لبنان
03 آب 2016, 15:01

الأسقف جوزف نفاع: أشكر الله أنّه وثق بي يوم أنا نفسي لم أجد الشجاعة الكافية للوثوق بقدرتي على حمل ما هو مطلوب منّي

بعد الاحتفال برتبة سيامته أسقفًا معاونًا بطريركيًا بوضع يد الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، ألقى الأسقف جوزف نفاع كلمة جاء فيها:

غبطة أبينا السيّد البطريرك الكردينال، ما بشارة الراعي الكليّ الطوبى
Son excellence reverendissime Mgr Gabrelle Caccia
Nonce Apostolique au Liban
أصحاب السيادة السامي احترامهم، قدس الآباء العامين والرئيسات العامات، أصحاب السعادة والمعالي، حضرة الفعاليات المدنيّة والعسكريّة والتربويّة، آبائي الأجلاّء، أخواتي الفاضلات، أيّها الأبناء الأحبّاء
أقف بينكم اليوم تماما كما اعتدت على الوقوف معكم في كلّ يوم من خدمتي الكهنوتيّة. لا أشعر بأيّ غرابة فأنتم كلّكم أهلي وشركائي في الرسالة. وعربون افتخاري أنّني منكم خرجت وإليكم أُرسل.
أشكر الله أنّه وثق بي يوم أنا نفسي لم أجد الشجاعة الكافية للوثوق بقدرتي على حمل ما هو مطلوب منّي. لذلك أضع كلّ اتكالي عليه فهو من اختارني بدون استحقاق وهو من سند دومًا ضعفي. أشكر غبطة أبينا السيّد البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي الكليّ الطوبى على الثقة الغالية التي أولاني إيّاها ومعه أشكر كلّ السادة الأساقفة أعضاء سينودس كنيستنا المقدّس على انتخابهم لي معاونًا بطريركيًا. ولكنّي أشكر الله أيضًا على كلّ فرد منكم، أنتم الذين أنبتّم فيّ بذرة الدعوة التي زرعها الله، وساعدتموني على العناية بها بالشكل الصحيح. لقد منحني الربّ منذ ولادتي عائلةً تعيش إيمانها ببساطة، علمتني أن أشكر الله على كلّ شيء، لثقتها الكبيرة بأنّه يدبّر لنا الخير دومًا وبدون انقطاع. هذا الإيمان الراسخ شربه أهلي، وشربته أنا أيضًا، من مياه عندقت، قريتي الصلبة كصخرة بطرس. هناك، في تلك البقعة الخضراء الراسية على آخر الحدود، سمعت لأوّل مرّة كبارنا يردّدون: إيماني إيمان بطرس وإيمان بطرس إيماني، فتعلمت معنى أن أكون ابنًا للكنيسة، يثق بقداستها. وأكبر هديّة قدمتها لي عائلتي كانت أن علّمتني الالتزام بالرعيّة فتربيّت في أحضان كنيسة مار مارون في طرابلس وشغفت هناك بجمال أمّي الكنيسة، بروعة بنيانها ومهابة احتفالاتها والفرح العامر يملأ قلوبنا مع نشاطات فوج الكشافة والفرسان والطلائع والكورال الذي لم يقتصر دوره على الترتيل بل امتدّ إلى إقامة الحفلات يعود ريعها للأطفال الأيتام؛ وها هم اليوم يرافقون هذه الرسامة بخدمتهم المميزة، فشكرًا لهم. أمّنت لنا رعيّة مار مارون، أيّام الحرب، سورًا روحيًّا حمانا من الضياع والتشتت.
في حضن هذه الرعيّة نمت دعوتي الكهنوتيّة واستحوذت على كلّ كياني. وفي غزير، اسمحوا لي أن أقول، أوّل ما تعلّمته كان كيف أكون رجلاً ثمّ مؤمنًا ثمّ مارونيًّا عالمًا، على غرار أسلافنا العظماء. وأكملت الكليّة الحبريّة للاهوت، في جامعة الكسليك، صقل فكرنا اللاهوتيّ والنقديّ عبر جمهور من الأساتذة العظام كانت تقشعرّ أبداننا احترامًّا لمجرّد دخولهم إلى قاعات التدريس. أشكر الله ليل نهار على الأساقفة الذين رعو مسيرتي في التنشئة من المطران أنطون جبير الذي قبلني في عداد طلاّبه الإكليريكيّين إلى المطران جبرائيل طوبيا الذي رسمني شمّاسًا ثمّ كاهنًا بوضع يديه وجعلني أُشغف بالعلم فوجّهني أوّلاً إلى الجامعة اللبنانيّة للتخصّص في الفلسفة، ومن ثمّ طلب لي من المجمع الشرقيّ منحةً لدراسة اللاهوت الكتابيّ في الجامعة الحبريّة الغريغوريّة في روما. ولقد شاءت الأقدار أن تصلني الموافقة على المنحة بعد انتقال المطران طوبيا إلى الأخدار السماويّة، فسافرت مزودّا ببركات سيادة المطران رولان أبو جودة، المدبّر البطريركيّ على أبرشيتنا آنذاك. ولقد تابع المثلث الرحمات المطران يوحنّا فؤاد الحج مسيرتي العلميّة وشجعني على استكمالها إلى أن وصلت إلى درجة الدكتوراه قبل أن أعود أدراجي إلى الوطن. أمّا القسط الأكبر من عملي فكان مع سيادة المطران جورج بو جودة الذي أحاطني دومًا بعاطفة أبويّة، مباركًا كلّ أعمالي ونشاطاتي.
لا بدّ أن أشكر جميع المؤسسات والجامعات التي أولتني ثقتها وسمحت لي أن أستثمر وزناتي فيها. بادئ ذي بدء لا يمكنني أن أنكر فضل إكليريكيّة مار أنطونيوس البادواني في كرم سدّه، التي احتضنتني وألقيت فيها أولى دروسي الجامعيّة. عملت مع رؤسائها يدًا بيدّ على إنمائها وتطويرها، مع حضرة المونسينيور نبيه معوض رائد التطوير فيها، إلى الأب شربل أبي خليل الذي حولها إلى صرح جامعيّ مع الجامعة الأنطونيّة، إلى الأب، المطران اليوم، موسى الحاج الذي أطلق حركة المؤتمرات العلميّة فيها، إلى الأب مارون أبي نادر الذي جدّد برامج التدريس والخوري نعمة الله حديّد الذي اهتمّ بالتنشئة الرعويّة وصولاً إلى حضرة الخوراسقف أنطوان مخائيل الذي فتح أبواب الدير أمام العلمانيّين لدراسة اللاهوت وللرياضات الروحيّة، كما افتتح مستوى الماستر، إن في اللاهوت أو في الزواج والعائلة مع جامعة الحكمة.
أشكر الكليّة الحبريّة للاهوت التي لم تنتظر عودتي من روما إلى أرض الوطن بل كلّفت حضرة الأب هادي محفوظ، رئيسها اليوم، الاتصال بي في عاصمة الكثلكة ليُسند أليّ تدريس مادّة التوراة، وأنا اليوم أنسّق فيها دروس برنامج رائد لدراسة اللاهوت على الانترنت مع الأب العميد زياد صقر يضمّ ثلاث مئة طالب عربيّ منتشرين في أربعة أقطار المسكونة. أستذكر بفرح كبير سنيّ العمل المثمرة في جامعة الحكمة مع الخوري خليل شلفون، مدير الجامعة اليوم، فمعه أسّسنا الكليّة وعملنا على تطويرها إلى أن صارت على ما هي عليه من نموّ وازدهار. كما أذكر الجامعة الأنطونيّة التي اعتبرتني دومًا فردًا من المسؤولين عنها، فعيّنني حضرة الأبّ أنطوان راجح، رئيسها السابق والأباتي حاليًّا، مديرًا للدروس في الفرع الثاني في كرم سدّه، فتمرّست على أصول الإدارة والعمل المؤسّساتيّ. أستذكر أيضًا بفرح اختبار التعليم في الجامعة اليسوعيّة لطلاّب من مختلف الكليّات، مسيحيّين ومسلمين. كانت تلك فرصةً فريدةً من نوعها للتفكير مع شباب لبنان الواعي والمثقّف.
هذه الخبرة الشبابيّة وجّهني الربّ إليها بشكل خاص يوم طُلب منّي أن أدير معهد مار يوحنا المهنيّ في كرم سدّه. من عالم اللاهوت والكتاب المقدّس قادني الروح إلى صفوف المحاسبة والمعلوماتيّة، إلى مختبرات الكهرباء وأدخلني أيضًا المطبخ في المعهد الفندقيّ. لم أفهم في البداية ما الذي أراده الله منّي. ولكنّي اليوم أشكره على ما اكتسبته في المعهد من خبرة في العمل الجماعيّ مع كافة أفراد الإدارة. ليس من السهل في يومنا هذا، وخاصّةً مع الضائقة الاقتصاديّة في لبنان، أن نحافظ على مؤسـسة تربويّة كانت ما تزال صغيرة. عملنا لأيّام ولليال، واضعين نصب أعيننا أنّ لا خيار آخر سوى النجاح. فكافأنا الربّ هذه السنة بنتائج مشرّفة في الشهادات الرسميّة، بطلاب احتلّوا المراتب الأولى في لبنان، في مختلف الاختصاصات.
أمّا الشكر الأكبر فللرعايا التي خدمتها والتي سأحتفل فيها بقداس شكر، من رعية مار مارون طرابلس، هذه العائلة المسيحيّة الصامدة والمتمسّكة بإيمانها الراسخ، إلى رعيّة السيدة  شكّا، هذا المختبر الرعويّ حيث تمرّس رعيل كبير من الكهنة على الخدمة والرسالة، إلى رعيّة مار شليطا عندقت، مسقط رأسي، التي منها تعلّمت عنفوان الإيمان ورفعة النفس عن الصغائر لأختم برعيّة مار روحانا بنشعي حيث عشت خبرةً راعويّةً حقيقيّةً بكلّ ما للكلمة من معنى طوال أربعة عشرة سنة، بنينا فيها يدّا بيد رعيتنا، إن من ناحية الحجر ولكن خصوصًا من ناحية البشر. في حذح القرية الصغيرة، رغم قلّة العدد، فاجأني إصرار الأطفال والشبيبة على عيش الإيمان. دفعوني هم لإتمام كلّ المشاطات الراعويّة المطلوبة، من ليتورجيّة وروحيّة ولجتماعيّة أيضًا. أتركها اليوم وفيها عدد لا يُستهان به من الشابات والشبان يدرسون اللاهوت في كرم سدّه.
واسمحوا لي بشكل خاص أن أشكركم أنتم الحاضرين معنا في هذا الاحتفال المقدّس. لقد تكبّدتم عناء الطريق، أتيتم من قريب ومن بعيد. أخصّ بالذكر سعادة السفير البابويّ، المونسينيور غابريللي كاتشا مع أصحاب السيادة الأساقفة والرؤساء العامّين والرئيسات العامّات مع مجالسهم الموقّرة، أشكر السيّدة الأولى السابقة مع أصحاب السعادة والمعالي النواب والوزراء والسفراء والقناصلة والقضاة والمديرين العامين والنقباء الحاليين والسابقين وممثليهم.  والقيادات العسكريّة وممثليهم. أشكر قدس الأباتيين والخوارنة الأسقفيّين والفعاليات المدنيّة والقائم مقامين ورؤساء اتّحاد البلديّات والفعاليّت التربويّة من رؤساء جامعات وعمداء ومدراء معاهد ومدارس مع مجالسهم وهيئاتهم التدريسيّة. أشكر آبائي الكهنة والرهبان والراهبات. أشكر رؤساء البلديات والمخاتير. ورئيسات ورؤساء الأخويّات والحركات الرسوليّة والخيريّة والاجتماعيّة، وأخصّ بالذكر كشّافة لبنان ومفوّضهم، الذين ساهموا في تنظيم هذا الاحتفال، وجوقة مار مارون والطلاب الأكليريكيّين على خدمتهم الملائكيّة. أشكر وسائل الإعلام التي رافقت هذا الاحتفال وبشكل خاص تيلي لوميير، نور سات التي قامت مشكورةً بنقله مباشرةً عبر أثير قنواتها. كما أشكر إتّحاد بلديّات الجبّة لسهرهم على التنظيم ولتعبهم الكبير. والشكر الكبير لهذا الجمع الغفير من الأبناء الأحبّاء. فأنتم أصدق دليل على حيويّة كنيستنا وقوّتها بخبرة شيبها وحماسة شبابها. وجود كلّ فرد منكم يعبّر عن اختبار عميق عشناه سويًّا في حقل الخدمة والرسالة. أرى في كلّ واحد وردةً يفوح منها عطر الإيمان. أضمّكم جميعًا باقةً رائعةً، أقدّمها للربّ واضعًا إيّاها عند أقدام أمّنا العذراء سيّدة هذا الصرح وحامية هذا الوادي المقدّس، لترعاكم بنظرها الوالديّ.
أختم بالقول، أنّني، ومنذ أن وعيت دعوتي الكهنوتيّة، وضعت نصب عينيّ صليب الربّ. ولذلك اخترت شعارّا لكهنوتي، عبارة بولس الرسول القائلة: "إنّي لم أشأ أن أعرف شيئًا وأنا بينكم، غير يسوع المسيح، بل يسوع المسيح المصلوب" (١ كور ٢:٢). وأعتقد أنّني أحسنت الاختيار. فالكهنوت سير يوميّ وراء المعلّم الإلهيّ على جلجلات هذا العالم. لذلك أبقيت هذا الشعار نفسه لخدمتي الأسقفيّة. فهذه الدرجة هي بعمقها حمل كامل للصليب، نعلّقه في أعناقنا لا للزينة بل لنتذكّر كلّ صباح أيّ عهد قطعناه مع الربّ. وتلبسنا الكنيسة في رسامتنا ثوبًا أحمرًا، لا للمجد، بل تمثّلاً براعينا، إذ ألبسه الجنود ثوبًا قرمزيًّا واقتادوه إلى الجلجلة ليُصلب. نحن نصطبغ بلونه، هو من أضحى من أجلنا «جرح من أعلى الرأس حتّى الأقدام».
وكم نحن اليوم مدعوّون إلى تجديد هذا الالتزام الجذريّ، في أيّام تستصرخنا فيها آلام مسيحيّي الشرق وشهداء الأيمان في أربعة أقطار العالم، يسقطون فيروون مجددّا، كما في أيّام الكنيسة الأولى، تراب الأرض بدمائهم الذكيّة، لتُنبت أزهار القديسة والقديسين.
لست بواهم ولا بحالم. قد لا أستطيع فعل الكثير. لا أدّعي القدرة على تغيير الواقع. ولكن أعد شعبي، بكلّ أطيافه، أن أحمل قضيّته، أن أحمل همومه حيثما يسمح لي الروح القدس أن أحملها. وفي كلّ موقع يرسلني إليه أبينا السيّد البطريرك، مار بشارة بطرس الراعي، الذي يجوب القارّات كلّها بلا توان ولا تعب، بحثًا عن أبنائه، يشجعهم ويقف إلى جانبهم.
وأعاهد إخوتي الأساقفة والرؤساء العامين والرئيسات العامات مع معاونيهم من كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين، إذ أوكل إليّ السيد البطريرك مهمّة العمل معهم على نشر تعاليم أمّنا الكنيسة المقدّسة وعلى تفعيل توصيات المجمع المارونيّ، أعاهدكم أن أكون معكم خادمًا لكلمة الله، نبع الحياة ومصدر كلّ النعم، بروح الأخوّة والتعاون، مطبقًا بذلك شعاركم يا صاحب الغبطة، أي العمل دائمًا بالشركة والمحبّة.
ربّي أنا ورقة بيضاء أكتب عليها كلّ ما تشاء، وفقط ما تشاء أنت.

آمين