لبنان
08 آذار 2024, 13:55

ابراهيم: لا يوجد قداسة بدون الشركة مع اللّه

تيلي لوميار/ نورسات
شارك رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران ابراهيم مخايل ابراهيم، أبناء وبنات رعيّة القدّيس جاورجيوس في عيتنيت صلاة النّوم الكبرى بحضور كاهن الرّعية الأب شارل شامية، القيّم العام الأب اليان ابو شعر، الأب زاكي التن، وكلاء الوقف، حركة ميداد، الجوقة، الرّاهبات والمؤمنين. بعد الصّلاة ألقى ابراهيم عظة حول موضوع القداسة، جاء ففيها بحسب إعلام الأبرشيّة :

"قدس الأب شارل شامية المخلصي المحترم،

قدس الأب اليان ابو شعر القيّم العام في المطرانيّة المحترم،

قدس الأب زاكي التن المحبوب في هذه المنطقة والذي خدم في الرعية مدة طويلة،

أخواتي الرّاهبات الحبيبات على قلب الرّبّ يسوع لأنّ خدمتهن في هذه المنطقة خدمة لا تثمّن في هذه البلدة عيتنيت التي لها تاريخ طويل مع الكنيسة والمجتمع وفيها رئيس كهنة بطريرك قدّيس مدفون تحت الهيكل، ذخائره تحرس هذه الكنيسة وأهل هذه البلدة.

أشكر الجوقة لأنّ ترنيمها رائع جدًا، سماء مفتوحة، اسأل الله أن يقوّيكم في هذه الخدمة، ومن يرنم يصلّي مرتين.

أتيت اليوم لأصلّي معكم في بلدتكم الجميلة عيتنيت. من هذه الكنيسة التّاريخيّة أوجّه التّحيّة لجميع أبناء هذه البلدة المقيمين والمنتشرين في بقاع الأرض. ولي مع أهل عيتنيت تاريخ طويل وهم أهل وأصدقاء، وكم كنت مُباركًا أنّ الرّبّ اختارني لرعاية أبناء هذه البلدة مدّة 12 سنة في مدينة كليفلند، أوهايو في الولايات المتّحدة الأميركيّة ولاحقًا في كندا.وها أنا اليوم أخدم هذه الأبرشيّة التي تشكّل عيتنيت جزءًا أساسيًّا منها ومن تاريخها. وهذه الكنيسة شاهدة في أعمدتها الرّائعة في حلّتها الجديدة، شاهدة على كلّ الذين حنوا ركبة قلوبهم فيها للصّلاة من أجل بعضهم البعض ومن أجل ذواتهم والآخرين.

أحبّ أن أحدّثكم اليوم، ونحنُ في زمن الصّوم المبارك، عن موضوع غالي على كلّ المسيحيّين وهو موضوع القداسة وعن دعوتنا جميعًا لكي نكون قدّيسين. وأرى امامي في هذه الكنيسة مجموعة من الصّغار الذين هم الحاضر والمستقبل، اتّكالنا عليهم لأنّه كلّما بنوا ذاتهم بحجارة القداسة كلّما صاروا أجمل من هذه الكنيسة، لأنّهم هياكل الرّوح القدس.

القداسة ليست مجرّد حالة من النّقاء الرّوحيّ، هناك الكثيرون من غير المسيحيّين لديهم النّقاء الرّوحيّ، لكن هي رحلة مستمرّة نسعى من خلالها للاتّحاد العميق مع الله ومع يسوع المسيح. إنّها حالة من التّحوّل الرّوحيّ الذي ينبعث من داخلنا وينعكس في تصرّفاتنا وعلاقتنا بالآخرين وبالعالم من حولنا. القداسة تشع اعمالاً تتحوّل إلى كلمات وإلى أفعال، وهذه أهمّيتها. القداسة تفتح لنا الطّريق عندما يكون هناك حواجز وعقبات وحفر كبيرة وفخاخ، تأتي القداسة تفتح لنا الطريق لكي نتواصل مع الله. القداسة هي عمليّة تطهير القلب والنّفس من كل ما يحول دون الوصول إلى الله وتحقيق التّواصل الحقيقيّ معه. هذه هي غاية الصّوم الأساسيّة: تطهير الذّات للوصول إلى مجد أنوار القيامة المجيدة.

القداسة ليست امتيازًا شخصيًّا لأيّ إنسان بغض النّظر عن مكانته الرّوحيّة، إنّها تعبّر عن العلاقة الفرديّة مع الله التي هي أجمل امتياز ممكن أن يحصل عليه إنسان، فالله بحسب اختياره الحرّ، يقدّس من يشاء، بدون أن تكون القداسة مرتبطة بأيّ شيء غير إرادة الشّخص المقدّس. وكما أكّد القدّيس مكسيموس المعترف، نحن كبشر لا نساهم سوى بإرادتنا، التي لا يعمل الله بدونها. قداستنا نساهم فيها بإرادتنا أي نحن يكون لدينا رغبة بأن نصبح قدّيسين، والله يقوم بكل ما تبقى من المسيرة. وبناءً على ذلك، لا تؤدي أعمالنا وتضحياتنا إلى القداسة كنتيجة حتميّة، وهذه مسألة يقع فيها الكثير من النّاس، يعتقدون بأنهم إذا دفعوا الأموال إلى الفقراء أو الكنيسة، أو اضاءوا الشّموع أو قدّموا عطايا يكونوا قد اشتروا السّماء! السّماء لا تشترى هكذا، السّماء تُشترى فقط بعلاقة حميمة شخصيّة تنعكس في عمق الإنسان وفي فكر المسيح المنعكس فينا. يمكن إثبات في أيّ لحظة في عيني الله الذي يعرف إذا ما كانت هذه الأعمال تساعد هذا الشّخص في الوصول إلى السّماء أم لا. لا يستطيع أحد أن يشتري الله أو يغيّر معرفته للحقيقة، فالإحسان وعمل الخير يمهدان الطّريق لنسج علاقة متينة مع الله الذي به وحده نتقدّس.

في الإيمان المسيحيّ، يرتبط مفهوم القداسة بالله نفسه، ممّا يؤدي إلى ربطها بمجده الخاصّ. فالقداسة تعني تمجيد الله من قبل العالم بأسره. فطلبنا في الصّلاة الرّبانيّة "ليتقدّس اسمك" ليس مصادفة، بل يعبّر عن رغبتنا في أن يتمجّد الله في كلّ مكان وليس فينا فقط، بما في ذلك اللّحظة التي يُشاهِدُ فيها العالم بأسره مجد الله. وعندما يتقدّس اسم الله بين النّاس وفيهم يظهر مجد الله لهم.

فالقدّيسون لا يطلبون مجدًا شخصيًّا، بل يسعون إلى تمجيد الله. إنهم يُقَدَّسون ويُمَجَّدون بمجد الله نفسه، لا بمجدهم الخاصّ. حتّى القديسون الكبار المعروفون في العالم كالقدّيس شربل، وانشاء الله الأب بشارة ابو مراد يكون على طريقه، هؤلاء يُقدَّسون بمجد الله نفسه لا بمجد خاص. القدّيسون يأخذون مجدهم مجد الله، ولا يطلبون مجدًا شخصيًّا. عندما يسعى الإنسان إلى مجده الشّخصيّ، فإنّه يفقد قداسته، لأنّ القداسة تأتي من الشّراكة الرّوحيّة مع قداسة الله الذي هو ينبوع كلّ قداسة. بواسطة الرّوح القدس نتقدّس، الرّوح القدس يُظهر لنا قداسة الله فينا وفي العالم، وهذا يشير إلى أنّ مصدر قداستنا موجود في القدّاس الإلهيّ. قمّة الأسرار المسيحيّة هو سرّ الإفخارستيا في القدّاس الإلهيّ حيث نلتقي بالقدّوس نفسه، نلتقي بيسوع المسيح لتقديس نفوسنا.

ومن ثم يتّضح أنّه لا يوجد قداسة بدون الشّركة مع الله، وليس هناك قداسة شخصيّة للفرد بمعزل عن الله، بل إنّها تأتي من مشاركتنا في قداسته.

كيف نعيش القداسة؟ 

أوّلاً بالصّلاة والتّأمل، كثيرون منّا يريدون أن يتقدّسوا من دون صلاة ودون تأمّل، من دون ركوع، في عالم مليء بالضّجيج والتّشتت، يمكن للّصّلاة والتّأمل أن تكون ملاذًا هادئًا يتيح لنا الفرصة للاتّصال بالله بصورة أعمق. عندما نفتح قلوبنا وأذهاننا لسماع صوت الله ولتوجيهاته، نجد أن السّلام والسّكينة يملئان حياتنا. من يفكر دائمًا في الضّجيج يجد أن الضّجيج في داخله أصعب بكثير من الضّجيج الخارجيّ. نحن لا ننزعج من الضّجيج الخارجيّ بقدر انزعاجنا من الضّجيج الموجود في عقولنا وأفكارنا ونفوسنا، احيانًا لا نستطيع أن نهدأ للحظات. بعض النّاس فكرهم مملوك لا يعرفون معنى الصّمت الدّاخليّ. الصّمت الخارجيّ احيانًا هو علامة ضجيج داخليّ، وإذا صمت أحدهم فهذا لا يعني أنّه يصلّي، ممكن أن يكون يائسًا، بائسًا ومحبطًا، حزينًا وحيدًا، الوحدة تقتل.

ثانيًا بالتّوبة والتّغيير، يدعونا الله دائمًا إلى التّوبة والتّغيير، ولكنّه أيضًا يقبلنا كما نحن. هناك اشخاص إذا استحالت التّوبة عندهم ينظرون إلى أنفسهم نظرة دونيّة أيّ أنّهم لا يستطيعون أن يتوبوا، إنّهم خاطئون ولا يستحقّون أيّ كرامة وليس لهم أيّ قيمة، هذه كلّها أفكار ليست بالضّرورة أن تكون من الله، ممكن جدًّا أن تكون أفكارًا من الشّرير، لأنّ الشّرير يهمّه أن يهدّم نظرتنا إلى ذاتنا، وأن ننظر إلى أنفسنا نظرة سلبيّة، لكن الله أخذنا كما نحن، وعندما رأى عدم مقدرتنا على تخليص ذاتنا، نزل وخلّصنا بالرّغم من كلّ عيوبنا ونواقصنا، خلّصنا بالصّليب. نحن نقول "الحامل خطايا العالم"، يسوع غير خاطئ يشبهنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة، صُلِب لأنّه حامل خطايا العالم كلّها. يسوع آمن بنا، وليس نحن فقط من يؤمن به. إيماننا به لا يغيّر فيه شيئا لأنّه هو الكمال، بينما إيمانه بنا هو كلّ العظَمَة. إيمانه بنا يغيّرنا ويخلّصنا ويجعله يقبل الصّليب ويفتدينا. عندما نكون مستعدّين للتّوبة نجد أن الله يمدّ يده ليساعدنا في التّغيير والنّموّ الرّوحيّ.

الطّريق سالكة للقداسة بالمحبّة والتّسامح. يقول الكتاب المقدّس إنّ "المحبة تغفر جمًّا من الخطايا"، فاذا احببنا احدًا لا نعود نرى خطاياه ولا النّواقص التي فيه، لذلك قال شيكسبير إن " الحبّ أعمى"، عندما نحبّ أحدًا لا نعود نرى عيوبه ويصبح في عيوننا ملاكًا أو قدّيسًا عظيمًا، لذلك الكتاب المقدّس قال إنّ المحبّة تغفر جمًّا من الخطايا، ولو أحبّ النّاس بعضهم كانوا بنوا بعضهم، كانت المغفرة والمحبّة والتّسامح تبني مجتمعًا مختلفًا جدًّا عن المجتمع الذي نعيش فيه. التّسامح هو المفتاح لتجربة القداسة في حياتنا اليوميّة. إذا لم نستطع أن نسامح عبثًا نسعى أن نكون قدّيسين. أحد شروط القداسة هو الغفران، لذلك لا يقول يسوع أيّ شيء خاطئ أو يقوم بأيّ عمل خاطئ، يسوع على الصّليب، ولكي يُظهر كماله ومقدرته الإلهيّة لم بقم بأعجوبة ليخلّص نفسه، الأعجوبة الأكبر كانت إن قال "اغفر لهم يا ابتاه لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون". عندما نمارس المحبّة والتّسامح تجاه الآخرين، نعكس صورة الله في عالمنا ونساعد في نشر الخير والسّلام.

أذكر عندما كنت كاهنًا جديدًا، درست في روما وعدت إلى لبنان، استدعاني الرّئيس العام لكي يعيّنني في خدمة جديدة، أراد أن يعيّنني في الإكليركيّة الصّغرى أيّ في المدرسة، لكي أربّي جيلاً من الإكليركيّين، قلت له حضرة الأب العام أنا في سنّ صغيرة أحتاج إلى من يربيني في الحقيقة وتطلب منّي أن اربّي؟ لكن الرّبّ كان يعطيني القّوة لكي أربّي لأنّه كان من الضّروري جدًّا أن أربّي نفسي لكي أستطيع أن اربّي غيري. حتّى الأهل الذين لا يتعبون على تربية أنفسهم لا يستطيعون أن يربّوا أجيالاً، وبالأمس أعطيت مثلاً في صغبين وتحدثت عن قوّة اللّسان، فعندما يقول أب لابنه بأنّه فاشل وغير نافع ولا يصلح لشيء وغيرها من العبارات التي تحطّم الولد، هذا الكلام يحوّل الولد إلى ما يقوله له والده أو أهله، فالكلمة تطبع نفسيّة الإنسان، ولذلك عندما يكبر الأولاد لدى أهل ربّوهم بهذه الطّريقة، ينتقمون من أهلهم ولذلك نرى أهل مهملين، تخلّى عنهم اولادهم، لا يهتمون بهم ولا يحترمونهم ولا يخدمونهم. فالتّربية هي زرع والإنسان يحصد ما يزرعه.

وبالعودة إلى المدرسة التي عيّنني فيها الرئيس العام، أنا كنت أمنع الطّلاب أن يعتذروا، والذي كان يعتذر كان يُقاصص، ممنوع أن يصل أساسًا إلى الاعتذار. الممنوع هو أن نقوم بفعل أيّ شيء يدفعنا إلى الاعتذار. الاعتذار لا يلغي الخطأ وخصوصًا عندما يستعمل كوسيلة.

سأعطي بعض الأمثال عن القداسة من حياة القدّيسين:

القدّيس فرنسيس الأسّيزيّ الذي أسموه المسيح الثّاني: يعتبر القدّيس فرنسيس واحدًا من أبرز القدّيسين الذين عاشوا حياة البِرّ بشكل نادر. كانت حياته مليئة بالتّواضع والتّضحية، كان من عائلة ثريّة جدًّا، باع كلّ شيء ووزعه على الفقراء وخلد إلى حياة الصّلاة والتّأمّل وأسس رهبنة عظيمة. كانت حياته مليئة بالتّواضع والتّضحية والصّلاة وكان يرى الله في كلّ مخلوق من حوله، خصوصًا الفقراء.

القدّيسة تيريزا الطفل يسوع كانت تمتاز ببساطتها وقداستها العميقة. حياتها كانت عملاً ديريًّا وأعمالاً صغيرة كانت تقول بإنّها أهم من الإنجازات الضّخمة. نجد اليوم أشخاصًا لديهم انجازات عظيمة لكن ليس لديهم قداسة، بينما أعمال القدّيسة تيريزيا كانت قمّة القداسة على الرّغم من أنّ حياتها كانت قصيرة نسبيًّا، إلّا أنّها عاشتها بكل مرارتها وفرحها بثقة كاملة بالله وبمحبّته التي لا تعرف حدودًا.

المكرّم الأب بشارة أبو مراد المخلصيّ هو ابن مدينة زحلة الجميلة، وابن الرّهبانيّة الباسيليّة المخلصيّة التي خدمت هذه المنطقة أجيالاً واجيال وابن هذه الأبرشيّة المقدّسة، ونجم الكنيسة الملكيّة الكاثوليكيّة المتلألئ. كان يتّسم بروح التّواضع العميق والتّفاني في خدمة الله والإنسانيّة. كما كان قدوةً مُشعة في طريق الفضيلة والغفران والتّسامح. كانت حياته مثالًا يُحتذى به للإيمان الرّاسخ وعمل الخير الذي يحرم الذّات كي يمنح الآخر، الذي ينقّص ما له كي يزيد ما لغيره.

أيّها الأحبّاء، إنّ تحقيق القداسة في حياتنا ليس مجرّد مهمة، بل هو مسار روحي يتطلّب التّفاني والتّفكير العميق والتّحوّل الشّخصيّ. إنّها رحلة مستمرّة نخوضها بثقة بالله واعتمادٍ على نعمته. لندعو الله دائمًا أن يمدّنا بالقوّة والإرادة لنحيا حياة قداسة تعكس محبّته وسلامه في عالمنا.

ممكن للإنسان أن يكون لديه كلّ شيء، لكن إذا لم يكن لديه القداسة فهو لا يملك شيئًا.

ختامًا أشكر الشّباب على حضورهم اليوم، إنّهم مشاريع قداسة."