لبنان
01 آب 2022, 11:50

الأباتي محفوظ في قدّاس الشّكر: رهبانيّتنا سوف تظلّ أمينة بالوقوف إلى جانب شعبها

تيلي لوميار/ نورسات
بعد انتخابه رئيسًا عامًّا للرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة، ترأّس الأباتي هادي محفوظ قدّاس الشّكر في المقرّ العامّ لرئاسة الرّهبانيّة- دير مار أنطونيوس- غزير، بحضور ممثّل رئيس الجمهوريّة وزير السّياحة في حكومة تصريف الأعمال وليد نصّار، النّائبين سليم الصّايغ وسيمون أبي رميا وفاعليّات سياسيّة ودينيّة.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى الأباتي محفوظ عظة قال فيها بحسب "الوكالة الوطنيّة للإعلام": "نعيد اليوم عيد تلاميذ مار مارون الشّهداء الّذين استشهدوا تعلّقًا بإيمانهم والّذين وضعوا نصب عيونهم الحقيقة والحقيقة عن الرّبّ يسوع فقط. هم تعلّقوا به، كما علّم الإنجيل وعلّمت الكنيسة عنه. هم أحبّوه حبًّا جمًّا، فراحوا يقرأون الكتاب المقدّس بشغف. يفتّشون في حنايا صفحاته عن الطّريقة الّتي عاش فيها الرّبّ يسوع وعن فحوى تعاليمه وعن فرادة ما عمله. راقبوه، من خلال الكتاب المقدّس، كيف كان يحنّ، ويشفي، ويغفر، ويعلّم ويتلفّظ بالطّوبى وبأعذب الكلمات. هو أعلن الطّوبى لمن يثبت في الحقّ، حتّى في خطر المضايق وخطر الاستشهاد. لقد سمعوا القدّيس بطرس يصف كلّ أعمال يسوع بأنّه جال يصنع الخير. لقد كان يصنع الخير لكلّ إنسان، بدون أيّ تمييز، وخصوصًا كان قلبه ينفطر حزنًا أمام كلّ ضعيف ومحتاج فيحنو عليه ويمنحه الخير، بدون أيّ تمنين.

في المقابل، يبرز أشخاص في الإنجيل شجبهم الرّبّ يسوع. فها نحن قد سمعنا نصًّا من إنجيل لوقا اختارته اللّيتورجيا للتّعبير عن معنى هذا العيد، عيد تلاميذ مار مارون الشّهداء، وهو نصّ يندرج في إطار أشمل، وفيه يوجّه الرّبّ يسوع كلامًا قاسيًا، شديد القساوة، إلى أشخاص من أبناء عصره، يرفضون الحقيقة المتمثّلة به ويخنقون جمال الحياة عند الآخرين، ويبتعدون عن المحبّة للإنسان الآخر، خصوصًا الضّعيف والمحتاج.

إخوتي الأحبّاء، كلام يسوع لا يحدّ بزمان، ولا بمكان. وهو يتوجّه إلى كلّ إنسان. صفحات الإنجيل، هي صفحات حياة، حياة لما تروي، وحياة لمن يقرأ كلماتها ويحفظها. كلام يسوع العذب، كما القاسي، ولو توجّه في الماضي إلى اشخاص معيّنين، هو إلى كلّ إنسان، أيّ أيضًا إلى كلّ منّا، في كلّ يوم، بدون استثناء. تجربة كلّ إنسان هي أن يبدأ بتقييم الآخر على أساس معيار معيّن، وينسى أن يطبّق المعيار على ذاته. فعلى كلّ منّا تطبيق معايير الحقّ والخير والمحبّة، وخصوصًا محبّة الضّعيف والمحتاج، على ذاته أوّلاً. هذا يعني عنادًا في عيش هذه المعايير. وهذا يعني أيضًا أنّنا ننظر إلى أبعد من أفق الأرض المغلق، ننظر إلى رحاب السّماء، ونحبّ الآخر. الشّهادة هي الاعتراف أنّ أفق الأرض غير مسدود بشكل يدفع الإنسان إلى تدبير ذاته، في هذه الأرض، ولو على حساب الخير والحقّ وعلى حساب الآخرين. الشّهادة هي التّمسّك بانفتاح أفق الأرض على أفق السّماء، على عالم الله، وبالتّالي هي المناضلة، في اليوميّات من أجل الحقّ، مهما كانت الصّعوبات أو الظّروف.

لا شكّ في أنّنا نعيش في لبنان أزمة، بل أزمات، شديدة وثقيلة كلّ الثّقل. هناك شهداء أحياء، بسبب الظّروف جميعها، وهناك شهداء سقطوا، خصوصًا شهداء انفجار المرفأ، الّذين نطلب لهم الرّاحة الأبديّة. ويجهد الكثيرون في تأمين لقمة العيش الكريم، أو نوعيّة عيش كريمة. المصاعب كثيرة. ولكن، الشّهادة الحقيقيّة هي في المثابرة، وهذا ما عبّر عنه ربّنا يسوع عندما دعا إلى حمل الصّليب اليوميّ. هو علّمنا أنّ في الصّليب المجد. في مجابهة الصّعوبات اليوميّة، علينا بالخصوص أن نكون متضامنين. من أخطر مخاطر الأزمات هو أنّ البعض يستغلّون ضعف الضّعيف ليتجبّروا في الظّلم. هؤلاء هم الّذين يوجّه إليهم يسوع كلامه القاسي. ومن مآسي الأزمات هي أنّ الضّعيف يضعف أكثر، وهنا تكمن مسؤوليّة المقتدرين، مسؤوليّة إظهار الحنوّ والخير والطّيبة والتّضامن والمساعدة. هؤلاء هم الّذين يتوجّه إليهم الرّبّ يسوع بالطّوبى. وهذه هي الشّهادة الحقيقيّة.

مع كلّ هذه المعاني، وفي عيد تلاميذ مار مارون الشّهداء، نحتفل، أبًا عامًا ومدبّرين عامّين، بقدّاس الشّكر، بعد أن منحنا إخوتنا الرّهبان ثقتهم، أوّل البارحة. إنّ هذا الاحتفال، معكم، أيّها الأصدقاء الأحبّاء، إنّما هو شهادة عمّن هي رهبانيّتنا، بتقاليدها العريقة وبتفاعلها معكم ومع الشّعب كلّه.

الرّهبانيّة، وهي خليّة في الكنيسة، هي من أعرق المؤسّسات في العمل الدّيموقراطيّ وفي الانتخابات. وهذا ما شهدت له أوّل البارحة.

رهبانيّتنا، تريد أن تكون شهادة رجاء وضياء فرح في زمن هو أكثر من أيّ شيء زمن أزمات وأحزان.

رهبانيّتنا، تعشق أن تكون مع لبنان وفيه. نحن لا نعلم عن رهبانيّة في الدّنيا كلّها وضعت اسم بلدها في اسمها. رهبانيّتنا اسمها الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة. هذا يعبّر أنّ لبنان هو في dna خاصّتها، وأنّ اسمه يجري في عروقها. هي تسمّت بالبلديّة نسبة إلى البلد لبنان وفرحت في تواجدها الأصليّ في بلدان أخرى على علاقة خاصّة بلبنان. حتّى التّواجد خارج النّطاق الجغرافيّ لكنيستنا المارونيّة، كان مرافقة للّبنانيّين وللموارنة في ترحالهم وتغرّبهم عن لبنان.

عمر رهبانيّتنا هو ثلاثمائة وسبع وعشرون سنة، وهو امتداد لتاريخ رهبانيّ طويل في الكنيسة المارونيّة. فعندما ينظر إنسان إلى راهب منّا، يكون ناظرًا تقليدًا عريقًا، مليئًا بالصّلابة وبالخير وبالقيم. لست بمتغاض عن شوائب تعتري كلّ إنسان وكلّ مجتمع، لكن في هويّتنا وفي تعاليمنا وفي الخلفيّة الّتي نتنشّأ عليها إرادة الخير وإرادة المحبّة وخصوصًا محبّة الضّعيف والمحتاج، وهي هذه الهويّة وهذه التّعاليم وهذه الخلفيّة الّتي ينبثق منها كلّ قرار وكلّ عمل رهبانيّ جماعيّ.

في الأسبوع الفائت، لم يكن هناك فقط انتخابات عندنا، بل كان هناك أيضًا مجمع عامّ، فيه تدارسنا أوضاع الرّهبانيّة ومقوّمات رسالتها ومقاصدها. لقد تمحورت الكثير من النّقاشات حول كيفيّة الوقوف بالقرب من شعبنا، وخصوصًا الضّعفاء منهم. وأظهر الجميع العزم على استنباط كلّ الوسائل المتاحة في الرّهبانيّة من أجل تفعيل الوقوف إلى جانب المحتاجين، وفق خطّة ترسمها الرّهبانيّة، وتعتمد، من جهة على الإنماء وخلق فرص العمل، ومن جهة على المساعدات الآنيّة والعينيّة. لقد كان مجمعًا ترأّسه السّلف الحبيب الأباتي نعمة الله الهاشم الّذي هو، بحقّ، ظاهرة فريدة في تاريخ رهبانيّتنا، وهو الّذي تميّز بالصّلابة الإداريّة، وبالوداعة وبالاهتمام بالضّعيف والمحتاج والفقير. شكرًا لكم، قدس الأب العامّ السّابق، على من أنتم وعلى ما عملتم. ومعه أشكر مجمع الرّئاسة العامّة السّابق، خصوصًا حضرة النّائب العامّ السّابق الأب كرم رزق الجزيل الاحترام، هذا المجمع الّذي عمل بكدّ وفرح وتناغم لحمل مشعل الرّهبانيّة عاليًا. مع مجمع الرّئاسة العامّة الحاليّ سوف نتابع مسيرتهم الحميدة. كما أعرب عن فرحي بأنّ مجمع الرّئاسة العامّة الحاليّ يتشكّل من حضرة النّائب العامّ الأب البروفيسور جورج حبيقة، والأب ميشال أبو طقة، والأب جوزيف قمر والأب طوني فخري، الّذين، فردًا فردًا، تجمعني معهم، أيّام واختبارات وإدارات جميلة.

تريد الرّهبانيّة أن تكون أمينة لتاريخها بالوقوف إلى جانب شعبها، وسوف تظلّ، وسوف تكون كذلك، إن شاء الله. ليس من عاداتنا ترك شعبنا، بل إنّنا نهوى أن نكون بقربه. لذلك، سوف نتابع وضع الخطط ونفعلها لكي تصل كلّ مساعدة ممكنة إلى من هو مستحقّ فعلاً، لأنّه، وللأسف أيضًا، في زمن الأزمات، لا يصدق الكثيرون. تتمّ الرّهبانيّة ذلك، من خلال أديارها ومؤسّساتها وطاقاتها البشريّة والطّاقات الأخرى المتنوّعة. ولا تعتمد الرّهبانيّة فقط على ما لديها من قدرات مادّيّة متنوّعة، بل هي تلجأ إلى أبنائها الّذين هم مدعاة فخرها بنوع عجيب، عنيت بهم القدّيسين مار شربل والقدّيسة رفقا ومار نعمة الله والطّوباويّ الأخ اسطفان. في رهبانيّتنا، نسمع صوت الرّبّ يقول: "لا تخف أيّها القطيع الصّغير"، فلا نخاف، ولا نتشكّى، ولا نتباكى ولا نتململ، بل نصلّي ونعمل. نحن نرى التّاريخ بشكل أوسع من حاضر مأزوم. إنّه تاريخ طويل، تحت أنظار سيّد التّاريخ، ربّنا وإلهنا. نعتمد عليه لكي لا نخاف ونسأله العضد لنا ولشعبنا. رجاؤنا أن يلاقينا الجميع في عدم الخوف وفي الرّجاء، حتّى ولو كانت كلّ المعطيات تشير إلى غير ذلك. سوف نجابه الأزمة سويًّا وسوف نعبرها. هي لن تبقى. ونحن، كشعب وكوطن، باقون، وباقية معنا بسمتنا ودائم معنا فرحنا لأنّنا على الله متّكلون. فيا ليتنا جميعًا لا نخاف.

رهبانيّتنا اللّبنانيّة، الّتي يبلغ عمرها أكثر من ثلاثمائة، تمدّ يدها إلى كلّ قوى المجتمع، جميع القوى على حدّ سواء، من قوى سياسيّة ومجتمعيّة، ومدنيّة وإنمائيّة. وهي أيضًا تنظر بفرح إلى أصدقائها في الانتشار وفي الخارج. هي تفرح بكلّ من يشاطرها معتقداتها وقيمها عن هذا الوطن الفريد والحبيب، الوطن اللّؤلؤة. وفي الشّأن الوطنيّ، تضع رهبانيّتنا ذاتها تحت عباءة سيّد بكركي، صاحب الغبطة والنّيافة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي الكلّيّ الطّوبى. وتحترم رهبانيّتنا كلّ موقع دستوريّ في البلاد، وكلّ موقع محصّن بالقانون والعرف والتّقاليد. أنتهزها هنا فرصة لأتوجّه بالشّكر العميق إلى فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون الّذي أوفد معالي الوزير الأستاذ وليد نصّار، صديق أيّام الدّراسة في مدارس جبيل، ليشاركنا في قدّاس الشّكر هذا. معالي الوزير، نحن نصلّي من أجل فخامته، ومن أجل كلّ مسؤول في الوطن الحبيب، لكي نستطيع، جميعنا معًا، تخطّي هذه المرحلة المحفوفة بالمصاعب والمخاطر.

في هذه المناسبة، لا يسعني إلّا أن أتوجّه إلى قداسة البابا فرنسيس، شاكرًا إيّاه على محبّته للكنيسة جمعاء وللبنان ولرهبانيّتنا. أتوجّه إليه، فيما أعلن جهارًا طاعتي الكاملة له ومحبّتي البنويّة. شكرًا إلى نيافة الكاردينال ليوناردو ساندري رئيس مجمع الكنائس الشّرقيّة في حاضرة الفاتيكان على عنايته بالرّهبانيّة كلّ العناية الأبويّة. الشّكر الكبير إلى سعادة السّفير البابويّ المطران جوزف سبيتري. بالرّوح الكنسيّة والفطنة والدّراية الّتي يتمتّع بها، رعى شؤون الكنائس الكاثوليكيّة في لبنان، ومنها رهبانيّتنا، وأقام أفضل العلاقات مع نسيج المجتمع اللّبنانيّ. نتمنّى له جميعًا التّوفيق في مهمّته الجديدة كسفير بابويّ في المكسيك.

وأريد أيضًا أن أتوجّه إلى صاحب الغبطة والنّيافة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي الكلّيّ الطّوبى، لأعبّر له عن عميق الشّعور البنويّ الّذي ينتابني وعن صلاتي وصلاة الرّهبانيّة لكي يعضده الرّبّ في قيادة سفينة كنيستنا وفي دوره الوطنيّ والمدنيّ والرّوحيّ لأجل خير كلّ إنسان في وطننا الحبيب لبنان.

أشكر جميع أصدقاء الرّهبانيّة، خصوصًا الحاضرين اليوم بيننا، لأنّهم لا يتأخّرون أبدًا عن موعد إظهار قربهم من الرّهبانيّة وإيمانهم بها وبدورها. إنّكم أحبّاء لنا، أحبّاء أحبّاء. نفرح بكم كلّما رأيناكم وكلّما تواصلنا معكم. شكرًا لمن أنتم ولما تعملونه.

أنتهزها فرصة لأشكر الّذين تقدّموا بالتّهاني بطريقة أو بأخرى، وإلى من كتبوا على وسائل التّواصل الاجتماعيّ متمنّين الخير والبركة. وأشكر، مع الاعتذار، كلّ الاعتذار، الّذين اتّصلوا على هاتفي الخاصّ أو أرسلوا رسائل نصّيّة عليه، ولم أستطع بعد الإجابة بسبب طبيعة الأيّام الأولى. ولكنّني بالطّبع سوف أجيب.

هي فرصة لأشكر كلّ من تعب عليّ قبل دخولي الرّهبانيّة، خصوصًا أبي ورحمها الله أمّي، والعائلة، وبعد دخولي إليها، جميع الرّهبان الّذين اعتنوا بتنشئتي وبمسيرتي، مع حضرة الآباء المدبّرين العامّين الجزيلي الاحترام.

ألا أعطانا الرّبّ أن نمجّده على الدّوام. آمين".