البابا لإكليريكيّي أبرشيّة تريفينيتو: حدّقوا إلى يسوع، وعزّزوا علاقة صداقة معه
"يسرّني أن ألتقي بكم بمناسبة حجّ اليوبيل. إنّ أرضكم تفخر بجذور مسيحيّة عميقة، تعود بنا إلى الكنيسة القديمة لأكويليا. وفي ذكرى الإيمان هذه تسطع شهادة العديد من الشّهداء والرّعاة القدّيسين. نذكر الأسقف كروماتسيو؛ ونذكر إيرونيموس وروفينوس، اللّذين كانا مثالًا في الدّراسة والحياة النّسكيّة؛ وكذلك الطّوباويَّين توليو ماروتسو وجوفاني سكيافو، المرسَلَين اللّذين نشرا الإنجيل بين شعوب ولغات وثقافات مختلفة.
اليوم يقع على عاتقنا أن نواصل هذا العمل الشّغوف. وبشكل خاصّ، أنتم أيّها الإكليريكيّون مدعوّون لكي تدخلوا في هذه المسيرة الغنيّة بالنّعمة، للحفاظ عليها وتجديدها في اتّباع الرّبّ. لا تيأسوا إذا بدا الطّريق أمامكم أحيانًا صعبًا. كما قال الطّوباويّ يوحنّا بولس الأوّل لإكليروس روما، درّبوا أنفسكم على "الجهد المستمرّ، الطّويل، وغير السّهل. حتّى الملائكة الّذين رآهم يعقوب في الحلم لم يكونوا يطيرون، بل كانوا يصعدون درجةً تلو الأخرى؛ فكم بالحري نحن، البشر الفقراء، الّذين لا نملك أجنحة". هكذا تكلّم راعٍ أشعّت فيه أفضل فضائل شعبكم: في شخصه تجدون نموذجًا حقيقيًا للحياة الكهنوتيّة.
وأودّ أن أتذكّر أيضًا مقطعًا من ارتداد القدّيس أوغسطينوس، كما يرويه بنفسه في الاعترافات. فقد كان من ناحية متشوّقًا لاتّخاذ قراره من أجل المسيح، ومن ناحية أخرى، كانت تمنعه الشّكوك والمغريات. وإذ كان في اضطراب عميق، انسحب يومًا إلى حديقة منزله ليتأمّل؛ وهناك ظهرت له العفّة مجسّدة، وقالت له: "لماذا تعتمد– ولا تعتمد– على نفسك؟ ألقِ بنفسك في الله بلا خوف. فهو لن يتراجع لكي يجعلك تسقُط. ألقِ بنفسك بثقة، وهو سوف يحتضنك ويشفيك.
كأبِ، أكرّر لكم هذه الكلمات الّتي أفادت قلب أوغسطينوس المضطرب: فهي لا تنطبق فقط على العزوبيّة، الّتي هي موهبة يجب الاعتراف بها والحفاظ عليها وتهذيبها، بل يمكنها أن توجه مسيرتكم في التّمييز والتّنشئة نحو الخدمة الكهنوتيّة. تدعوكم هذه الكلمات، بشكل خاصّ، إلى الثّقة اللّامحدودة بالرّبّ الّذي دعاكم، والتّخلّي عن الادّعاء بالاكتفاء الذّاتيّ أو الاعتماد على قواكم وحدها. وهذا لا ينطبق فقط على سنوات الإكليريكيّة، بل على الحياة كلّها: في كلّ لحظة، ولاسيّما في أوقات الجفاف أو حتّى الخطيئة، كرّروا في أنفسكم كلمات المزمور: "على رحمة الله توكّلتُ مدى الدّهر وللأبد".
إنّ كلمة الله والأسرار المقدّسة هي ينابيع دائمة، يمكنكم دائمًا أن تستقوا منها نسغًا جديدًا لحياتكم الرّوحيّة وللالتزام الرّعويّ. فلا تظنّوا أنّكم وحدكم، ولا تعيشوا كأنّكم وحدكم. لا شكّ– كما تنصّ الوثيقة التّوجيهيّة الأساسيّة– أنّ "كل واحد منكم هو رائد تنشئته الخاصّة، ويدعى إلى مسيرة نموّ دائم على المستويات الإنسانيّة والرّوحيّة والفكريّة والرّعويّة"؛ لكن أن تكونوا روّادًا لا يعني أن تكونوا منفردين! لذلك أدعوكم إلى تنمية روح الشّركة، أوّلًا مع رفاقكم في الإكليريكيّة. ثقوا بالكامل بالمنشِّئين، بدون تردّد أو ازدواجيّة. وأنتم أيّها المنشِّؤون، كونوا رفقاء درب صالحين للإكليريكيّين الّذين أوُكلوا إليكم: قدّموا لهم الشّهادة المتواضعة لحياتكم وإيمانكم؛ ورافقوهم بمودّة صادقة. واعلموا أنّ الكنيسة تعضدكم جميعًا، أوّلًا في شخص الأسقف.
وأخيرًا، الأهمّ من كلّ شيء: حدّقوا إلى يسوع، وعزّزوا علاقة صداقة معه. وفي هذا الصّدد، كتب الكاهن الإنكليزيّ روبرت هيو بنسون بعد ارتداده إلى الكاثوليكيّة: "إذا كان هناك أمر واحد لا شكّ فيه في الإنجيل، فهو هذا: يسوع المسيح يريد أن يكون صديقنا. […] إنّ السّرّ الّذي صنع القدّيسين يكمن في هذا وحده: يقين الصّداقة مع يسوع المسيح". هو يطلب– كما كتب البابا فرنسيس في الرّسالة العامّةDilexit nos – " ألا تخجل من الاعتراف بصداقتك مع الرّبّ. يطلب منك أن تتحلّى بالشّجاعة لتخبر الآخرين أنّ لقاءك به كان خيرًا لك". إنّ لقاء يسوع، في الواقع، يخلّص حياتنا، ويمنحنا القوّة والفرح لكي نعلن الإنجيل للجميع. أيّها الأعزّاء، أشكركم على هذه الزّيارة. أتمنّى لكم مسيرة موفّقة! ولترافقكم دائمًا العذراء مريم، ومعها بركتي."