الفاتيكان
26 كانون الأول 2025, 06:55

البابا يوجّه أفكاره في الميلاد إلى "خيام غزّة" وخيام النّازحين في كلّ قارّة

تيلي لوميار/ نورسات
في عيد الميلاد الأوّل له كحبر أعظم، ترأّس البابا لاون الرّابع عشر، صباح الخميس، القدّاس الإلهيّ في بازيليك القدّيس بطرس.

وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": ""إندفعي معًا بالتّرنيم"؛ هكذا يصدح بشير السّلام في وجوه القابعين بين أطلال مدينةٍ ينبغي بناؤها من جديد. ورغم أنّ قدميه مغبرتان وجريحتان، إلّا أنّهما- كما وصفهما النّبيّ- "جميلتان"؛ لأنّهما عبرتا طرقًا وعرة وطويلة لتحملا بشرى سارّة، يولد بها اليوم مجدّدًا كلّ شيء. إنّه فجر يوم جديد! ونحن أيضًا، نشارك في هذا التّحوّل الّذي لا يكاد أحدٌ يصدقه بعد: إنّ السّلام موجود، وهو في وسطنا.

"سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا". هكذا قال يسوع لتلاميذه الّذين غسل أقدامهم، ليغدوا، رسل السّلام الّذين كان عليهم من ذلك الحين فصاعدًا أن يجوبوا العالم، بدون كلل، ليكشفوا للجميع "قدرة أن يصبحوا أبناء الله". اليوم، إذن، نحن لا نندهش فقط من السّلام الموجود، بل نحتفل بالطّريقة الّتي أُعطيت بها لنا هذه العطيّة. في الطّريقة، في الواقع، يتألّق الاختلاف الإلهيّ الّذي يجعلنا ننفجر في ترانيم الفرح. وهكذا، في كلّ أنحاء العالم، عيد الميلاد هو بامتياز عيد الموسيقى والتّرانيم.

إنّ مقدّمة الإنجيل الرّابع هي نشيدٌ بطلُه "كلمة الله". و"الكلمة" هي قولٌ فاعل، وهذه هي ميزة كلمة الله: فهي ليست أبدًا بدون أثر. وإن أمعنّا النّظر، لوجدنا أنّ الكثير من كلماتنا تترك آثارًا، وأحيانًا آثارًا غير مرغوب بها. نعم، الكلمات تعمل. ولكن، ها هي المفاجأة الّتي تضعنا ليتورجيًّا الميلاد أمامها: كلمة الله يظهر ولا يعرف الكلام، يأتي إلينا كطفل رضيع لا يفعل سوى البكاء والنّشيج.

"وصار جسدًا". ومع أنّه سيكبر وسيتعلّم يومًا لغة قومه، إلّا أنّ المتحدّث الآن هو "حضوره" البسيط والهشّ. إنّ "الجسد" هو العري المطلق الّذي يفتقر في بيت لحم، كما على الجلجلة، حتّى إلى الكلمة؛ تمامًا كما يفتقر إليها إخوة وأخوات لنا سُلبوا كرامتهم وأُكرهوا على الصّمت. إنّ الجسد البشريّ يطلب الرّعاية، ويستجدي القبول والاعتراف، ويبحث عن أيدٍ قادرة على الحنان وعقولٍ مستعدّة للانتباه، ويصبو إلى كلمات صالحة.

"جاء إلى بيته. فما قبله أهل بيته. أمّا الّذين قبلوه وهم الّذين يؤمنون باسمه فقد مكنهم أن يصيروا أبناء الله". ها هي المفارقة الّتي يتجلّى بها السّلام بيننا: إنّ عطيّة الله تطلب المشاركة، وتبحث عن القبول، وتحرّك التّفاني. هي تفاجئنا لأنّها تُعرِّض نفسها للرّفض، وتسحرنا لأنّها تنزعنا من اللّامبالاة. أن نصير "أبناءً لله" هو سلطان حقيقيّ؛ سلطان يبقى دفينًا ما دمنا بعيدين عن بكاء الأطفال وهشاشة المسنّين، وعن صمت الضّحايا العاجز، وعن الكآبة المستسلمة لمن يرتكب الشّرّ الّذي لا يريده.

وكما كتب البابا الحبيب فرنسيس، لكي يذكّرنا بفرح الإنجيل: "نشعر أحيانًا بتجربة أن نكون مسيحيّين يحافظون على مسافة حذرة من جراح الرّبّ. لكن يسوع يريدنا أن نلمس البؤس البشريّ، أن نلمس جسد الآخرين المتألّم. إنّه ينتظر منّا أن نتخلّى عن البحث عن تلك الملاذات الشّخصيّة أو الجماعيّة الّتي تسمح لنا بالبقاء بعيدًا عن صلب المأساة البشريّة، لكي نقبل حقًّا أن ندخل في علاقة مع الوجود الملموس للآخرين ونعرف قوّة الحنان.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، بما أنّ الكلمة صار جسدًا، فإنّ الجسد الآن هو الّذي يتكلّم، ويصرخ بالرّغبة الإلهيّة في لقائنا. لقد نصب الكلمة خيمته الهشّة بيننا. فكيف لا نفكّر في "خيام غزّة"، المعرّضة منذ أسابيع للأمطار والرّياح والبرد، وفي خيام العديد من النّازحين واللّاجئين في كلّ قارّة، أو في ملاجئ آلاف المشرّدين في مدننا؟ هشٌّ هو جسد الشّعوب العزلاء، الّتي أضنتها حروب مستعرة أو أخرى وضعت أوزارها مخلّفةً دمارًا وجراحًا غائرة. وهشّةٌ هي عقول وأرواح الشّباب الّذين أُكرهوا على حمل السّلاح، والّذين يدركون على جبهات القتال عبثيّة ما يُطلب منهم، وزيف الشّعارات الرّنّانة الّتي يطلقها الّذين يرسلونهم إلى الموت.

عندما تنفذ هشاشة الآخرين إلى قلوبنا، وعندما يحطّم ألم الآخرين ضماناتنا الصّخريّة، حينها يبدأ السّلام. إنّ سلام الله يولد من نشيجٍ نقبله، ومن بكاءٍ نسمعه؛ يولد بين الأنقاض الّتي تطلب تضامنًا جديدًا، ويولد من أحلام ورؤى تقلّب- كالنّبوءات- مجرى التّاريخ. نعم، كلّ هذا موجود، لأنّ يسوع هو "الكلمة"، المعنى الّذي استمدّ منه كلّ شيء شكله. "به كان كلّ شيء وبدونه ما كان شيء ممّا كان". هذا السّرّ يسائلنا من مغاور الميلاد الّتي شيّدناها، ويفتح عيوننا على عالم لا يزال صوت الكلمة يتردّد فيه "مرّات كثيرة وبوجوه كثيرة"، ولا يزال يدعونا إلى الارتداد.

إنّ الإنجيل بالتّأكيد، لا يخفي مقاومة الظّلمات للنّور، ويصف مسار كلمة الله كطريق شاقّ محفوف بالعقبات. وإلى يومنا هذا، يقتفي رسل السّلام الحقيقيّون أثر "الكلمة" في هذا الدّرب الّذي يصل في نهايته إلى القلوب: تلك القلوب القلقة الّتي غالبًا ما تشتهي ما تقاومه. وهكذا، يعيد الميلاد تحريك كنيسة مرسلة، ويدفعها نحو السّبل الّتي رسمتها لها كلمة الله. نحن لا نخدم "كلمةً مستبدّة"- وما أكثرها في كلّ مكان- بل نخدم حضورًا يولّد الخير، ويعرف فعاليّته، ولا يدّعي احتكاره.

هذا هو درب الرّسالة: دربٌ نحو الآخر. ففي الله، كلّ كلمة هي كلمة موجّهة، هي دعوة للحوار، كلمة تتجدّد ولا تكرّر ذاتها. هذا هو التّجديد الّذي عزّزه المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، والّذي لن نراه يزهر إلّا بالسّير جنبًا إلى جنب مع البشريّة جمعاء، وليس بالابتعاد عنها. أمّا روح العالم فهي النّقيض تمامًا: أن نجعل من ذواتنا محورًا للكون.

إنّ حركة "التّجسّد" هي ديناميكيّة حوار. وسيحلّ السّلام عندما تنقطع مناجاتنا الأحاديّة، وعندما نركع- يخصِّبنا الإصغاء- أمام جسد الآخر العاري. إنّ مريم العذراء هي في هذا تحديدًا أمّ الكنيسة، ونجمة البشارة، وملكة السّلام. وفيها ندرك أنّ لا شيء يولد من استعراض القوّة، بل إنّ كلّ شيء يولد من جديد بالقدرة الصّامتة للحياة الّتي يتمّ قبولها."