الفاتيكان
13 آب 2025, 12:30

البابا لاون الرّابع عشر: الإيمان يمنحنا دائمًا درب الرّحمة

تيلي لوميار/ نورسات
"نواصل مسيرتنا في مدرسة الإنجيل، متّبعين خطى يسوع في الأيّام الأخيرة من حياته. واليوم نتوقّف عند مشهد حميم ومأساويّ، ولكنّه في الوقت عينه حقيقيّ: تلك اللّحظة الّتي كشف فيها يسوع، أثناء عشاء الفصح، أنّ واحدًا من الاثني عشر سيسلّمه: "الحقّ أقول لكم إنّ واحدًا منكم سيسلّمني، وهو يأكل معي".

من تلك اللّحظة انطلق البابا لاون الرّابع عشر في تعليمه الأسبوعيّ خلال المقابلة العامّة صباحًا، في قاعة بولس السّادس بالفاتيكان، ليتوسّع بعدها ويقول بحسب "فاتيكان نيوز": "كلمات قويّة. لم يقلها يسوع لكي يدين، وإنّما لكي يُظهر أنّ المحبّة، عندما تكون حقيقيّة، لا يمكنها أن تنفصل عن الحقيقة. لقد امتلأت الغرفة العلويّة، الّتي أُعِدَّ فيها كلّ شيء بعناية، فجأة بألم صامت، مكوَّن من تساؤلات وشكوك وهشاشة. إنّه ألم نعرفه جيّدًا نحن أيضًا، حين يتسرّب ظلّ الخيانة إلى أعمق العلاقات وأغلاها.

ومع ذلك فإنّ الطّريقة الّتي يتحدّث بها يسوع عمّا سيحدث مدهشة. فهو لا يرفع صوته، ولا يوجّه أصابع الاتّهام، ولا يذكر اسم يهوذا. يتحدّث بطريقة تجعل كلّ واحد يسأل نفسه. وهذا بالضّبط ما حدث، ويقول لنا القدّيس مرقس: "فأخذوا يشعرون بالحزن ويسألونه الواحد بعد الآخر: أأنا هو؟".

أيّها الأصدقاء الأعزّاء، هذا السّؤال– "أأنا هو؟"– هو ربّما من أكثر الأسئلة صدقًا الّتي يمكننا أن نطرحها على أنفسنا. إنّه ليس سؤال البريء، بل سؤال التّلميذ الّذي يكتشف هشاشته. إنّه ليس صرخة المذنب، بل همس من يريد أن يحبّ، وهو يعلم أنّه قادر على أن يجرح. وبالتّالي في هذا الوعي تبدأ مسيرة الخلاص.

إنّ يسوع لا يدين لكي يُهين، بل يقول الحقيقة لأنّه يريد أن يخلّص. ولكي ننال الخلاص، علينا أن نشعر: أن نشعر أنّنا معنيّون، أن نشعر أنّنا محبوبون رغم كلّ شيء، أن نشعر أنّ الشّرّ حقيقيّ ولكنّه لا يملك الكلمة الأخيرة. وحده الّذي اختبرَ حقيقة محبّة عميقة يستطيع أن يقبل أيضًا جرح الخيانة. إنّ ردّة فعل التّلاميذ لم تكن الغضب، بل الحزن. فهم لم يستشيطوا سخطًا، بل شعروا بالحزن. إنّه ألم يولد من الإمكانيّة الحقيقيّة بأن نكون معنيّين بالأمر. وهذا الحزن بالذّات، إذا قبلناه بصدق، يصبح مكانًا للارتداد. وبالتّالي فالإنجيل لا يعلّمنا أن ننكر الشّرّ، بل أن نعترف به كفرصة مؤلمة لكي نولد من جديد.

ثمّ يضيف يسوع عبارة تقلقنا وتدعونا للتّأمّل: "الويل لذلك الإنسان الّذي يُسلّم ابن الإنسان عن يده. فلو لم يولد ذلك الإنسان لكان خيرًا له". إنّها كلمات قاسية بلا شكّ، لكن ينبغي أن نفهمها جيّدًا: فهي ليست لعنة، بل صرخة ألم. وفي اليونانيّة، تأتي كلمة "الوَيْل" هنا بصيغة النّحيب، "آه"، كصرخة شفقة صادقة وعميقة.

نحن معتادون أن نحكم، أمّا الله فيقبل أن يتألّم. وعندما يرى الشّرّ، هو لا ينتقم، بل يحزن. وعبارة "فلو لم يولد ذلك الإنسان لكان خيرًا له" ليست حكمًا مُسبقًا بالإدانة، بل حقيقة يمكن لكلّ واحد منّا أن يدركها: إذا أنكرنا المحبّة الّتي وَلَدَتنا، وإذا أصبحنا بخيانتنا غير أمناء لذواتنا، عندها سنفقد حقًّا معنى وجودنا في هذا العالم ونستبعد أنفسنا عن الخلاص.

ومع ذلك، هناك بالتّحديد، في أعمق نقطة من الظّلام، لا ينطفئ النّور، بل يبدأ في الإشعاع. لأنّه إذا اعترفنا بمحدوديّتنا، وإذا سمحنا لآلام المسيح بأن تلمسنا، عندها يمكننا أخيرًا أن نولد من جديد. فالإيمان لا يعفينا من إمكانيّة الخطيئة، لكنّه يمنحنا دائمًا دربًا للخروج منها: درب الرّحمة.

إنّ يسوع لا يتشكّك من هشاشتنا. فهو يعلم جيّدًا أنّ أيّ صداقة ليست بمنأى عن خطر الخيانة. ومع ذلك، هو يواصل الثّقة. يواصل الجلوس إلى المائدة مع خاصّته. ولا يتخلّى عن كسر الخبز حتّى للّذي سوف يخونه. هذه هي قوّة الله الصّامتة: هو لا يترك أبدًا مائدة المحبّة، حتّى وهو يعلم أنّه سيُترَك وحيدًا.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، يمكننا نحن أيضًا أن نسأل أنفسنا اليوم، بصدق: "أأنا هو؟". لا لكي نشعر بالاتّهام، بل لكي يفتح هذا السّؤال فسحة للحقيقة في قلوبنا. فهنا يبدأ الخلاص: من الوعي بأنّنا قد نكون نحن الّذين نكسر الثّقة بالله، ولكن يمكننا أيضًا أن نكون نحن مَن يجمعها ويحافظ عليها ويجدّدها.

في النّهاية، هذا هو الرّجاء: أن نعرف أنّه حتّى وإن كنّا قد نفشل، فالله لا يفشل أبدًا. وحتّى وإن كنّا قد نخون، فهو لا يتوقّف عن محبّتنا. وإذا سمحنا لهذا الحبّ– المتواضع، الجريح، لكن الدّائم الأمانة– أن يبلّغنا، عندها يمكننا حقًّا أن نولد من جديد، ونبدأ حياة لا كخونة، بل كأبناء محبوبين على الدّوام."