الفاتيكان
28 آذار 2022, 07:50

البابا فرنسيس في يوم التّكريس: إذا أردنا أن يتغيّر العالم علينا أن نغيّر قلوبنا أوّلاً

تيلي لوميار/ نورسات
كرّس البابا فرنسيس، في عيد بشارة مريم العذراء، البشريّة، ولاسيّما روسيا وأوكرانيا، إلى قلب مريم الطّاهر، في ختام رتبة التّوبة الّتي يحُتفل بها سنويًّا في إطار مبادرة "24 ساعة للرّبّ" في بازيليك القدّيس بطرس بالفاتيكان، الّتي ينظّمها المجلس البابويّ للبشارة الجديدة بالإنجيل، والّتي تتمحور هذا العام حول موضوع "بواسطته نلنا الغفران".

خلال الرّتبة، ألقى البابا عظة قال فيها نقلاً عن "فاتيكان نيوز": "في إنجيلِ عيدِ اليوم، تكلّم الملاكُ جبرائيل ثلاثَ مرّاتٍ وخاطبَ مريمَ العذراء.

في المرّة الأولى عندما حيّاها، قال: "افرَحي، أَيَّتُها المُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ". سبب الفرح وسبب السّرور يتجلّى في كلمات قليلة وهي: الرّبُّ معكِ. أيّها الأخ، وأيّتها الأخت، يمكنك أن تسمع اليوم الكلمات نفسها موجّهة إليك، ويمكنك أن تتبنّاها في كلّ مرّة تقترب فيها من مغفرة الله، لأنّ الرّبّ يقول لك هناك: "أنا معك". كثيرًا ما نفكّر أنّ الاعتراف يقوم على ذهابنا إلى الله مُطأطئي الرّؤوس. ولكن أوّلاً، لسنا نحن من يرجع إلى الرّبّ، بل هو الّذي يأتي لزيارتنا، ويملأنا بنعمته ويُبهجنا بفرحه. الإعتراف هو أن نعطي الآب فرح أن ينهضنا مجدّدًا. ففي محور ما سنعيشه لا توجد خطايانا بل مغفرة الله لنا. لنحاول أن نتخيّل لو كانت خطايانا هي محور سرّ الاعتراف: لكان كلّ شيء تقريبًا سيعتمد علينا، وعلى توبتنا، وجهودنا، والتزاماتنا. لكنَّ الأمر ليس كذلك، المحور هو الله الّذي يحرّرنا ويوقفنا على أقدامنا.

لنُرجِع الأولويّة إلى النّعمة ولنطلب عطيّة أن نفهم أنّ المُصالحة ليست أوّلًا خطوة منّا نحو الله، بل هي عناق الله لنا الّذي يغمرنا ويدهشنا ويجعلنا نتأثّر. فالله هو الّذي يدخل بيتنا، كما دخل بيت مريم في النّاصرة ويحمل لنا دهشةً وفرحًا لم نعرفهما من قبل. لنضع منظور الله في المقدّمة: وسوف نستعيد محبّتنا لسرِّ الاعتراف. نحن بحاجة إلى ذلك، لأنّ كلّ ولادة داخليّة جديدة، وكلّ نقطة تحوّل روحيّة تبدأ من هنا، من مغفرة الله. لا نتجاهلنَّ المصالحة، وإنّما لنكتشفها مجدّدًا كسرِّ الفرح. نعم، سرُّ الفرح، حيث يصبح الشّرّ الّذي يُخجلنا فرصة لكي نختبر عناق الآب الدّافئ، وقوّة يسوع اللّطيفة الّتي تشفينا، وحنان الرّوح القدس الوالديّ. هذا هو جوهر سرّ الاعتراف. ولهذا، أيّها الإخوة الأعزّاء الّذين تمنحون مغفرة الله، كونوا أولئك الّذين يقدّمون فرح هذا الإعلان للّذين يقتربون منكم: "افرح، الرّبّ معك". بدون تَشدُّد، وبدون عقبات، وبدون إزعاج، بل أبواب مفتوحة على الرّحمة! في سرّ الاعتراف، نحن مدعوّون بشكل خاصّ لكي نجسّد الرّاعي الصّالح الّذي يحمل خرافه بين ذراعيه ويحنو عليها، ولكي نكون قنوات نعمة تسكب في القلوب الجافّة ماء رحمة الآب الحيّ.

كلّم الملاك مريم للمرّة الثّانية، وإذ اضطربت من سلامه، قال لها: "لا تَخافي". في الكتاب المقدّس، عندما يقدّم الله نفسه لمن يقبله، هو يحبّ أن يقول هاتين الكلمتين: لا تخف. قالها لأبرام، وكرّرها لإسحاق، وليعقوب وهكذا دواليك، وصولاً إلى يوسف ومريم. بهذه الطّريقة هو يرسل لنا رسالة واضحة ومعزّية، وهي: في كلّ مرّة تنفتح فيها الحياة على الله، لا يمكننا بعدها أن نبقى رهائن للخوف. أيّها الأخ، وأيّتها الأخت، إن كانت خطاياك تخيفك، وإن كان ماضيك يقلقك، وإن لم تلتئم جراحك، وإن كان سقوطك المستمرّ يحبطك ويبدو لك أنّك فقدت الرّجاء، لا تخف. لأنَّ الله يعرف ضعفك وهو أكبر من أخطائك. وهو يطلب منك شيئًا واحدًا فقط: ألّا تحتفظ بضعفك وبؤسك في داخلك، بل احملهما إليه، وضعهما أمامه، وتلك الّتي كانت أسباب يأس ستصبح فرصًا للقيامة. لا تخف!

إنَّ العذراء مريم ترافقنا: هي نفسها قد ألقت قلقها على الله. لقد كان إعلان الملاك لها سببًا جدّيًّا للخوف. إذ اقترح عليها أمرًا لا يمكن تصوّره، يفوق قواها ولم يكن بإمكانها أن تتعامل معه بمفردها: كان هناك العديد من الصّعوبات ومشاكل مع شريعة موسى ومع يوسف، ومع الأشخاص في بلدتها وشعبها. ولكنَّ مريم لم تعترض. إكتفت بكلمة "لا تخافي"، واكتفت بطمأنة الله لها. وتشبّثت به، مثلما نريد أن نفعل نحن في هذا المساء. لأنّنا غالبًا ما نفعل العكس: ننطلق من ضماناتنا، وعندما نفقدها، إذّاك فقط نذهب إلى الله. أمّا مريم العذراء فتعلّمنا أن نبدأ انطلاقًا من الله، واثقين بأنّنا سنُزاد بالباقي. هي تدعونا لكي نذهب إلى الينبوع، إلى الرّبّ، الّذي هو العلاج الجذريّ لكلّ خوف ولشرور الحياة. تُذكّرنا بذلك عبارة جميلة، كُتبت فوق أحد كراسي الاعتراف هنا في الفاتيكان، وتتوجّه إلى لله بهذه الكلمات: "الابتعاد عنك هو سقوط، والعودة إليك هو قيامة، والبقاء فيك هو حياة".

تواصل أخبار وصوَر الموت خلال هذه الأيّام دخولها إلى بيوتنا، بينما تدمّر القنابل بيوت الكثير من إخوتنا وأخواتنا الأوكرانيّين العُزَّل. إنَّ الحرب الوحشيّة الّتي انقضّت على كثيرين وسبّبت الألم للجميع تثير في كلِّ فرد منّا الخوف والفزع. نشعر في داخلنا بإحساسِ العجزِ والقصور. نحن بحاجة لأن نسمع من يقول لنا "لا تخافوا". ولكن لا تكفينا الطُّمأنينة البشريّة، نحن بحاجة لحضور الله، ويقين المغفرة الإلهيّة، الوحيدة الّتي تَمحو الشّرّ، وتُبطِلُ الحقد، وتُعيد السّلام إلى القلوب. لِنَعُد إلى الله، وإلى مغفرته.

كلَّم الملاك مريم العذراء للمرّة ثالثة، وقال لها: "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سيَنزِلُ علَيكِ". هكذا يتدخّل الله في التّاريخ: يَهَبُ روحه. لأنّ قوّتنا لا تكفي في الأمور الهامّة. نحن وحدنا لا نستطيع أن نحلّ تناقضات التّاريخ ولا حتّى تناقضات قلوبنا. نحن بحاجة لقوّة الله الحكيمة والوديعة، الّتي هي الرّوح القدس. نحن بحاجة لروح المحبّة، الّذي يذوّب الكراهيّة، ويطفئ الحقد، ويخمد الجشع، ويوقظنا من اللّامبالاة. نحن بحاجة لمحبّة الله، لأنّ محبّتنا غير مستقرّة وغير كافية. نطلب من الرّبّ أمورًا كثيرة، لكنّنا غالبًا ما ننسى أن نطلب منه الأهمّ، وما يرغب هو في أن يعطينا إيّاه: الرّوح القدس، القوّة لكي نحبّ. في الواقع ماذا سنقدّم للعالم بدون محبّة؟ قال أحدُهم إنّ المسيحيّ من دون محبّة مثل إبرة لا تُخيِّط: هي تَنخز، وتجرح، ولكن إن لم تخيِّط، وإن لم تنسج، وإن لم تجمع، فلا فائدة منها. لهذا نحن بحاجة لأن نستقي من مغفرة الله قوّة المحبّة، أيّ الرّوح القدس عينه الّذي نزل على مريم.

لأنّه، إذا أردنا أن يتغيّر العالم، علينا أن نغيِّر قلوبنا أوّلاً. ولكي نفعل ذلك، لنسمح اليوم للعذراء مريم أن تأخذنا بيدنا. لننظر إلى قلبها الطّاهر، حيث حلَّ الله، القلب البشريّ الوحيد الّذي ليس فيه ظلال. هي "المُمتَلِئَةُ نِعْمَةً"، وبالتّالي هي خالية من الخطيئة: لا يوجد فيها أثر للشّرّ، ولهذا استطاع الله أن يبدأ معها تاريخًا جديدًا، تاريخ خلاص وسلام. هناك، أخذ التّاريخ منعطفًا آخر. لقد غيّر الله التّاريخ عندما قَرَعَ على قلب مريم.

واليوم نحن أيضًا، إذ تُجدّدنا مغفرة الله، نقرع على هذا القلب. بالاتّحاد مع الأساقفة والمؤمنين في العالم، أرغب أن أحمل إلى قلب مريم الطّاهر كلّ ما نعيشه: أن أجدّد لها تكريس الكنيسة والبشريّة جمعاء وأن أكرّس لها، بشكلٍ خاصّ، الشّعب الأوكرانيّ والشّعب الرّوسي، اللّذين يكرّمانها كأمٍّ بمشاعر بنويّة. لا يتعلّق الأمر بصيغة سحريّة، وإنّما هو فعل روحيّ. إنها لفتة مُفعمة بالثّقة لأبناء، في ضيق هذه الحرب القاسية والعقيمة الّتي تهدّد العالم، يلجؤون إلى الأمّ، ويلقون في قلبها الخوف والألم، ويسلّمون أنفسهم لها. إنّها أن نضع في هذا القلب الصّافي، الّذي لا وصمة فيه، والّذي يعكس وجه الله، خيور الأخوّة والسّلام الثّمينة، وكلّ ما لنا وما نحن عليه، لكي تحمينا وتحرسنا هي، الأمّ الّتي أعطانا إيّاها الرّبّ يسوع.

من شَفَتي مريم انبعثت أجمل عبارة يمكن للملاك أن ينقلها إلى الله: "فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ". إنَّ قبول مريم العذراء ليس قبولاً سلبيًّا أو مستسلمًا، ولكنّه الرّغبة الحيّة في اتّباع الله، الّذي لديه "أَفْكارُ سَلامٍ لا بَلْوى". إنّه مشاركة وثيقة في مشروع الله، مشروع السّلام للعالم. نحن نكرّس أنفسنا لمريم لكي ندخل في هذا المخطّط، ونضع أنفسنا في استعداد كامل لمشاريع الله. إنَّ أمَّ الله بعد أن قالت "نعم"، قامت برحلة طويلة شاقّة إلى الجبل لكي تزور نسيبتها الحامل. لتمسك العذراء اليوم مسيرتنا: ولتُرشدنا عبر دروب الأخوّة والحوار، الوعرة والصّعبة، إلى درب السّلام."