البابا لاون الرّابع عشر: لنسبّح الله ونجدّد التزامنا بألّا نُفسد عطيّته بل أن نعتني ببيتنا المشترك
"الأوّل من أيلول سبتمبر، هو اليوم العالميّ للصّلاة من أجل العناية بالخليقة. لعشر سنوات خلت، أسّس البابا فرنسيس، بانسجام مع البطريرك المسكونيّ برثلماوس الأوّل، هذا اليوم في الكنيسة الكاثوليكيّة. وهو اليوم أكثر إلحاحًا وأهمّيّة من أيّ وقت مضى، ويحمل هذا العام شعار: "بذور السّلام والرّجاء". وبالاتّحاد مع جميع المسيحيّين، نحتفل به ونمدّه في "زمن الخليقة" حتّى الرّابع من تشرين الأوّل أكتوبر، عيد القدّيس فرنسيس الأسيزيّ. وفي روح نشيد "الأخت الشّمس" الّذي نَظَمه القدّيس فرنسيس لثمانمائة سنة خلت، لنسبّح الله ونجدّد التزامنا بألّا نُفسد عطيّته بل أن نعتني ببيتنا المشترك."
هذا، وفي كلمته، وجّه البابا نداءً سلاميًّا قائلًا بحسب "فاتيكان نيوز": "للأسف، لا تزال الحرب في أوكرانيا تزرع الموت والدّمار. ففي هذه الأيّام أيضًا أصابت الغارات عدّة مدن، بما فيها العاصمة كييف، متسبّبة في سقوط العديد من الضّحايا. أجدّد قربي من الشّعب الأوكرانيّ ومن جميع العائلات الجريحة. وأدعو الجميع إلى عدم الاستسلام للّامبالاة، بل إلى الاقتراب بالصّلاة وبأعمال محبّة ملموسة. وأكرّر بقوّة ندائي الملحّ من أجل وقفٍ فوريّ لإطلاق النّار، ومن أجل التزام جادّ في سبيل الحوار. لقد آن الأوان لكي يتخلّى المسؤولون عن منطق السّلاح، ويسلكوا درب المفاوضات والسّلام، بدعم من الجماعة الدّوليّة. يجب أن تصمت أصوات السّلاح، فيما ينبغي أن ترتفع أصوات الأخوّة والعدالة.
نصلّي من أجل ضحايا حادث إطلاق النّار المأساويّ أثناء قدّاس مدرسيّ في ولاية مينيسوتا الأميركيّة. وندرج في صلواتنا الأطفالَ الكُثُر الّذين يُقتلون أو يُصابون كلّ يوم في أنحاء العالم. لنلتمس من الله أن يوقف وباء الأسلحة، كبيرة كانت أم صغيرة، الّذي يفتك بعالمنا. ولتساعدنا أمّنا مريم، ملكة السّلام، لكي نُتمّ نبوءة أشعيا: "فيضربون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل".
كذلك تنزف قلوبنا ألمًا على أكثر من خمسين شخصًا لقوا حتفهم وحوالي مئة آخرين ما زالوا مفقودين، في غرق قارب مكتظّ بالمهاجرين حاولوا القيام برحلة طولها ١١٠٠ كيلومتر نحو جزر الكناري، فانقلب بالقرب من السّواحل الأطلسيّة لموريتانيا. هذه المأساة المميتة تتكرّر كلّ يوم في مختلف أنحاء العالم. لنصلِّ لكي يعلّمنا الرّبّ، كأفراد وكمجتمعات، أن نطبّق كلمته بالكامل: "كنتُ غريبًا فآويتموني". ونوكل جميع الجرحى والمفقودين والمُتوفَّين، في كلّ مكان، لعماق مخلِّصنا المحبّ."
وكان البابا قبل الصّلاة قد توجّه بكلمة روحيّة إلى المحتشدين في ساحة القدّيس بطرس بالفاتيكان قائلًا: "إنَّ الجلوس معًا إلى المائدة، لاسيّما في أيّام الرّاحة والأعياد، هو علامة سلام وشركة في كلّ ثقافة. وفي إنجيل هذا الأحد دُعي يسوع إلى الغداء في بيت أحد رؤساء الفرّيسيّين. إنّ استقبال الضّيوف يوسّع مساحة القلب، أمّا أن نصبح نحن ضيوفًا فيتطلّب تواضع الدّخول إلى عالم الآخرين. وثقافة اللّقاء تتغذّى من هذه المبادرات الّتي تقرّب القلوب.
لكن، اللّقاء ليس سهلًا دائمًا. يلاحظ الإنجيليّ أنّ المدعوّين كانوا "يراقبون" يسوع، وعادةً ما كان يُنظر إليه بريبة من قبل المفسّرين الأكثر تشدّدًا للتّقليد. ومع ذلك، يحصل اللّقاء، لأنّ يسوع يقترب حقًّا، ولا يبقى خارجًا عن الموقف. لقد صار ضيفًا بالفعل، باحترام وصدق. وتخلّى عن تلك المجاملات الشّكليّة الّتي لا تهدف إلّا إلى تجنّب الانخراط المتبادل. وهكذا، على طريقته الخاصّة، يصف ما يراه من خلال مثل، ويدعو الّذين يراقبونه إلى التّفكير. لقد لاحظ، في الواقع، أنّ هناك سباقًا لأخذ المقاعد الأولى. وهذا يحدث أيضًا اليوم، ليس في العائلة، وإنّما في المناسبات الّتي يكون فيها الظّهور أهمّ من المشاركة؛ فحينها يتحوّل الجلوس معًا إلى منافسة.
أيّتها الأخوات وأيّها الإخوة، إنَّ جلوسنا معًا إلى مائدة الإفخارستيّا، في يوم الرّبّ، يعني أيضًا أن نترك ليسوع الكلمة. فهو يجعل من نفسه بسرور ضيفنا، ويقدر أن يصف لنا كيف يرانا. ومن المهمّ جدًّا أن نرى أنفسنا بعينيه: أن نعيد التّفكير كيف غالبًا ما نختزل الحياة في سباق، وكيف نفقد اتّزاننا من أجل بعض الاعتراف من قبل الآخرين، وكيف نقارن أنفسنا بالآخرين بلا جدوى. وبالتّالي أن نتوقّف لنتأمّل، ونسمح لكلمة تهزّ أولويّات قلوبنا: هما خبرة حرّيّة. ويسوع يدعونا إلى الحرّيّة.
يستعمل الإنجيل كلمة "التّواضع" ليصف الشّكل الكامل للحرّيّة. لأنَّ التّواضع في الواقع هو التّحرُّر من الذّات. وهو يولد عندما يصبح ملكوت الله وبرّه اهتمامنا الأوّل، فنسمح لأنفسنا بأن ننظر بعيدًا: لا إلى أطراف أقدامنا، بل إلى الآفاق البعيدة! من يرفع نفسه، عادة، يبدو كأنّه لم يجد ما هو أهمّ من ذاته، وفي العمق لا يكون واثقًا بنفسه. أمّا من فهم أنّه ثمين جدًّا في عيني الله، ومن يشعر بعمق أنّه ابن أو ابنة لله، فلديه ما هو أعظم ليفتخر به، وله كرامة تشرق من ذاتها. وهذه الكرامة تأتي إلى الواجهة، تحتلّ المكان الأوّل، بلا جهد ولا حسابات، عندما نتعلّم أن نخدم بدل أن نستغلّ المواقف.
أيّها الأعزّاء، لنطلب اليوم أن تكون الكنيسة للجميع مدرسة للتّواضع، أيّ ذلك البيت الّذي يكون فيه الجميع دائمًا موضع ترحيب، وحيث لا تُؤخذ المقاعد بالسّباق، وحيث يستطيع يسوع أن يأخذ الكلمة ويعلّمنا تواضعه وحرّيّته. ومريم، الّتي نرفع إليها الآن صلاتنا، هي حقًّا أمّ هذا البيت."