مصر
18 حزيران 2020, 12:30

الأنبا بطرس فهيم: الأبديّة تبدأ من هنا

تيلي لوميار/ نورسات
عن الأبديّة كتب مطران المنيا للأقباط الكاثوليك الأنبا بطرس فهيم، فكتب نقلاً عن "المتحدّث الرّسميّ للكنيسة الكاثوليكيّة بمصر":

"قال سيّدنا يسوع المسيح له المجد: "أمّا أنا فجئت لتكون لهم الحياة، بل ملء الحياة" (يوحنّا 10: 10). وقال أيضًا: "الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنت الإله الحقّ وحدك ويعرفوا يسوع المسيح الّذي أرسلته" (يوحنّا 17: 3). وقال أيضًا: "الحقّ الحقّ أقول لكم من يسمع لي ويؤمن بمن أرسلني فله الحياة الأبديّة، ولا يحضر الدّينونة، لأنّه انتقل من الموت إلى الحياة. الحقّ الحقّ أقول لكم ستأتي ساعة وهي الآن حاضرة، حين يسمع الأموات صوت ابن الله، وكلّ من يصغي إليه يحيا" (يوحنّا 5: 24 – 25).

يسود في عالمنا الاعتقاد بأنّ الحياة الأبديّة هي حياة أخرى غير الّتي نعيشها، هي حياة ستأتي فيما بعد، بعد الموت. وهذا صحيح إلى حدّ ما، ولكن ليس كلّ الحقيقة، وهنا يطيب لي أن أوضح الحقيقة بكمالها. ليست الحياة الأبديّة منفصلة عن الحياة الحاضرة، وليس أخرى بمعنى الانفصال والانقطاع عن الحياة الحاضرة. صحيح أنّه في الأبديّة ستكون سماء جديدة وأرض جديدة. ولكن فيما تقوم الجدة؟ ليس الجديد هنا بمعنى المختلف والمغاير بلا امتداد وتواصل. ولكن الجديد يقوم في التّحوّل الّذي يحدث على نوعيّة الحياة ذاتها وطبيعتها. فالحياة الأبديّة هي مختلفة عن الحياة الحاضرة كما تختلف النّبتة عن البذرة الّتي تخرج منها نفس النّبتة، كما قال القدّيس بولس في رسالته إلى أهل كورنثس، ولكنّها مرتبطة بها ارتباطًا جذريًّا، وبدون البذرة لا تكون النّبتة، فطبيعة الحياة تختلف، نظرًا لطبيعة النّوعيّة والمناخ والبيئة الّتي تحتويها. فنوعيّة الحياة نفسها تختلف نظرًا لاختلاف طبيعة الأبديّة عن طبيعة الحياة الحاضرة في هذا العالم، الّذي يخضع لمعطيات الزّمان والمكان، أمّا في الأبديّة فلا زمان ولا مكان.

فنفس الإنسان الكائن الأرضيّ الّذي يدخل في الإيمان بالمسيح ويعتمد فيه وله من خلال الكنيسة ويتقدّس من خلال أسرارها وكلمة الله بفعل الرّوح القدس، عندما يموت وينحلّ جسده الأرضيّ هذا، سيقوم يومًا ما، نفس الشّخص الّذي مات روحًا وجسدًا، ولكن بعد أن يكون جسده نفسه الّذي عاش به على الأرض، أخذ طبيعة جديدة تناسب الحياة الأبديّة. وهذا ما حدث مع سيّدنا يسوع المسيح فقد قام بجسده الّذي عاش على الأرض وصلب ومات ودفن، قام هذا الجسد ممجّدًا وقد كانت ظاهرة عليه علامات المسامير ليظهر أنّه نفس الجسد، ونفس الشّخص الّذي مات، هو نفسه الّذي قام. ولكن بهيئة تناسب الحياة الأبديّة.

فمنذ أن تجسّد السّيّد المسيح دخلت الأبديّة في الحياة الحاضرة، واتّحد السّماويّ بالأرضيّ، والإلهيّ بالبشريّ. وحين صعد السّيّد المسيح للسّماء بجسده البشريّ القائم من الموت، أدخل البشريّ في الإلهيّ، والأرضيّ في السّماويّ والبائد في الأبديّ.

من هنا نفهم أنّ الحياة الأبديّة هي اتّصال وامتداد للحياة الأرضيّة، بعد أن تكون تجلّت كاملة ولبست صورة السّماويّ والأبديّ. والإنسان الّذي يموت هو نفسه الشّخص الّذي يقوم ولكن بفعل القيامة نفسه يحدث التّحوّل على طبيعة الشّخص نفسه، ولا يصير شخصًا آخرًا بل نفس الشّخص، بطبيعة وخصائص حياة أخرى تتوافق مع طبيعة الحياة الأبديّة وخصائصها.

ولذلك فالحياة الأبديّة لا تبدأ فقط بعد الموت، بل من هنا والآن على الأرض، الحياة الأبديّة تبدأ من الحياة الحاضرة، ومن لا يحيا حياة حقيقة، حياة خصبة، حياة الملء، حياة بالرّوح، حياة أبناء الله من خلال حياة الإيمان والرّجاء والمحبّة في الكنيسة، فسوف يحرم نفسه من هناء وسعادة الحياة الأبديّة، في المجد مع الله وملائكته وقدّيسيه. فالمسيحيّ شخص يعيش وقلبه مشرّع على الأبديّة، يعيش ورجلاه على الأرض ولكن عيناه مثبتة على السّماء. وهذا ما قاله بولس الرّسول: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (2 كور 5: 7).

أريد هنا أن أنبّه إلى الخطر الّذي يعيش فيه النّاس، وهم يظنّون أنّ لا علاقة ولا ارتباط بين ما يعيشونه على الأرض، وما سيعيشونه في السّماء وفي الأبديّة. فالفصل بينهما خطر، وليس من الإيمان الحقيقيّ في شيء. فما يزرعه الإنسان على الأرض، إيّاه يحصد في السّماء. فما نعيشه كلّ يوم، في واقع حياتنا، من محبّة وفرح وسلام وخدمة، وفعل الخير، هو تحقيق مسبق للأبديّة في واقعنا اليوميّ والأرضيّ. وما نعيشه ضدّ مبادئ الإنجيل، وتعاليم السّيّد المسيح، من شرّ وبغض وأنانيّة، يفصلنا تدريجيًّا، أو حتّى نهائيًّا، عن الملكوت وعن الأبديّة المجيدة. فبفضل الإيمان والاتّحاد بالمسيح، قد أُعطي لنا بنعمة الله أن نصنع، بشكل ما، أبديّتنا. وهذا ما يقوله السّيّد المسيح: "ملكوت الله هو فيكم" وفي ترجمة أخرى هو بينكم (لوقا 17: 21). وما عبّر عنه القدّيس بولس الرّسول في صلاته الرّائعة في رسالته إلى أهل أفسس: "... وأتوسّل إليه أن يقوّي بروحه على مقدار غنى مجده الإنسان الباطن فيكم، وأن يسكن المسيح في قلوبكم بالإيمان، حتّى إذا تأصّلتم ورسختم في المحبّة، أمكنكم في كلّ شيء أن تدركوا مع جميع القدّيسين ما هو العرض والطّول والعلو والعمق وتعرّفوا محبّة المسيح الّتي تفوق كلّ معرفة، فتمتلئوا بكلّ ما في الله من ملء" (3: 16– 19). وأيضًا: "فاقتدوا بالله كأبناء أحبّاء وسيروا في المحبّة سيرة المسيح الّذي أحبّنا وضحّى بنفسه من أجلنا قربانًا وذبيحة لله طيبة الرّائحة" (أفسس 5: 1– 2). هذا هو الملكوت المقيم فينا من الآن والّذي نرجو تحقيقه نهائيًّا في الأبديّة.

وهذا ما يجعلنا نعمل على تحقيقه بجدّ واجتهاد في الالتزام اليوميّ بتعاليم الإنجيل، وبالتّلمذة الحقيقيّة للسّيّد المسيح، وبالشّهادة لإيماننا وقيمنا ولمسيحنا من خلال سلوكنا اليوميّ كلّه. فالأبديّة هي علاقة واتّحاد مع الله، وهذه العلاقة وهذا الاتّحاد يبدأ من هنا والآن: من خلال الحياة بالرّوح، والانقياد، في كلّ شيء، لروح الله فيصير هو شريعتنا وحقيقتنا، من خلال حياة التّقوى، من خلال الصّلاة العميقة الحقيقة، من خلال المعموديّة والتّوبة والإفخارستيّا وكلّ الأسرار، من خلال الحياة في الإيمان بابن الله، من خلال حياة المحبّة العمليّة، وبذل الذّات لأجل الآخرين بالأخصّ الأكثر احتياجًا. فالحياة والسّعادة الأبديّة تتجلّى يوميًّا في فرح الإيمان، وفرح الحبّ، وفرح الحياة، وفرح الغفران والمسامحة، وفرح الرّجاء، وفرح الخدمة، وفرح الاتّضاع، وفرح العلاقات الإنسانيّة النّاضجة المتّزنة الّتي تشير إلى اتّساع القلب واتّساع الفكر الّذي يحتوي الجميع، من هنا تبدأ أفراح الأبديّة، وتكتمل هناك في السّماء وتصل إلى ملئها. وهذا يترجم ما يقوله القدّيس بولس: "... نسلك نحن أيضًا في حياة جديدة ..." (روم 6: 4)، وأيضًا: "كنتم قبلاً ظلمة أمّا الآن فنور في الرّبّ" (أفسس 5: 8)، وهذا هو التّأثير والمفعول والنّتيجة الحقيقيّة للإيمان المسيحيّ، فكونوا إذن "شاكرين الآب لأنّه جعلكم أهلاً لأن تقاسموا القدّيسين ميراثهم في ملكوت النّور" (كول 1: 12)."