܪ ܩܰܠܺܝܠܺܝܬܽܘܢ܆ ܕܩܳܪܶܐ ܒܝܰܡܳܐ ܥܳܢܶܝܬܽܘܢ ܘܰܒܝܰܒܫܳܐ ܬܽܘܒ ܐܺܝܬܰܝܟܽܘܢ".

وترجمته: "أيّها الشّهداء إنّكم تشبهون النّسور، تحلّقون أسرع من الرّياح، فمن يدعو في البحر تجيبونه، وعلى اليابسة أنتم هناك أيضًا".

فبالرّغم من الضّيقات والآلام الّتي تحلّ بنا، نحن على ثقةٍ بأنّ الرّبّ مخلّصنا "يوجِد من المحنة خلاصًا"، لأنّه الرّاعي الصّالح الّذي يسهر على القطيع ويشجّعه للانطلاق في جدّة الحياة بإيمانٍ ثابتٍ لا تزعزعه الأنواء ولا تنال منه الشّدائد.  

يؤكّد لنا شهداؤنا كما لقاتليهم الجبناء، بأنّ الغلبة النّهائيّة الحقيقيّة هي للخير، وبأنّ مسكننا الحقيقيّ هو في السّماء حيث لا بكاء ولا حزن ولا ألم، بل السّعادة الحقيقيّة مع الرّبّ والعذراء البتول "سيّدة النّجاة" وجميع القدّيسين والقدّيسات.

لقد أضحى شهداؤنا الأبرار لنا ولجميع المواطنين الشّرفاء، رمزًا ومثالًا وفخرًا وكواكب مضيئةً لنا في العراق، هذا الوطن الغالي الّذي نحبّه، والّذي يحنّ إلى الاستقرار والازدهار، ومشيئته تعالى أن نبقى صامدين ومتجذّرين فيه. فمن شهادتهم نستقي العِبَر، ومن شفاعتهم ننال القوّة الرّوحيّة، كي نجابه أمواج الشّرّ وأحقاد التّكفير، ونتعاون مع جميع ذوي الإرادة الصّالحة، في مشروع بناء وطنٍ عادلٍ يحتضن الجميع، ويعترف بحقوق المواطنة دون تمييز، كما تقوم الحكومة الحاليّة، الّتي ندعو لها بالنّجاح والتّوفيق في مساعيها الحميدة.  

إليكم نتوجّه يا أحبّاءنا السّريان، هنا في العراق، وفي بلاد الشّرق وعالم الانتشار، أنتم أولاد الشّهداء والشّهيدات وأحفادهم، حافِظوا على مَعين الرّجاء تستقونه من إيمانكم. وتمسّكوا بكنيستكم الأمّ ولغتها السّريانيّة العريقة، ولا تنسوا جذوركم في الأرض المشرقيّة الحضاريّة المعطاءة. عهدُنا لكم أنّنا معكم سنحافظ على الأمانة لرسالتنا الرّوحيّة والحضاريّة. ونسأله تعالى أن يؤهّلنا لنكون شهودًا لمحبّته، ومبشّرين بسلامه على الدّوام. آمين."

بعد البركة الختاميّة، أقام البطريرك يونان خدمة الشّهداء عند مدافن الإكليروس تحت الكاتدارئيّة، وصلّى لراحة نفس الكاهنين الشّهيدين ورفاقهما، سائلاً الله أن يتمّ رفعهم على مذابح الطّوباويّين والقدّيسين.