الفاتيكان
30 تشرين الأول 2025, 06:55

البابا: بعد ستّين سنة، تبقى رسالة وثيقة ”في عصرنا-Nostra aetate“ ضرورة ملحّة

تيلي لوميار/ نورسات
بمناسبة الذّكرى السّتّين لصدور الوثيقة المجمعيّة NostraAetate" في عصرنا"، عُقد، مساء الثّلاثاء في قاعة بولس السّادس في الفاتيكان، لقاء شارك فيه البابا لاون الرّابع عشر إلى جانبرؤساء وممثّلي الدّيانات العالميّة وأعضاء السِّلك الدّبلوماسي المعتمدين لدى الكرسيّ الرّسوليّ، حول موضوع "السّير معًا في الرّجاء".

وللمناسبة، ألقى البابا كلمة بدأها بتحيّة سلاميّة قائلًا: "السّلام لكم!"، ليتابع ويقول بحسب الموقع الرّسميّ للكرسيّ الرّسوليّ: "يسعدني أن أتقدّم إليكم بأحرّ التّحيات وبخالص الشّكر لحضوركم ذكرى إعلان الوثيقة الرّائدة، وثيقة ”في عصرنا- Nostra aetate“.

موضوع اجتماعنا هذا المساء هو: ”السّير معًا في الرّجاء“. قبل ستّين سنة، زُرعت بذرة رجاء للحوار بين الأديان. واليوم، يشهد حضوركم على أنّ هذه البذرة قد نمت لتصير شجرة كبيرة، تمتدّ أغصانها في كلّ مكان، وتعطي ظِلًّا وتثمر ثمرًا وافرًا من الفهم والصّداقة والتّعاون والسّلام.

مدّة ستّين سنة، عمل رجال ونساء جاهدين لإحياء وثيقة ”في عصرنا- Nostra aetate“. سقوا البذرة، واعتنوا بالتّربة وحموها. بعضهم قدّموا حياتهم، شهداء من أجل الحوار، هم الّذين وقفوا ضدّ العنف والكراهيّة. لنتذكّرهم اليوم بشكر وامتنان. نحن المسيحيّين، إلى جانب إخوتنا وأخواتنا من الدّيانات الأخرى، نحن اليوم هنا بفضل شجاعتهم، وجهدهم، وتضحياتهم. في هذا السّياق، أشكركم بصدق على تعاونكم مع دائرة الحوار بين الأديان، ولجنة العلاقات الدّينيّة مع اليهود في دائرة تعزيز وَحدة المسيحيّين، ومع الكنيسة الكاثوليكيّة في بلدانكم. شكرًا لكم لقبول دعوتنا، وتشريف هذه المناسبة بحضوركم.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لقد تجلّت صداقتكم وتقديركم للكنيسة الكاثوليكيّة بشكل خاصّ في وقت مرض البابا فرنسيس الأخير ووفاته، برسائل التّعزية الصّادقة الّتي أرسلتموها، والصّلوات التي أقيمت في بلدانكم، وحضور من استطاع المشاركة في جنازته. وتجلّت نفس الصّداقة مرّة أخرى برسائل التّهنئة في مناسبة انتخابي حبرًا أعظم، وحضور بعضكم للقدّاس الافتتاحيّ. كلّ هذه العلامات تشهد على الرّابط العميق والدّائم الّذي يجمعنا، وهو رابط أعتزّ به بعمق.

إن كانت وثيقة ”في عصرنا- Nostra aetate“ قد غذّت الرّوابط بيننا، فأنا مقتنع بأنّ رسالتها ما زالت لها أهمّيّة كبيرة اليوم. لذا، لنأخذ لحظة لنفكّر في بعض أهمّ تعاليمها.

أوّلًا، وثيقة ”في عصرنا- Nostra aetate“ تذكّرنا بأنّ الإنسانيّة تقترب أكثر فأكثر بعضها من بعض، وأنّ مهمّة الكنيسة هي تعزيز الوَحدة والمحبَّة بين النّاس، رجالًا ونساء، وبين الأمم (راجع رقم 1).

ثانيًا، تشير إلى ما هو مشترك بيننا جميعًا. كلّنا ننتمي إلى عائلة بشريّة واحدة، في أصلنا وفي غايتنا النّهائيّة أيضًا. علاوة على ذلك، كلّ إنسان يسعى ليجد إجابات على ألغاز البشريّة الكبرى (راجع رقم 1).

ثالثًا، الأديان في كلّ مكان تسعى لتجيب على عدم استراحة القلب البشريّ. فكلّ ديانة، بطريقتها الخاصّة، تقدّم تعاليم وأساليب حياة وطقوسًا مقدّسة تساعد أتباعها على التّوجّه نحو السّلام ومعنى الحياة (راجع رقم 2).

رابعًا، الكنيسة الكاثوليكيّة لا ترفض أيّ شيء حقّ ومقدّس في هذه الأديان، والّذي يعكس "قَبَسًا من شعاع الحقيقة الّتي تنير جميع النّاس" (رقم 2). إنّها تنظر إليها باحترام صادق، وتدعو أبناءها وبناتها، إلى أن يعرفوا، بالحوار والتّعاون، ما هو صالح روحيًّا وأخلاقيًّا وثقافيًّا لجميع الشّعوب، ويحافظوا عليه ويعزّزوه.

أخيرًا، يجب ألّا ننسى كيف تطوّرت وثيقة ”في عصرنا- Nostra aetate“. في البداية، كلّف البابا يوحنّا الثّالث والعشرون الكاردينال أوغسطين بِيا بتقديم دراسة إلى المجلس تصف علاقة جديدة بين الكنيسة الكاثوليكيّة واليهوديّة. يمكننا القول، إذًا، إنّ الفصل الرّابع، المخصّص لليهوديّة، هو قلب وثمرة هذه الوثيقة بأكملها. ولأوّل مرّة في تاريخ الكنيسة، صار لدينا نصّ عقائديّ ذو أساس لاهوتيّ واضح يبيِّن الجذور اليهوديّة للمسيحيّة بأسلوب رصين مؤسّس على الكتاب المقدّس. وفي الوقت نفسه، وثيقة ”في عصرنا-Nostra aetate“ (رقم 4) تتّخذ موقفًا شديدًا ضدّ جميع أشكال اللّاسامية. وهكذا، تعلِّمنا الوثيقة في فصولها التّالية أنّنا لا يمكن أن ندعو الله حقًّا، أبًا للجميع، إن رفضنا معاملة أيّ إنسان، رجلًا أو امرأة، خلقهم الله على صورته، معاملة أخويّة. في الحقيقة، الكنيسة ترفض جميع أشكال التّمييز أو الاضطهاد بسبب العرق أو اللّون أو حالة الحياة أو الدّين (راجع رقم 5).

إذًا، فتحت هذه الوثيقة التّاريخيّة أعيننا على مبدأ بسيط ولكنّه عميق: الحوار ليس تكتيكًا أو أداة، بل هو أسلوب حياة، ومسيرة القلب الّتي تحوّل كلّ من يشارك فيها، سواء من يُصغي أو من يتكلّم. بالإضافة إلى ذلك، نحن نسلكُ هذه المسيرة دون أن نتخلّى عن إيماننا، بل نبقى فيه راسخين. لأنّ الحوار الحقيقيّ لا يبدأ بالمساومة، بل بالاقتناع، ونبقى متجذّرين بعُمق في إيماننا الّذي يمنحنا القوّة لنصل إلى الآخرين بمحبّة.

بعد ستّين سنة، تبقى رسالة وثيقة ”في عصرنا-Nostra aetate“ ضروريّة ضرورة ملحّة أكثر من أيّ وقتٍ مضى. خلال الزّيارة الرّسوليّة إلى سنغافورة، وفي اللّقاء بين الأديان، شجّع البابا فرنسيس الشّباب بالكلمات التّالية: "الله هو للجميع. وبما أنّ الله هو للجميع، فنحن كلّنا أبناء الله" (الّلقاء بين الأديان مع الشّباب، 13 أيلول/سبتمبر 2024). ذلك يدعونا إلى أن ننظر إلى أبعد ممَّا يفرّقنا وأن نكتشف ما يوحّدنا جميعًا. ومع ذلك، نجد أنفسنا اليوم في عالم تكون فيه مرارًا هذه الرّؤية غير واضحة. إذ نرى جدرانًا تُبنى من جديد، بين الأمم، وبين الأديان، وحتّى بين الجيران. ضجيج الصّراعات، وجراح الفَقر، وصراخ الأرض، كلّ ذلك يذكّرنا كم هي ضعيفة عائلتنا البشريّة. وقد تَعِبَ الكثيرون من الوعود، ونسي الكثيرون كيف يبقون راسخين في الرّجاء.

بصفتنا قادة دينيّين، تقودنا حكمة تقاليدنا المختلفة، نشارك كلّنا في مسؤوليّة مقدّسة: أن نساعد شعبنا ليتحرّر من قيود الأحكام المسبقة، والغضب والكراهيّة، وأن يتجاوز الأنانيّة والتّمركز على الذّات، نساعدهم ليتغلّبوا على الجشع الّذي يدمّر الرّوح الإنسانيّة والأرض. بهذه الطّريقة، يمكننا أن نقود شعبنا ليصيروا أنبياء زمننا، وأصواتًا تندِّد بالعنف والظّلم، وتشفي الانقسامات، وتعلن السّلام لكلّ إخوتنا وأخواتنا.

تحتفل الكنيسة الكاثوليكيّة هذه السّنة بسنة يوبيل الرّجاء. والرّجاء والحجّ على حدٍّ سَواء هما واقعان مشتركان في جميع تقاليدنا الدّينيّة. هذه هي المسيرة الّتي تدعونا إلى أن نسلكها وثيقة ”في عصرنا-Nostra aetate“، السّير معًا في الرّجاء. وعندما نقوم بذلك، يحدث شيء رائع: تُفتح القلوب، وتُبنى الجسور، وتظهر طرق جديدة حيث لم يكن يبدو أنّها ممكنة. وليس هذا عمل ديانة واحدة، وأمّة واحدة، أو حتّى جيل واحد. إنّها مهمّة مقدّسة لكلّ البشريّة، أن نحافظ على الرّجاء حيًّا، والحوار حيًّا، والمحبّة حيّة في قلب العالم.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، في هذه اللّحظة الحاسمة في التّاريخ، إنّنا مكلَّفُون برسالة كبيرة، أن نوقظ الحسّ الإنسانيّ وما هو مقدّس في كلّ إنسان، رجالًا ونساء. أيّها الأصدقاء، هذا هو السّبب الّذي من أجله اجتمعنا في هذا المكان، لنحمل المسؤوليّة الكبيرة، بصفتنا قادة دينيّين، ولنجلب الرّجاء للبشريّة الّتي يراودها اليأس مرارًا. لنتذكّر أنّ الصّلاة قادرة على أن تحوّل قلوبنا، وكلامنا، وأعمالنا، وعالمنا. إنّها تجدّدنا من الدّاخل، وتوقد فينا روح الرّجاء والمحبّة.

أتذكّر هنا كلام القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، الّذي قاله في أسّيزي سنة 1986: "إن أراد العالم أن يستمرّ في الحياة، وأراد البشر، رجالًا ونساء، أن يبقوا أحياء فيه، فإنّ العالم لا يمكنه أن يستغني عن الصّلاة" (كلمة إلى ممثّلي الكنائس والجماعات المسيحيّة والأديان العالميّة، 27 تشرين الأوّل/أكتوبر 1986).

ولذلك، أدعو الآن كلّ واحد منكم إلى أن يتوقّف للحظة في صلاة صامتة. ليحلّ السّلام علينا ويملأ قلوبنا."