الفاتيكان
07 حزيران 2021, 07:50

البابا فرنسيس: كي نحتفل بالإفخارستيّا ونعيشها نحن مدعوّون لكي نعيش المحبّة

تيلي لوميار/ نورسات
"للإحتفال بالإفخارستيّا، علينا أوّلاً أن نعترف بعطشنا لله: أن نشعر بأنّنا بحاجة إليه، وأن نرغب في حضوره ومحبّته، وأن نُدرك أنّه لا يمكننا القيام بذلك وحدنا وإنّما نحن بحاجة إلى مأكل ومشرب الحياة الأبديّة اللّذين يعضُداننا في المسيرة". هذا ما دعا إليه البابا فرنسيس في قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في بازيليك القدّيس بطرس لمناسبة عيد جسد الرّبّ ودمه.

وفي هذا السّياق، قال البابا فرنسيس في عظته بحسب "فاتيكان نيوز": "أرسل يسوع تلاميذه ليذهبوا ويعدُّوا المكان للاحتفال بعشاء الفصح. لقد كانوا هم الّذين سألوه: "إلى أَينَ تُريدُ أَن نَمضِيَ فنُعِدَّ لَكَ لِتَأكُلَ الفِصْح؟". فيما نتأمل في حضور الرّبّ يسوع في الخبز الإفخارستيّ ونسجد له، نحن مدعوّون أيضًا لنسأل أنفسنا: في أيّ "مكان" نريد أن نُعِدَّ فصح الرّبّ؟ ما هي "الأماكن" في حياتنا الّتي يطلب الله منّا أن نستقبله فيها؟ أرغب في أن أجيب على هذه الأسئلة من خلال التّوقّف عند ثلاث صور في الإنجيل الّذي سمعناه.

الصّورة الأولى هي الرّجل الّذي يحمل جرّة ماء. إنّه تفصيل قد يبدو إضافيًّا لا لزوم له. لكن هذا الرّجل المجهول صار مرشدًا للتّلاميذ الّذين كانوا يبحثون عن المكان الّذي سيُطلق عليه لاحقًا اسم العلّيّة. وجرّة الماء هي العلامة لكي يتعرَّفوا عليه: علامة تجعلنا نفكر في الإنسانيّة العَطِشة، الّتي تبحث دائمًا عن ينبوع ماء يرويها ويجدّدها. جميعنا نسير في الحياة وفي أيدينا جرّة: نحن عطاش إلى الحبّ والفرح وإلى حياة ناجحة في عالم أكثر إنسانيّة. وأمام هذا العطش، فإنّ مياه الأمور الدّنيويّة لا فائدة منها، لأنّ عطشنا أعمق من ذلك، ووحده الله يمكنه أن يرويه.

لنستمرَّ في متابعة هذه "العلامة" الرّمزيّة. قال يسوع لتلاميذه إنّه حيثما سيقودهم رجل يحمل جرة ماء، هناك سيتمّ الاحتفال بعشاء الفصح. لذلك للاحتفال بالإفخارستيّا، علينا أوّلاً أن نعترف بعطشنا لله: أن نشعر بأنّنا بحاجة إليه، وأن نرغب في حضوره ومحبّته، وأن نُدرك أنّه لا يمكننا القيام بذلك وحدنا وإنّما نحن بحاجة إلى مأكل ومشرب الحياة الأبديّة اللّذين يعضُداننا في المسيرة. إنَّ مأساة اليوم هي أنّ العطش قد انطفأ. انطفأت الأسئلة حول الله، وضعف الشّوق إليه، وأصبح الباحثون عن الله نادرين. لم يعد الله يجذبنا لأنّنا لم نعد نشعر بعطشنا العميق إليه. ولكن فقط حيث يكون هناك رجل أو امرأة مع جرّة ماء- لنفكّر في المرأة السّامريّة- يمكن للرّبّ أن يكشف عن نفسه كذاك الّذي يعطي الحياة الجديدة، ويغذّي بالرّجاء الواثق أحلامنا وتطلّعاتنا، حضور محبّة يعطي معنًى ووجهة لحجِّنا الأرضي. وكما لاحظنا، فإنّ الرّجل الّذي يحمل الجرّة هو الّذي قاد التّلاميذ إلى الغرفة حيث سيؤسِّس يسوع سرّ الإفخارستيّا. إنَّ العطش إلى الله هو الّذي يقودنا إلى المذبح. وإذا غاب العطش، تصبح احتفالاتنا جافّة. وككنيسة أيضًا، لا يمكن أن تكفينا المجموعة الصّغيرة من الأشخاص الّذين اعتادوا أن يجتمعوا للاحتفال بالإفخارستيّا، بل يجب أن نذهب إلى المدينة، ونلتقي بالنّاس، ونتعلّم أن نرى ونوقظ فيهم العطش إلى الله والرّغبة في الإنجيل.

الصّورة الثّانية هي صورة الغرفة الكبيرة في الطّابق العلويّ. هناك سيقيم يسوع وتلاميذه عشاء الفصح، وهذه الغرفة تقع في بيت شخص يستضيفهم. لقد كان الأب بريمو مازولاري يقول: "هوذا رجل بدون اسم، ربُّ بيتٍ، أعطاه أجمل غرفة عنده. [...] لقد أعطى أكبر ما كان عنده لأنّه حول السّرّ الكبير، كلّ شيء يجب أن يكون كبيرًا، الغرفة والقلب، الكلمات والتّصرّفات".

غرفة كبيرة لقطعة خبز صغيرة. لقد جعل الله نفسه صغيرًا مثل قطعة خبز ولهذا السّبب بالذّات هناك حاجة لقلبٍ كبير ليتمكّن من التّعرّف عليه والسّجود له وقبوله. إنَّ حضور الله هو في غاية التّواضع، خفِيّ، وغير مرئيّ أحيانًا، لذلك يحتاج إلى قلب مستعدّ ويَقِظ ومِضياف ليتمّ التّعرّف عليه. أمّا إذا كان قلبنا، بدلاً من أن يشبه غرفة كبيرة، يشبه خزانة نحتفظ فيها بندم بالأشياء القديمة، أو كان يشبه علّيّة قد وضعنا فيها منذ زمن طويل حماسنا وأحلامنا، أو كان يشبه غرفة ضيّقة ومظلمة نعيش فيها وحدنا مع مشاكلنا ومرارتنا، عندها سيكون من المستحيل أن نتعرّف على حضور الله الصّامت والمتواضع. نحن بحاجة إلى غرفة كبيرة. يجب أن نوسّع قلوبنا. علينا أن نخرج من غرفة "الأنا" الصّغيرة وندخل في الفسحة الكبيرة للدّهشة والعبادة. هذا هو الموقف أمام الإفخارستيّا، هذا ما نحتاج إليه: العبادة. كذلك على الكنيسة أيضًا أن تكون غرفة كبيرة. لا دائرة صغيرة ومغلقة، بل جماعة أذرعها مُشرَّعة، تستقبل الجميع. لنسأل أنفسنا: عندما يقترب منّا شخص جريح، قد أخطأ، ولديه مسيرة حياة مختلفة، هل الكنيسة هي مكان كبير يستقبله ويقوده إلى فرح اللّقاء بالمسيح؟ يريد سرّ الإفخارستيّا أن يغذّي من تَعِب وجاع خلال المسيرة. لا ننسَينَّ هذا الأمر أبدًا! إنَّ كنيسة الكاملين والطّاهرين هي غرفة لا مكان فيها لأحد. أمّا الكنيسة الّتي تشرِّع أبوابها، وتحتفل حول المسيح، هي غرفة كبيرة حيث يمكن للجميع أن يدخلوا.

أخيرًا، صورة يسوع الّذي يكسر الخبز. إنّه تصرُّف إفخارستيّ بامتياز، وعلامة هويّة إيماننا، ومكان لقائنا بالرّبّ الّذي يهب ذاته لكي يجعلنا نولد من جديد لحياة جديدة. هذا التّصرُّف يصدمنا أيضًا: حتّى ذلك الحين كانت تُذبح الحملان وتُقدَّم ذبيحةً لله، أمّا الآن فيسوع قد جعل من نفسه حملاً وضحّى بنفسه لكي يهبنا الحياة. في الإفخارستيّا نتأمّل ونعبُد إله المحبّة. إنّه الرّبّ الّذي لا يكسر جسد أحد بل يكسر جسده. إنّه الرّبّ الّذي لا يطلب ذبائح بل يضحّي بنفسه. إنّه الرّبّ الّذي لا يطلب شيئًا بل يعطي كلّ شيء. لكي نحتفل بالإفخارستيّا ونعيشها، نحن مدعوّون أيضًا لكي نعيش هذه المحبّة. لأنّه لا يمكنك أن تكسر خبز الأحد إذا كان قلبك مغلقًا أمام الإخوة. ولا يمكنك أن تأكل هذا الخبز ما لم تعطِ الخبز للجائع. ولا يمكنك أن تقاسم هذا الخبز ما لم تقاسم آلام المعوز. في النّهاية، وحده الحبُّ سيبقى حتّى من احتفالاتنا الإفخارستيّة اللّيتورجيّة. ومنذ الآن، ستحوّل احتفالاتنا الإفخارستيّة العالم بقدر ما سنسمح لها بأن تحوّلنا ونصبح خبزًا مكسورًا للآخرين.

أيّها الإخوة والأخوات، أين "نعدّ عشاء الرّبّ"، اليوم أيضًا؟ إنَّ التّطواف بالقربان المقدّس- الّذي يميّز عيد جسد الرّبّ ودمه الأقدسَين، والّذي ما زلنا لا نقدر أن نقوم به في الوقت الحاليّ- يذكّرنا بأنّنا مدعوّون إلى أن ننطلق ونحمل يسوع. أن ننطلق بحماس ونحمل المسيح للّذين نلتقي بهم في حياتنا اليوميّة. لنُصبح كنيسة تحمل جرّة وتوقظ العطش وتحمل الماء. ولنشرِّع قلوبنا بالمحبّة، لنكون نحن الغرفة الفسيحة والمضيافة حيث يمكن للجميع أن يدخلوا لكي يلتقوا بالرّبّ. ولنجعل حياتنا خبزًا مكسورًا، بالرّأفة والتّضامن، لكي يرى العالم من خلالنا عظمة محبّة الله. وعندها، سيأتي الرّبّ، وسيفاجئنا مرّة أخرى، وسيجعل من نفسه مجدّدًا طعامًا لحياة العالم. وسيُشبعنا إلى الأبد، إلى أن يأتي ذلك اليوم الّذي سنشاهد فيه وجهه، في وليمة السّماء، ونفرح معه بلا نهاية."