البابا فرنسيس: المسيحيّ الّذي يُصلّي لا يخاف شيئًا
"لقد قدّم لنا يسوع مثال صلاة مستمرّة، تتمّ بمثابرة. إنّ الحوار المستمرّ مع الآب في الصّمت والعزلة هو أساس رسالته كلّها. تخبرنا الأناجيل أيضًا عن توصياته للتّلاميذ لكي يصلّوا بإلحاح وبدون كلل. ويذكّرنا التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة بالأمثال الثّلاثة الّتي نجدها في إنجيل القدّيس لوقا والّتي تسلّط الضّوء على هذه الميزة للصّلاة.
على الصّلاة أن تكون أوّلاً شُجاعةً: مثلَ الرّجل في المثَل الّذي، وإذ وجب عليه أن يستقبل ضيفًا قدم عليه فجأةً، فمضى عند نصف اللّيل إلى صديق يقرع على بابه ويطلب منه خبزًا. أجاب صديقه بـ"لا!"، لأنّه كان قد أصبح في فراشه، ولكن الرّجل كان يُلحُّ عليه إلى أن أجبره على النّهوض ليعطيه الخبز. لكن الله صبور أكثر معنا، والّذي يقرع بإيمان ومثابرة على باب قلبه لا يَخيب. إنّ أبانا يعرف جيّدًا ما نحتاج إليه؛ والإلحاح ليس لكي نخبره أو نقنعه وإنّما لكي نغذّي في أنفسنا الرّغبة والانتظار.
المثل الثّاني هو مثل الأرملة الّتي تذهب إلى القاضي لكي يُنصفها. كان هذا القاضي رجلاً لا يَخافُ اللهَ ولا يَهابُ النَّاس ولكن في النّهاية إذ أسخَطَه إلحاح الأرملة قرّر أن يرضيها. يجعلنا هذا المثل نفهم أنَّ الإيمان ليس مجرّد اندفاع لحظة بل هو استعداد شجاع لكي نطلب الله ونناقشه أيضًا بدون أن نستسلم إزاء الشّرّ والظّلم.
يقدّم المثل الثّالث فرّيسي وعشّار صعدًا إلى الهيكل للصّلاة. يتوجّه الأوّل إلى الله متبجّحًا باستحقاقاته، أمّا الثّاني فيشعر بأنّه لا يستحقُّ حتّى أن يدخل إلى الهيكل. لكن الله لا يُصغي إلى صلاة المتكبِّرين فيما يستجيب لصلاة المتواضعين. لأنّه لا وجود لصلاة حقيقيّة بدون روح تواضع.
إنَّ تعليم الإنجيل واضح: علينا أن نصلّي على الدّوام حتّى عندما يبدو أن كلَّ شيء باطل، وعندما يبدو لنا أنَّ الله أصمٌّ وأبكَم وأنّنا نضيّع الوقت فقط. إنّ المسيحيّ لا يتوقّف أبدًا عن الصّلاة حتّى وإن أظلمت السّماء، لأنّ صلاته تسير مع إيمانه. ويمكن للإيمان، في العديد من أيّام حياتنا أن يبدو مجرّد وهمٍ وتعب عقيم. لكن ممارسة الصّلاة تعني أيضًا قبول هذا التّعب. إنّ العديد من القدّيسين والقدّيسات قد اختبروا ليل الإيمان وصمت الله ولكنّهم ثابروا على الصّلاة.
إنّ الّذي يصلّي لا يكون وحده أبدًا في ليالي الإيمان هذه. فيسوع في الواقع ليس شاهدًا ومعلّمًا للصّلاة وحسب بل هو أكثر من ذلك. هو يقبلنا في صلاته لكي نتمكّن من الصّلاة بواسطته ومن خلاله. وهذا هو عمل الرّوح القدس. ولهذا السّبب يدعونا الإنجيل لكي نرفع الصّلاة إلى الآب بإسم يسوع. وينقل إلينا الإنجيليّ يوحنّا كلمات الرّبّ هذه: "كُلَّ شيءٍ سأَلتُم بِإسمي أَعمَلُه لِكَي يُمَجَّدَ الآبُ في الِابن". ويشرح التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة أنّ "اليقين بأنّ صلواتنا ستُستجاب يقوم على صلاة يسوع" (عدد 2614). فهي تعطي الأجنحة الّتي ترغب صلاة الإنسان على الدّوام بالحصول عليها.
كيف لا نذكر هنا كلمات المزمور الحادي والتّسعين المُفعمة بالثّقة والّتي تنبعث من قلب يرجو كلَّ شيء من الله: "بِخَوَافِيهِ يُظَلِّلُكَ، وَتَحتَ أَجنِحَتِهِ تَحتَمِي. تُرْسٌ وَمِجَنٌّ حَقُّهُ. لَا تَخشَى مِن خَوفِ اللَّيلِ، وَلَا مِن سَهمٍ يَطِيرُ فِي النَّهَارِ، وَلَا مِن وَبَاءٍ يَسلُكُ فِي الدُّجَى، وَلَا مِن هَلَاكٍ يُفسِدُ فِي الظَّهِيرَةِ" (مزمور 91، 4- 6). في المسيح تتحقّق هذه الصّلاة الرّائعة، وفيه تجد ملء حقيقتها. بدون يسوع تواجه صلواتنا خطر أن تصبح مجرّد جهود بشريّة مصيرها الفشل في أغلب الأحيان. ولكنّه قد أخذ على عاتقه كلَّ صرخة وكلَّ أنين وكلَّ فرح وكلَّ تضرّع... وكلَّ صلاة بشريّة.
المسيح هو كلُّ شيء بالنّسبة لنا، حتّى في حياة الصّلاة الخاصّة بنا، وهذا ما يؤكّده القدّيس أوغسطينوس في عبارة منيرة نجدها أيضًا في التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة: إنّ يسوع "يصلّي من أجلنا ككاهننا، ويصلّي فينا كرأسنا ونحن نرفع صلاتنا إليه كإلهنا. فلنعترف إذًا بصوتنا فيه وبصوته فينا" (عدد 2616). ولذلك فالمسيحيّ الّذي يُصلّي لا يخاف شيئًا."