البابا فرنسيس يرفع الكرادلة والأساقفة المتوفّين خلال هذه السّنة إلى الله في قدّاس خاصّ
وفي تفاصيل عظته، قال البابا بحسب "فاتيكان نيوز": "في القراءة الأولى سمعنا هذه الدّعوة: "جيّد أن ينتظر الانسان ويتوقّع بصمت خلاص الرّبّ". هذا الموقف ليس نقطة انطلاق، بل نقطة وصول. في الواقع، يصل المؤلّف إلى هناك في نهاية طريق، طريق وعر، جعله ينضج. وتوصَّل ليفهم جمال الثّقة بالرّبّ الّذي لا ينكس أبدًا في وعوده. لكن الثّقة بالله لا تنشأ من حماس اللّحظة، وهي ليست عاطفة أو حتّى مجرّد شعور. بل على العكس، هي تأتي من الخبرة وتنضج في الصّبر، كما حدث لأيّوب، الّذي انتقل من معرفة الله "بما سمعه عنه" إلى معرفة حيّة ووليدة خبرة شخصيّة. ولكي يحدث هذا، من الضّروريّ أن يُصار إلى تحوّل داخليّ طويل يقودنا، من خلال بوتقة الألم، لكي نعرف كيف ننتظر بصمت، أيّ بصبر واثق وروح وديعة.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، كم هو مهمٌّ أن نتعلّم فن انتظار الرّبّ! أن ننتظره بهدوء وثقة ونحافظ، خاصّة في أوقات الشّدّة، على صمت مُفعم بالرّجاء. هذه هي الطّريقة الّتي نستعدّ من خلالها للاختبار الأخير والأعظم للحياة، وهو الموت. لكن هناك أوّلاً تجارب اللّحظة، هناك الصّليب الّذي لدينا الآن، والّذي من أجله نطلب من الرّبّ نعمة أن نعرف كيف ننتظر هناك خلاصه الّذي يأتي. يحتاج كلّ واحد منّا إلى أن ينضج في هذا. إزاء صعوبات الحياة ومشاكلها يصعب علينا أن نتحلّى بالصّبر والهدوء. وفي التّجارب، لا يمكن حتّى لذكريات الماضي الجيّدة أن تعزّينا، لأنّ البلاء يقود العقل إلى التّوقّف فقط عند اللّحظات الصّعبة. وهذا الأمر يزيد المرارة، ويبدو أنّ الحياة هي سلسلة متواصلة من المصائب، كما يقول الكاتب: "ذكر مذلَّتي وتيَهاني أفسنتين وعُلقم".
لكن عند هذه النّقطة، يضع الرّبّ نقطة تحوّل، في اللّحظة الّتي يبدو لنا فيها، على الرّغم من استمرار الحوار معه، أنّنا قد لمسنا القعر. في الهاوية، وفي كرب الهراء، يقترب الله ليخلص. وعندما تبلغ المرارة ذروتها، يزدهر الرّجاء فجأة مرّة أخرى. "أُردِّد هذا في قلبي– يقول المصلّي في كتاب مراثي إرميا- ومن أجل ذلك أرجو". في خضمّ الألم، يرى من هو قريب من الرّبّ أنّه يكشف عن الألم ويفتحه ويحوّله إلى باب يدخل من خلاله الرّجاء. إنّها خبرة فصحيّة، عبور أليم يفتح على الحياة، نوع من الألم الرّوحيّ الّذي ينقلنا من الظّلام إلى النّور.
إنّ نقطة التّحوّل هذه لا تتمُّ لأنّ المشاكل اختفت، وإنّما لأنّ الأزمة أصبحت مناسبة سرّيّة للتّطهير الدّاخليّ. إنَّ الرّخاء، في الواقع، غالبًا ما يجعلنا عميان، وسطحيّين، ومتكبّرين. أمّا العبور في التّجربة إذا عشناه في دفء الإيمان، على الرّغم من قساوته والدّموع الّتي يجعلنا نذرفها، يجعلنا نولد من جديد لنجد أنفسنا مختلفين عن الماضي. كتب أحد الآباء في الكنيسة أنّه "لا شيء أكثر من الألم يقودنا إلى اكتشاف أشياء جديدة". إنَّ التّجربة تُجدِّد، لأنّها تعلّمنا أن ننظر أبعد من الظّلام، لكي نلمس بشكل مباشر أنّ الرّبّ ينقذ حقًّا ولديه القدرة على تحويل كلّ شيء، حتّى الموت.
واليوم إزاء سرّ الموت الّذي تمَّ افتداؤه، لنطلب نعمة أن ننظر إلى الشّدائد بعيون مختلفة. لنطلب القوّة لنعرف كيف نقيم فيها في الصّمت الوديع والواثق الّذي ينتظر خلاص الرّبّ، بدون شكوى وبدون تذمّر. وما قد يبدو كعقاب سيظهر نعمة، وعلامة جديدة لمحبّة الله لنا. إنّ معرفة انتظار خلاص الرّبّ بصمت هي فنّ، وعلينا أن ننمِّيه. إنّها ثمينة في هذه المرحلة الّتي نعيشها: والآن، أكثر من أيّ وقت مضى، لا يفيدنا أن نصرخ ونثير الصّخب، وإنّما هناك حاجة لكي يشهد كلُّ فرد بواسطة حياته للإيمان الّذي هو انتظار وديع ومفعم بالرّجاء. إنَّ المسيحيّ لا يقلّل من شدّة الألم، بل يرفع نظره إلى الرّبّ ويثق به ويصلّي من أجل الّذين يتألّمون. هو يحدق نظره إلى السّماء، لكن يداه تبقيان على الدّوام ممدودتين على الأرض، لكي يخدم القريب بشكل ملموس.
بهذا الرّوح، لنُصلِّ من أجل الكرادلة والأساقفة الّذين تركونا خلال العام الماضي. بعضهم توفّي بسبب فيروس الكورونا، في مواقف صعبة أدّت إلى تفاقم الألم. ليتذوّق إخوتنا الآن فرح الدّعوة الإنجيليّة، الّتي يوجّهها الرّبّ إلى خدّامه الأمناء: " تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم".