الفاتيكان
01 حزيران 2020, 11:15

البابا فرنسيس... "هاءَنذا فأَرسِلني"

تيلي لوميار/ نورسات
تحت عنوان "هاءَنذا فأَرسِلني" صدرت ظهر الأحد رسالة قداسة البابا فرنسيس في رسالته بمناسبة اليوم الإرسالي العالميّ كتب فيها:

"أودّ أن أعرب عن شكري لله على الالتزام الّذي عاشت به الكنيسة جمعاء، الشّهرَ الإرساليّ الاستثنائيّ في أكتوبر تشرين الأوّل الماضي. أنا واثق من أنّه قد ساهم في تحفيز الارتداد الرّسوليّ في العديد من الجماعات، وفق النّهج الّذي أشار إليه الموضوع "مُعمَّدون ومُرسَلون: كنيسة المسيح مُرسلة في العالم".

في هذه السّنة المطبوعة بالمعاناة والتّحدّيات الّتي سبّبتها جائحة الكورونا، تستمرّ هذه المسيرة الرّسوليّة للكنيسة بأسرها في ضوء الكلمة الّتي نجدها في رواية دعوة النّبيّ أشعيا: "هاءَنذا فأَرسِلْني". إنّه جواب متجدّد على الدّوام على سؤال الرّبّ: "مَن أُرسِل؟". تأتي هذه الدّعوة من قلب الله، من رحمته الّتي تسائل الكنيسة والبشريّة في الأزمة العالميّة الحاليّة. على مثال التّلاميذ في الإنجيل فاجأتنا عاصفة غير متوقَّعة وشديدة. لقد تيقّنا بأنّنا موجودون على السّفينة عينها، ضعفاء ومضطربين ولكنّنا في الوقت عينه مهمّين وضروريّين وجميعنا مدعوّون لكي نجذِّف معًا ومعوزون لتعزية بعضنا البعض. جميعنا موجودون على هذه السّفينة؛ وكهؤلاء التّلاميذ الّذين يتكلّمون بصوت واحد خائفين وقائلين "إنّنا نهلك"، هكذا نحن أيضًا قد تنبّهنا أنّه ليس بإمكاننا أن نسير قدمًا كلٌّ بمفرده وإنّما علينا أن نسير معًا. نحن مذعورون حقًّا ومضطربون وخائفون. إنّ الألم والموت يجعلانا نختبر ضعفنا البشريّ؛ ولكنّهما في الوقت عينه، يجعلانا نعترف بأنّنا نتشارك جميعًا برغبة قويّة في الحياة والتّحرّر من الشّرّ. في هذا السّياق، تأتي الدّعوة إلى الرّسالة والدّعوة إلى الخروج من ذواتنا محبّةً بالله والقريب كفرصة للمشاركة والخدمة والشّفاعة. إنّ الرّسالة الّتي يوكلها الله إلى كلّ شخص منّا تجعلنا ننتقل من الـ"أنا" الخائف والمنغلق على ذاته إلى الـ"أنا" الأصيل والمتجدّد عبر هبة الذّات.

في ذبيحة الصّليب، حيث تمّت رسالة يسوع، يُظهر الله أنّ محبّته هي لكلّ شخص وللجميع. ويطلب منّا استعدادنا الشّخصيّ لكي نُرسَل، لأنّه محبّة في حركة رسالة، ويخرج دائمًا من ذاته لكي يهب الحياة. محبّةً بالبشر أرسل الله الآب ابنه يسوع. يسوع هو مُرسَلُ الآب: وشخصه وعمله هما طاعة تامّة لمشيئة الآب. وبدوره، يجذبنا يسوع، المصلوب والقائم من الموت من أجلنا، في حركة محبّته، بواسطة روحه، الّذي يحيي الكنيسة، ويجعلنا تلاميذ المسيح ويرسلنا في رسالة إلى العالم وإلى الأمم. إنّ الرّسالة، أيّ "الكنيسة الّتي تنطلق"، ليست برنامجًا، أو هدفًا ينبغي تحقيقه بقوّة الإرادة. لأنَّ المسيح هو الّذي يُخرِج الكنيسة من ذاتها. وفي رسالة إعلان الإنجيل، أنت تنطلق لأنّ الرّوح يدفعك ويقودك. إنَّ الله يحبّنا أوّلًا على الدّوام، وبهذا الحبّ يلتقي بنا ويدعونا. تأتي دعوتنا الشّخصيّة من واقع أنّنا أبناء وبنات الله في الكنيسة، وعائلته، وإخوته وأخواته في تلك المحبّة الّتي أظهرها لنا يسوع. لكن الجميع يملكون كرامة بشريّة تقوم على الدّعوة الإلهيّة بأن يكونوا أبناء الله، ويصبحوا، بفعل سرّ المعموديّة وحرّيّة الإيمان، ما كانوا عليه منذ الأزل في قلب الله.

كوننا قد نلنا الحياة مجّانًا يشكّل دعوة ضمنيّة للدّخول في ديناميكيّة هبة الذّات: إنّها بذرة ستأخذ، في المعمّدين، لاحقًا شكلًا ناضجًا، كجواب حبّ في الزّواج أو في البتوليّة من أجل ملكوت الله. إنّ الحياة البشريّة تولد من محبّة الله، وتنمو في المحبّة، وتتوق إليها. لا أحد يُستَثنى من محبّة الله، وفي التّضحية المقدسّة ليسوع الابن على الصّليب غلب الله الخطيئة والموت. وبالتّالي يصبح الشّرّ بالنّسبة لله- وحتّى الخطيئة- تحديًّا لنحبّ ولكي نحبّ ونحبّ أكثر على الدّوام. لذلك، وفي السّرّ الفصحيّ، تشفي الرّحمة الإلهيّة جرح البشريّة الأصليّ وتفيض على الكون بأسره. والكنيسة، السّرّ الشّامل لمحبّة الله للعالم، تواصل في التّاريخ رسالةَ يسوع، وترسلنا إلى كلّ مكان، لكي ومن خلال شهادة إيماننا إعلان الإنجيل، يستمرّ الله في إظهار محبّته ولمسِ وتحويل القلوب والأذهان والأجساد والمجتمعات والثّقافات في كلّ مكان وزمان.

الرسالة هي جواب حرّ وواعٍ على دعوة الله. لكنّنا نفهم هذه الدّعوة فقط عندما نعيش علاقة حبّ شخصيّة مع يسوع الحيّ في كنيسته. لنسأل أنفسنا: هل نحن مستعدّون لقبول حضور الرّوح القدس في حياتنا، والإصغاء للدّعوة إلى الرّسالة، سواء في درب الزّواج أو في البتوليّة المكرّسة أو في الكهنوت، وفي الحياة اليوميّة العاديّة؟ هل نحن على استعداد لأن نُرسَل إلى كلّ مكان لنشهد لإيماننا بالله الآب الرّحيم، ولنعلن إنجيل خلاص يسوع المسيح، ونشارك في الحياة الإلهيّة للرّوح القدس في بناء الكنيسة؟ هل نحن مستعدّون، على مثال مريم، أمّ يسوع، لأن نكون في خدمة مشيئة الله بدون تحفُّظ؟ إنّ هذا الاستعداد الدّاخليّ هو مهمّ جدًّا لكي نتمكّن من أن نجيب على الله: "هاءَنذا يا ربّ فأَرسِلني". وليس بطريقة مجرّدة، وإنّما في واقع الكنيسة والتّاريخ.

إنّ فهم ما يقوله الله لنا في زمن الجائحة هذا يصبح تحدّيًا أيضًا بالنّسبة لرسالة الكنيسة. فالمرض والمعاناة والخوف والعزلة هذه الأمور كلّها تسائلنا؛ كذلك يسائلنا فقر الّذين يموتون في وحدتهم، والّذين تُرِكوا لأمرهم، والّذين خسروا وظائفهم وأجورهم، والّذين ليس لديهم مأوى وقوت. وفيما نحن مُلزَمون بالمحافظة على مسافة جسديّة والبقاء في المنزل، نحن مدعوّون لكي نكتشف مجدّدًا أنّنا بحاجة لعلاقات اجتماعيّة، وكذلك إلى علاقة جَماعيّة مع الله. وبعيدًا عن زيادة غياب الثّقة واللّامبالاة، يجب على هذا الوضع أن يجعلنا أكثر تنبّهًا لعلاقاتنا مع الآخرين. إنَّ الصّلاة، الّتي من خلالها يلمس الله قلبنا ويحرّكه، تفتحنا على حاجة إخوتنا للمحبّة والكرامة والحرّيّة، وكذلك على العناية بالخليقة بأسرها. أمّا استحالة الاجتماع ككنيسة للاحتفال بالإفخارستيّا فقد جعلتنا نشارك بوضع العديد من الجماعات المسيحيّة الّتي لا يمكنها الاحتفال بالقدّاس كلّ يوم أحد. وفي هذا السّياق، يوجَّه إلينا مجدّدًا السّؤال الّذي يطرحه الله "مَن أُرسِل؟"، وينتظر منّا جوابًا سخيًّا وواثقًا: "هاءَنذا فأَرسِلني!". إنّ الله لا زال يبحث عمّن يرسل إلى العالم والأمم لكي يشهد لمحبّته والخلاص من الخطيئة والموت والتّحرّر من الشّرّ.

إنّ الاحتفال باليوم الإرساليّ العالميّ يعني أيضًا إعادة التّأكيد على أنّ الصّلاة والتّأمّل والمساعدة المادّيّة الّتي تقدّمونها هي فرص للمشاركة بشكل فعّال في رسالة يسوع في كنيسته. إنَّ المحبّة الّتي يُعبَّر عنها في التّبرّعات، الّتي ترافق الاحتفالات اللّيتورجيّة في الأحد الثّالث من تشرين الأوّل، تهدف إلى دعم العمل الإرساليّ الّذي تقوم به باسمي الأعمال الرّسوليّة البابويّة، لتلبية الاحتياجات الرّوحيّة والمادّيّة للشّعوب والكنائس في جميع أنحاء العالم من أجل خلاص الجميع. لتشفّع بنا وتعضدنا مريم العذراء الكلّيّة القداسة، نجمة البشارة ومعزّية الحزانى، والتّلميذة الرّسوليّة لابنها يسوع".