لبنان
08 حزيران 2023, 05:00

ابراهيم في صبيحة خميس الجسد: فلنحمل المسيح دائمًا معًا لشفاء وطننا الّذي يئنّ ويتألّم

تيلي لوميار/ نورسات
عند الخامسة فجرًا، غصّت كاتدرائيّة سيّدة النّجاة في زحلة بجمهور كبير من المؤمنين الّذي أتوا للمشاركة في القدّاس الإلهيّ الّذي احتفل به رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران ابراهيم مخايل ابراهيم، في الذّكرى الثّامنة والتّسعين بعد المئة للأعجوبة الإلهيّة الّتي أنقذت مدينة زحلة من وباء الطّاعون، خميس الجسد الإلهيّ، بمشاركة لفيف من الإكليروس.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى ابراهيم عظة قال فيها: "أيّها الأحبّاء بالمسيح، إنَّ بذار الحبّ الأوّل؛ عندما لم يكن للحبّ البشريّ بعدُ وجود، اتَّقدَ حُبّ الله الّذي في قلبه منذ الأزل، فخلق "السّماواتِ والأرضَ.. كلَّ ما يرى وما لا يرى". من حُبّه خلق كلّ شيء. وكلُّ شيء من الحبّ خُلق. من أجلنا خُلق؛ من أجل إنسان خلقه اللهُ على صورته ومثاله، وميّزه إذ رفعه عن سائر المخلوقات إلى درجة السّيادة.. بل تمنطق حُبَّهُ حين اتّخذ خليقته خليلا له في جنّة عدن، حيث كانَ يتمشّى ويتفقّد آدم وحوّاء الأوّلين.. ونحنُ اليوم نبادلُ اللهَ بالحُبِ الّذي أحبَّنا به ونُعلن في شعار عيد الجسد لهذه السّنة: يا ربّ... أنت تعلمُ أننا نُحبُكَ. أحبّ الله الإنسان ولم يُرد له الموت! أعطاه الخلود في رحاب الحقّ والحبّ والحرّيّة! أعطاه الخلود كي يبقى معه، يسير قربه خِلّاً وصديقًا وابنًا محبوبًا.  

لكن طعم الغواية كان عسل الخطيئة المسموم! لا يجب أن يأكل الإنسان من ثمر الشّجرة مرّة أخرى! عليه أن يخرج من عدن.. ليدخلها مجدّدًا! لا أحد يعلم متى يأتي "ساحق رأس الحيّة" (تك 3: 15).. رحلة أعمار. سنون كثيرة. وأجيال وأجيال. لكنّ الله خبّأ تحت غلافِ العقاب رحمةً: "بعرق جبينك تأكل خبزا" (تك 3: 19). ألخُبز للحياة! الخبز يعطي حياة وشبعًا.. وما زالت بعض الحضارات حتّى يومنا هذا تسمّي الخبز "عيش".

في تلك اللّحظة بدأت مسيرة رغيف الخبز، صورة مسبقة للمسيح الآتي. وحين استضاف إبراهيم خليل الله الرّجال الثّلاثة عرض عليهم كِسرةَ خُبز "تَسنُدُ قلوبَهم".. وحين داهم شبح الموت يعقوب وأولاده سأل ابنه يوسف خبزًا ليحيوا.. واستمرّت رحلة الرّغيف إلى تمام الزّمان، حين أرسل الله ابنه إلى عذراء في "بيت لحم" "بيت لخمو" بالعبريّة ومعنى الإسم "بيت الخبز".

مذ خرج الإنسان من عدن وشبح الجوع يُرافقه، أحكم سيطرته على ثلاثة مفاصل لأبعاد إنسانيّة رئيسيّة: البعد الجسديّ، والبعد النّفسيّ، والبعد الرّوحيّ. وهذه الأبعاد نرى أنّ الرّبّ يسوع أشبعها، راسمًا أمامنا صورة مسبقة عن مفاعيل الخبز الإفخارستيّ."

وأضاف: "الإشباع عند الرّبّ يسوع فائق الأهمّيّة في عينيه. مرتبطٌ بالكرامة. أشبع الرّب خمسة آلاف رجل عدا النّساء والأطفال من خمسة أرغفة وسمكتين.. فتمّ الإشباع الجسديّ.  

قبل الإشباع شفى مرضاهم من كلّ علّة، وبعده أسكت الرّياح واضطراب البحر، فقهر الخوف الدّاخليّ والخارجيّ. وتمّ الإشباع النّفسيّ.

وها هي الآيات خلايا نصّ اليوم، تحمل في ذاتها الإشباع الرّوحيّ: "أنا الخبز الحيّ الّذي نزل من السّماء، من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى ألأبد. والخبز الّذي سأعطيه أنا هو جسدي." (يو 6: 51).

ثلاثة أبعاد تشكّل أبعاد الإنسان الكَيانيّ.. ثلاثة أبعاد أحاطها الله بعنايته منذ الخطيئة الأصليّة، حتّى النّعمة الأصليّة؛ نعمة الفداء.. وما شوّهه آدم الأوّل وحوّاء الأولى فجلبا به الموت، أصلحه الرّبّ يسوع آدم الجديد بذبيحته الطّوعيّة على الصّليب، ووهبنا مريم أمّه حوّاء جديدة، تضمّنا في ستر كنفها مُبعدة عنّا سمّ الغواية.

رِحلةُ رغيف الخبز، صارت مع المسيح رِحلة خبز إفخارستيّ.. ولد صغيرًا كحبّة الحنطة، وبالقيامة أتى بثمار كثيرة. ولد صغيرًا كحبّة الخميرة، لكنّه خمّر العجين كلّه..

صحيح أنّ العمل الخلاصيّ عمل إلهيّ صرف، إلّا أّنّ المسيح الّذي يحبّ الإنسان غاية الحبّ، اختار الخبز والخمر ليكونا جسده ودمه للحياة الأبديّة. في عمق هذه الذّبيحة غير الدّمويّة، رمزيّة نتاج الأرض من عناية الله وجهد الإنسان. بداية من الزّرع إلى الحصاد، وانتاج الرّغيف وعصير الكرمة.

هذه المرّة لن يكون التّناول دينونة وقضاء وطردًا من السّماء، إنّما واجب وحقّ لدخول الحياة الأبديّة. هذه المرّة صار التّناول دواء لعدم الموت."

وتابع: "أحبّائي نقول في الصّلاة للقربان المقدّس: "أنا أومن يا ربّ وأعترف، أنّك حقًّا المسيح ابن الله الحيّ الذّي أتى إلى العالم ليخلّص الخطأة، الّذين أوّلهم أنا. وأومن أيضًا أنّ هذا هو جسدك الطّاهر، وهذا هو دمك الكريم. الخ..." الإيمان والاعتراف في هذه الصّلاة، يتكاملان ويكتملان بالإيمان بحضور المسيح الحيّ في القربان المقدّس. وفي هذا تأكيد على إيماننا بأنّ المسيح لم يغادرنا! أين هو إذا؟ كيف نراه؟ كيف نسير معه؟ خاصّة في هذا الزّمن العصيب! نراه في القربان المقدّس. وبعد المناولة بعين الإيمان، لأنّ مركز الإيمان هو في أعماقنا. والمناولة تفعل في أرواحنا كما يفعل الخبز بأجسادنا.. يتغلغل المسيح في خلايانا، يمتدّ ويملؤنا من حضوره.. ألسْنا هياكلَ الرّوحِ القدس؟ ألسنا خلايا جسد المسيح السّرّي! لذلك نحن لا نسير معه، لأنّه يسير فينا ومن خلالنا.. حاضر في كياننا، في الـDNA  الّذي في خلايانا.. لذلك أرسلنا إلى العالم كلّه!

هذا الإيمان، هو الّذي حرّك المغبوط ذِّكرُهُ المطران أغناطيوس عاجوري عام 1825 لأن يطوف بالقربان المقدّس في زحلة يوم ضربها الطّاعون. الإيمان بأنّ المسيح الّذي أشفق على الجموع الّتي تبعته فشفى مرضاهم وأشبعهم ولم يرسلهم فارغين، سيفعل الأمر عينه ويشفي المرضى ويُشبع الجياع. هكذا كان وسيكون دومًا. خصوصًا في هذه الأيّام حيثُ يضربنا طاعونُ الفساد ويهدّد كيان وطننا الحبيب لبنان."

وختم المطران ابراهيم "ونحن على صخرة إيمان أسلافنا، نقيم التّذكار نفسه اليوم. فلنحمل المسيح دائمًا معًا، لشفاء وطننا الّذي يئنّ ويتألّم. اليوم نسير بكهنوتنا الخاصّ وكهنوتكم العامّ شهودًا للمسيح القائم الحيّ، في أحياء زحلتنا الحبيبة، آملين أن نرى خلاص لبناننا من محنته في القريب العاجل بشفاعة الجسد الإلهيّ. آمين."

في نهاية القدّاس تبارك المؤمنون من شعاع القربان المقدّس، وانطلق موكب الجسد الإلهيّ ليسلك شوارع مدينة زحلة.