الفاتيكان
06 كانون الثاني 2019, 14:24

البابا فرنسيس: وحده من يترك تعلّقه بالأمور الدّنيويّة ليسير قدمًا يجد سرَّ اللّه

إحتفالاً بعيد الدّنح، ترأّس البابا فرنسيس القدّاس الإلهيّ صباح اليوم في بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان. وتخلّلت الذّبيحة الإلهيّة عظة للأب الأقدس قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"كلمة دنح تشير إلى ظهور الرّبّ الذي، وكما يقول القدّيس بولس في القراءة الثّانية، يظهر لجميع الأمم الممثّلة اليوم بالمجوس. ينكشف هكذا الواقع الجميل لإله أتى من أجل الجميع: كلُّ أمّة ولغة وشعب، يقبلهم جميعهم ويحبّهم. وعلامة لهذا هو النّور الذي يبلغ كلَّ شيء وينير.

 

والآن إذا كان إلهنا قد ظهر للجميع، يدهشنا مع ذلك كيف يظهر. يخبرنا الإنجيل عن حركة حول قصر الملك هيرودس فيما يقدَّم يسوع كملك، سأل المجوس: "أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟". سيجدونه ولكن ليس حيث كانوا يتوقّعون: لا في قصر أورشليم الملوكيّ، وإنّما في بيت متواضع في بيت لحم. لقد ظهر هذا التّناقض في الميلاد عندما تحدّث الإنجيل عن إحصاء جميع المعمور في أيام القيصر أوغسطس والحاكم قيرينيوس. ولكن ما من أحد من مقتدري ذلك الزّمن قد تنبّه أنَّ ملك التاريخ يولد في زمنهم.

 

وكذلك عندما بلغ يسوع الثّلاثين عامًا ظهر بشكل علنيّ، إذ أعلنه يوحنّا المعمدان، يقدّم الإنجيل تقديمًا رسميًّا للإطار؛ إذ يعدِّد "كبار" ذلك الزّمن والسّلطة الزّمنية والرّوحيّة: القَيصَرِ طيباريوس، وبُنطِيوس بيلاطُس وهيرودُس وفيلِبُّس وليسانياس وحَنَّانُ وقَيافا عَظيمَي الكَهَنَة. ويختتم: "كانت كَلِمَةُ اللهِ إلى يوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا في البَرِّيَّة". وبالتّالي لم تكن على أحد من العظماء وإنّما إلى رجل انعزل في الصّحراء. هذه هي المفاجأة: اللّه لا يصعد على مسرح العالم لكي يظهر.

 

وإذ نصغي إلى لائحة الأشخاص المشهورين قد نتعرّض لتجربة توجيه الأضواء عليهم. يمكننا أن نفكّر: ربما كان من الأفضل لو ظهر نجم يسوع في روما على تلّة البلاتينو التي منها كان أغسطس يحكم العالم، لأصبحت الامبراطوريّة أيضاً مسيحيّة فورًا. أو لو أنّه أنار قصر هيرودس لربّما كان هذا الأخير قد صنع الخير لا الشّرّ. لكنَّ نور اللّه لا يذهب إلى من يُشعُّ بنوره الخاصّ. اللّه يقترح ولا يفرض، يضيء ولا يُبهِر.

 

إنّها تجربة كبيرة على الدّوام أن نخلط نور الله بأنوار العالم. كم من مرّة تبعنا الأضواء الباهرة للسّلطة والمسرح مقتنعين بأنّنا نقدّم خدمة صالحة للإنجيل! ولكنّنا وجّهنا هكذا الأضواء نحو الجهة الخاطئة لأنّ اللّه لم يكن هناك. إنَّ نوره اللّطيف يسطع في الحبّ المتواضع. كم من مرّة، من ثمَّ، ككنيسة حاولنا أن نشعَّ بنورنا الخاصّ! ولكنّنا لسنا شمس البشريّة؛ نحن القمر الذي، وبالرّغم من ظلاله، يُشعُّ النّور الحقيقيّ أيّ الرّبّ: إنّه نور العالم! هو لا نحن.

 

إنَّ نور اللّه يذهب إلى الذي يقبله. يذكّرنا أشعيا في القراءة الأولى أنَّ النّور الإلهيّ لا يمنع الظّلمات والضّباب من أن يغطّيا الأرض، ولكنّه يسطع في مَن يكون مستعدًّا لاستقباله. لذلك يوجّه النّبيُّ الدّعوة التي تسائل كلَّ فرد منّا: "قومي استنيري". علينا أن نقوم، أيّ أن ننهض من خمولنا ونستعدَّ للسّير. وإلّا فسنراوح مكاننا تمامًا كالكتبة الذين استشارهم هيرودس والذين كانوا يعرفون جيّدًا أين ولد المسيح ولكنّهم لم يتحرّكوا. من ثمَّ علينا أن نلبس يوميًّا اللّه الذي هو النّور لكي يصبح يسوع ثوبنا اليوميّ. ولكن لكي نلبس ثوب اللّه، الذي هو بسيط كالنّور، علينا أوّلاً أن نخلع الملابس الفاخرة، وإلا فسنكون كهيرودس الذي فضّل الأنوار الأرضيّة للنّجاح والسّلطة على النّور الإلهيّ. أمّا المجوس، فقد حقّقوا النّبوءة وقاموا لكي يتّشحوا بالنّور. هم وحدهم رأوا النّجم في السّماء: لا الكتبة ولا هيرودس ولا أحد غيرهم في أورشليم.

 

وبالتّالي، ولكي نجد يسوع علينا أن نضع خطًّا مختلفًا للسير، علينا أن نأخذ دربًا بديلةً، دربه، درب المحبّة المتواضعة وعلينا أيضًا أن نحافظ عليها. في الواقع يُختتم إنجيل اليوم بالقول إنّ المجوس بعد أن التقوا بيسوع: "انصَرَفوا في طَريقٍ آخَرَ إِلى بِلادِهم". طريق آخر مختلف عن طريق هيرودس. درب مختلفة عن درب العالم كتلك التي يسيرها الذين كانوا في الميلاد مع يسوع: مريم ويوسف والرّعاة. هم كالمجوس قد تركوا بيوتهم وأصبحوا حجّاجاً على دروب اللّه، لأن وحده من يترك تعلّقه بالأمور الدّنيويّة ليسير قدمًا يجد سرَّ الله.

هذا الأمر يصلح لنا أيضًا. لا يكفي أن نعرف، كالكتبة، أين ولد يسوع ما لم نبلغ المكان. لا يكفي أن نعرف، كهيرودس، أنّ يسوع قد ولد ما لم نلتقِ به. عندما يصبح مكانه مكاننا، وعندما يصبح زمنه زمننا وعندما يصبح شخصه حياتنا تكون النّبوءات قد تحققت فينا. عندها يولد يسوع في داخلنا ويصبح اللّه الحيّ لي!

 

نحن مدعوّون اليوم للتشبّه بالمجوس. هم لا يناقشون بل يسيرون؛ لا يقفون متفرِّجين بل يدخلون على بيت يسوع، لا يقفون في الوسط بل جثوا له هو المحور؛ لم يضعوا مخططاتهم بل رتّبوا أمورهم ليأخذوا طريقًا آخر. نجد في تصرّفاتهم علاقة وثيقة مع الرّبّ وانفتاحًا جذريًّا عليه، ومشاركة كاملة معه. معه نستعمل لغة الحبّ، اللّغة عينها التي يتحدّثها الطّفل يسوع. في الواقع لقد ذهب المجوس إلى الرّبّ ليعطوا لا لينالوا؛ وبالتّالي نسأل أنفسنا: هل حملنا في الميلاد هديّة ما ليسوع في عيده أم أنّنا تبادلنا الهدايا فيما بيننا فقط؟

 

وإن كنّا قد ذهبنا إلى الرّبّ بأيادي فارغة، يمكننا اليوم أن نعوِّض. نقرأ في الإنجيل لائحة هدايا صغيرة: ذهب وبخور ومُرّ. الذّهب، وهو العنصر الأثمن يذكّر أنّ المكان الأوّل يُحفظ لله وعلينا أن نعبده، ولكن لكي نقوم بذلك علينا أن نحرم أنفسنا من المكان الأوّل، ونؤمن بأنّنا معوزين ولا يمكننا أن نكفي أنفسنا. من ثمَّ يرمز البخور إلى العلاقة مع الرّبّ، أيّ الصّلاة التي ترتفع إلى اللّه كالعطر.

 

 ولكن كما ينبغي على البخور أن يحترق لكي يعطِّر، هكذا أيضًا بالنّسبة للصّلاة علينا أن نحرق القليل من الوقت ونقدّمه للرّبّ، وإنّما بالفعل أيضًا وليس بالكلمات وحسب. ومن ثمَّ المرّ، زيت سيُستعمل ليغطّي بمحبّة جسد يسوع المُنزل عن الصّليب. إنّ الرّبّ يحب أن نعتني بالأشخاص الذين يتألّمون، بجسده الضّعيف وبالذي لا يزال في الخلف والذي يمكنه أن ينال فقط بدون أن يعطي شيئًا ماديًّا بالمقابل.

 

ثمينة في عيني اللّه الرّحمة تجاه من لا يمكنه أن يبادلنا، أيّ المجانيّة! في زمن الميلاد الذي شارف على الانتهاء لا نفقدنَّ الفرصة لنقدّم هديّة جميلة لملكنا الذي جاء من أجل الجميع، لا على مسارح العالم، وإنّما في فقر بيت لحم المنير. فإن قمنا بذلك سيسطع علينا نوره!".