البابا لاون الرّابع عشر: للإصغاء إلى صرخة الفقراء!
"تدعونا آحاد السّنة اللّيتورجيّة الأخيرة إلى النّظر إلى التّاريخ من خلال نهاياته الحاسمة. ففي القراءة الأولى، يرى النّبيّ ملاخي في مجيء "يوم الرّبّ" دخولًا في الزّمن الجديد. ويُوصَف هذا الزّمن بأنّه زمن الله، الّذي يجعل فيه شمس العدل تشرق كالفجر، فتنال آمال الفقراء والمتواضعين من الرّبّ جوابًا نهائيًّا وحاسمًا، ويُقتَلَع ويُحرَق كالقشّ عمل الأشرار وظلمهم، الّذي يرتكبونه بحقّ العزّل والفقراء.
إنَّ شمس العدل هذه الّتي تُشرق، كما نعلم، هي يسوع نفسه. إنّ يوم الرّبّ في الواقع ليس فقط اليوم الأخير في التّاريخ، بل هو الملكوت الّذي يقترب من كلّ إنسان في ابن الله الّذي يأتي. وفي الإنجيل، إذ يستخدم اللّغة الرّؤيويّة السّائدة في عصره، يعلن يسوع هذا الملكوت ويدشّنه: فهو نفسه سيادة الله الّتي تحضر، والّتي تشقّ لنفسها مكانًا وسط أحداث التّاريخ المأساويّة. ولذلك لا ينبغي لهذه الأحداث أن تُرعِب التّلميذ، بل أن تجعله أكثر ثباتًا في الشّهادة، وأكثر وعيًا بأنّ وعد يسوع حيّ وأمين إلى الأبد: "لَن تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رُؤُوسِكم".
هذا هو الرّجاء، أيها الإخوة والأخوات، الّذي نتشبّث به حتّى وسط تقلّبات الحياة غير المبهجة. فاليوم أيضًا تواصل الكنيسة حجّها بين اضطهادات العالم وتعزيات الله، معلنة موت الرّبّ إلى أن يأتي. وحيثما يبدو وكأنّ كلّ الآمال البشريّة تنفد، يتعزّز اليقين الوحيد، الثّابت أكثر من السّماء والأرض، بأنّ الرّبّ لن يسمح بأن تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رؤوسنا.
في الاضطهادات والآلام والتّعب وضيقات الحياة والمجتمع، لا يتركنا الله وحدنا. بل يتجلّى لنا كمن يتّخذُ موقفًا معنا. فالكتابُ المقدّس كلُّه يخترقُه هذا الخيطُ القرمزيُّ الّذي يَسردُ حكايةَ إلهٍ يقفُ دومًا في صفّ الأصغر، وإلى جانب اليتيم والغريب والأرملة. وفي يسوع، ابنه، يبلغ قرب الله ذروة المحبّة: لذلك يصبح حضور المسيح وكلمته عيدًا ويوبيلًا للفقراء، لأنّه جاء ليبشّر الفقراء ويُعلن سنة رضا عند الرّبّ.
نحن أيضًا نشارك اليوم بطريقة مميّزة في سنة النّعمة هذه، ونحن نحتفل في هذا اليوم العالميّ بيوبيل الفقراء. إنّ الكنيسة بأسرها تبتهج وتفرح، وأرغب أوّلًا أن أنقل إليكم، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، الكلمات الثّابتة الّتي لا رجعة عنها للرّبّ يسوع نفسه "Dilexi te -لقد أحببتك". نعم، أمام ضعفنا وفقرنا، ينظر إلينا الله نظرة لا ينظر بها أحد، ويحبّنا بمحبّة أبديّة. وكنيسته، اليوم أيضًا، وربّما خصوصًا في هذا الزّمن الّذي لا تزال تجرحه أشكال الفقر القديمة والجديدة، تريد أن تكون "أمًّا للفقراء، ومكانًا للضّيافة والعدالة".
كم هي كثيرة أشكال الفقر الّتي تثقل عالمنا! هناك أوّلًا الفقر المادّيّ، لكن هناك أيضًا العديد من الأوضاع الأخلاقيّة والرّوحيّة، الّتي تطال الشّباب بشكل خاصّ. والمأساة المشتركة الّتي تجمع بينها جميعًا هي العزلة. هي تتحدّانا لكي ننظر إلى الفقر بأسلوب شامل؛ لأنّه علينا في بعض الأحيان أن نلبّي الاحتياجات الملحّة، ولكن بصفةٍ عامّة، علينا أن نطوِّر ثقافة الاهتمام، لكي نكسر جدار العزلة. لذلك نريد أن نكون متنبّهين للآخر، لكلّ شخص، حيثما نكون ونعيش، وننقل هذا الموقف بدءًا من العائلة، ونعيشه بشكل ملموس في أماكن العمل والدّراسة، وفي مختلف الجماعات، وفي العالم الرّقميّ، وفي كلّ مكان، لاسيّما في الضّواحي، لنصبح شهودًا لحنان الله.
اليوم، تبدو مشاهد الحروب، المنتشرة للأسف في مناطق مختلفة في العالم، وكأنّها تثبتنا في حالة عجز. لكن عولمة العجز تولد من كذبة، من الاعتقاد بأنّ هذا التّاريخ كان دائمًا هكذا ولن يتغيّر. أمّا الإنجيل فيخبرنا أنّ الرّبّ يأتي ليخلّصنا بالتّحديد وسط اضطرابات التّاريخ. ونحن، كجماعة مسيحيّة، علينا أن نكون اليوم، بين الفقراء، علامة حيّة لهذا الخلاص.
إنّ الفقر يسائل المسيحيّين، لكنّه يسائل أيضًا جميع الّذين في المجتمع يشغلون أدوار مسؤوليّة. لذلك أحثّ رؤساء الدّول وقادة الأمم على الإصغاء إلى صرخة الفقراء. لن يكون هناك سلام بدون عدالة، والفقراء يذكّروننا بذلك بطرق متعدّدة: بهجرتهم، وبصرختهم الّتي غالبًا ما تخنقها أسطورة الرّفاهيّة والتّقدّم الّذي لا يشمل الجميع، بل ينسى الكثيرين ويتركهم لمصيرهم."
أضاف الحبر الأعظم يقول للعاملين في خدمة المحبّة، وللعديد من المتطوّعين، ولجميع الّذين يسعون للتّخفيف من ظروف الأشخاص الأشدّ فقرًا، "أقدّم شكري، وكذلك تشجيعي لكي يكونوا على الدّوام ضميرًا نقديًّا في المجتمع. أنتم تعلمون جيّدًا أنّ قضيّة الفقراء تعود بنا إلى جوهر إيماننا، لأنّهم بالنّسبة لنا جسد المسيح نفسه وليسوا مجرّد فئة اجتماعيّة. ولذلك تسير الكنيسة كأمّ مع الّذين يسيرون. وحيث يرى العالم تهديدات، هي ترى أبناءً؛ وحيث يبني العالم الجدران، هي تبني الجسور.
لنلتزم جميعًا. كما يكتب الرّسول بولس إلى مسيحيّي تسالونيكي، في انتظار عودة الرّبّ المجيدة، لا يجب أن نعيش حياة منطوية على ذواتنا أو في انعزال دينيّ يُترجم إلى انسحاب من التزاماتنا تجاه الآخرين والتّاريخ. ولكنّ البحث عن ملكوت الله يعني الرّغبة في تحويل التّعايش البشريّ إلى فسحة أخوّة وكرامة للجميع، بدون استثناء. ولكن هناك دائمًا خطر أن نعيش كمسافرين غافلين، لا يكترثون للهدف النّهائيّ وغيرُ مهتمّين بالّذين يشاركوننا المسيرة.
في يوبيل الفقراء هذا، لنسمح بأن تُلهمنا شهادة القدّيسين والقدّيسات الّذين خدموا المسيحَ في الأشخاص الأشدّ عوزًا وتبعوه في درب الصِّغر والتّجرّد. وبشكل خاصّ، أودُّ أن أُعيدَ طرحَ شخصيّة القدّيس "Benedetto Giuseppe Labre"، الّذي بفضل حياته كـ"مشرّد الله"، يمتلكُ الخصائصَ الّتي تؤهّلُه ليكونَ شفيعًا لجميع الفقراء المشرّدين. لْتساعدْنا العذراء مريمُ، الّتي في نشيدها تُذكّرنا دومًا بخيارات الله وتغدو صوتًا لمن لا صوتَ له، لكي ندخل في المنطق الجديد للملكوت، لكي تكونَ محبّةُ اللهِ الّتي تقبل، وتغفرُ، وتضمّدُ الجراحَ، وتُعزّي، وتشفي، حاضرةً دائمًا في حياتنا كمسيحيّين."
