الفاتيكان
15 حزيران 2020, 05:55

البابا فرنسيس في عيد جسد الرّبّ ودمه: الإفخارستيّا تشفي ذاكرتنا الجريحة

تيلي لوميار/ نورسات
أحيا البابا فرنسيس عيد جسد الرّبّ ودمه أمس الأحد في قدّاس إلهيّ ترأٍّسه في بازيليك القدّيس بطرس، أكّد خلاله في عظته على محبّة الله للإنسان من خلال سرّ الإفخارستيّا المقدّس، فقال بحسب "فاتيكان نيوز":

"وتتذكّر كلّ الطّريق الّتي فيها سار بك الرّبّ إلهك" (تثنية الاشتراع 8، 2). أذكر: بدعوة موسى هذه افتُتحت اليوم كلمة الله بعد أن أعاد التّأكيد قائلاً: "ولا تنسى الرّبّ إلهك" (الآية 14). لقد أُعطي الكتاب المقدّس لنا لكي نتغلّب على نسيان الله. كم هو مهمّ أن نتذكّر هذا الأمر عندما نصلّي! كما يعلّمنا المزمور القائل "أذكُر أعمال الرّبّ إذ أتذكَّر عجائبك" (مز 77، 12).

من المهمّ أن نتذكّر الخير الّذي نلناه: بدون أن نتذكّره نصبح غرباء عن أنفسنا، "غائبون" عن الوجود؛ بدون ذكرى نُقتلع من الأرض الّتي تغذّينا ونسمح بأن يحملنا الهواء بعيدًا كالأوراق. أمّا الذّكرى فهي تعيد توثيق الرّوابط الأقوى؛ إنّها الشّعور بأنّنا جزء من تاريخ وأن نتنفّس كشعب. إنّ الذّكرى ليست أمرًا شخصيًّا وخاصًّا بل هي الدّرب الّتي تجمعنا بالله وبالآخرين. لذلك تُنقل ذكرى الرّبّ في الكتاب المقدّس من جيل إلى جيل ويخبرها الأب لابنه كما يقول أحد المقاطع الجميلة "إذا سألك ابنك غدًا قائلاً. ما هي الشّهادات والفرائض والأحكام الّتي أوصاكم بها الرّبّ الهنا تقول لابنك. كنّا عبيدًا... وصنع الرّبّ آيات وعجائب عظيمة أمام أعيننا" (تثنية الاشتراع 6، 20- 22).

ولكن لدينا مُشكلة: ماذا لو انقطعت سلسلة نقل الذّكريات؟ وكيف يمكننا عندها أن نتذكّر ما سمعنا عنه فقط بدون أن نختبره؟ إنّ الله يعرف كم أنّ هذا الأمر صعب ويعرف كم هي ضعيفة ذاكرتنا ولذلك حقّق لنا أمرًا لم يسبق له من مثيل: ترك لنا تذكارًا. لم يترك لنا كلمات فقط لأنّه من السّهل علينا أن ننسى ما نسمعه. كذلك لم يترك لنا الكتاب المقدّس وحسب لأنّه من السّهل علينا أن ننسى ما نقرؤه. ولم يترك لنا علامات فقط لأنّه بإمكاننا أن ننسى أيضًا ما نراه. بل أعطانا طعامًا ومن الصّعب علينا أن ننسى طعمًا معيّنًا. ترك لنا خبزًا هو موجود فيه، حيٌّ وحقيقيّ ويحمل طعم محبّته. وعندما نناله يمكننا أن نقول: "إنّه الرّبّ، وهو يذكرني!". لذلك طلب منّا يسوع: "اِصنَعوا هذا لِذِكري" (1 كور 11، 24). إصنعوا: الإفخارستيّا ليست مجرّد ذكرى، بل هي واقع: إنّها فصح الرّبّ الّذي يعيش مجدّدًا من أجلنا. في القدّاس الإلهيّ يكون موت يسوع وقيامته أمامنا. إصنَعوا هذا لِذِكري: اجتمعوا وكجماعة وشعب احتفلوا بالإفخارستيّا لكي تذكروني. لا يمكننا أن نعيش بدون الإفخارستيّا، إنّها تذكار الله وهي تشفي ذاكرتنا الجريحة.

هي تشفي أوّلاً ذاكرتنا اليتيمة. كثيرون قد طُبعت ذاكرتهم بغياب المحبّة وخيبات الأمل الملموسة من قِبَلِ من كان عليه أن يعطيه حبًّا ولكنّه جعل قلبه يتيمًا. قد نرغب في العودة إلى الوراء لنغيِّر الماضي ولكن هذا الأمر غير ممكن. لكن الله بإمكانه أن يشفي هذه الجراح وأن يبعث في ذاكرتنا محبّة أكبر: محبّته. إنّ الإفخارستيّا تحمل لنا محبّة الله الأمينة الّتي تشفي يُتمنا، وتعطينا محبّة يسوع الّذي حوّل القبر من نقطة وصول إلى نقطة انطلاق وفي الطّريقة عينها يمكنها أن يقلب حياتنا رأسًا على عقب. الإفخارستيّا تبعث فينا أيضًا محبّة الرّوح القدس الّذي يعزّي ولا يتركنا وحدنا أبدًا ويشفي الجراح.

بواسطة الإفخارستيّا يشفي الرّبّ أيضًا ذاكرتنا السّلبيّة الّتي تُظهر على الدّوام الأمور الّتي لا تسير على ما يرام وتترك في ذهننا الفكرة الحزينة بأنّنا لا نصلح لأيّ شيء وبأنّنا نرتكب الأخطاء فقط وبأنّنا سيّئون. ويسوع يأتي لكي يقول لنا إنّ الأمر ليس هكذا. هو يفرح بأن يكون في علاقة حميمة معنا وفي كلِّ مرّة نناله يذكّرنا بأنّنا قيّمين: نحن المدعوّون المنتَظَرون إلى مائدته والأشخاص الّذي يرغب في أن يأكل معهم. وهذا ليس فقط لأنّه سخيّ وإنّما لأنّه يحبّنا: هو يرى ويحبّ ما نحن عليه من الجمال والصّلاح. إنّ الرّبّ يعرف أنّ الشّرّ والخطايا ليسوا هويّتنا، بل هم أمراض وعدوى. ويأتي لعلاجها بواسطة الإفخارستيّا الّتي تحتوي على الجسم المضاد لذاكرتنا المريضة بالسّلبيّة. مع يسوع يمكننا أن نتحصّن ضدّ الحزن. إنّ سقطاتنا وتعبنا ومشاكل البيت والعمل والأحلام الّتي لم نحقّقها ستكون على الدّوام أمام أعيننا. لكنَّ ثقلها لن يسحقنا لأنّ في العمق هناك يسوع الّذي يشجّعنا بمحبّته. هذه هي قوّة الإفخارستيّا الّتي تحوّلنا إلى حملة لله: حملة فرح لا سلبيّة. يمكننا أن نسأل أنفسنا نحن الّذين نذهب إلى القدّاس ماذا نحمل إلى العالم؟ هل نحمل حزننا ومرارتنا أو فرح الرّبّ؟ هل نتقدّم من المناولة ونذهب بعدها للتّذمّر والانتقاد والتّحسّر؟ لكن هذا الأمر لن يحسِّن شيئًا بينما أنّ فرح الرّبّ يغيّر الحياة.

إنّ الإفخارستيّا في الختام تشفي ذاكرتنا المغلقة. إنّ الجراح الّتي نحملها في داخلنا لا تخلق المشاكل لنا وحدنا وإنّما للآخرين أيضًا. تجعلنا خائفين ومُشكّكين: منغلقين في البداية ومع مرور الوقت متهكِّمين وغير مبالين. تحملنا لكي نقوم بردّة فعل إزاء الآخرين بانعزال وغرور، موهمين أنفسنا أنّه بإمكاننا هكذا أن نسيطر على الأوضاع. ولكن هذا مجرّد خداع: وحده الحبّ يشفي الخوف من جذوره ويحرّرنا من الانغلاق الّذي يحبسنا. هذا ما يفعله يسوع إذ يأتي للقائنا بعذوبة في هشاشة القربانة؛ هذا ما يفعله يسوع الخبز المكسور لكي يكسر قشور أنانيّتنا؛ هذا ما يفعله يسوع الّذي يبذل نفسه لكي يقول لنا إنّه بانفتاحنا فقط نتحرّر من حواجزنا الدّاخليّة ومن شلل القلب. إنّ الرّبّ وإذ يقدّم ذاته بسيطًا كالخبز يدعونا أيضًا لكي لا نبدِّد حياتنا باتّباعنا لآلاف الأمور التّافهة الّتي تخلق الإدمان وتترك الفراغ في داخلنا. إنّ الإفخارستيّا تطفئ فينا الجوع للأشياء وتشعل فينا الرّغبة في الخدمة. تُنهضنا من ركودنا المريح وتذكِّرنا بأنّنا لسنا مجرّد أشخاص ينبغي إشباعهم وإنّما نحن أيضًا يداه لكي نُشبع القريب. من المُلِحِّ الآن أن نعتني بمن يجوع للطّعام والكرامة، ومن لا يعمل ويتعب للمضيِّ قدمًا؛ وعلينا أن نقوم بذلك بشكل ملموس كما هو ملموس الخبز الّذي يعطينا يسوع إيّاه. نحن بحاجة لقرب حقيقيّ، نحن بحاجة لسلاسل تضامن حقيقيّة. إنّ يسوع في الإفخارستيّا يقترب منّا فلا نترُكنَّ وحده إذًا ذاك الّذي يقيم بقربنا!

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنستمّر في الاحتفال بالتّذكار الّذي يشفي ذاكرتنا: أيّ القدّاس. إنّه الكنز الّذي ينبغي علينا أن نضعه في المرتبة الأولى في الكنيسة وفي حياتنا.  ولنكتشف مجدّدًا في الوقت عينه السّجود للقربان المقدّس الّذي يتابع فينا عمل الذّبيحة الإلهيّة. هذا الأمر سيساعدنا جدًّا وسيشفينا من الدّاخل؛ ولاسيّما الآن لأنّنا بأمسِّ الحاجة لذلك."