لبنان
03 كانون الثاني 2016, 09:17

البطريرك الراعي: رسالة السلام موجّهة إلى الجماعة السياسية في لبنان التي زعزعت السلام الأهلي اقتصاديًا ومعيشيًا ومصيريًا وعممت الفوضى والفساد وافقرت اللبنانيين وأرغمت الشباب على الهجرة

ترأس غبطة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس عيد العائلة المقدّسة ويوم السلام العالمي في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطارنة: بولس الصياح، شكر الله نبيل الحاج وعاد ابي كرم، الاباتي مارون نصر ولفيف من الكهنة، في حضور الرئيس الأسبق أمين الجميل ووزير العمل سجعان قزي وشخصيات أخرى سياسية واجتماعية وحشد من المؤمنين. بعد الانجيل المقدس، ألقى غبطته عظة بعنوان "وعاد معهما يسوع إلى الناصرة"(لو2: 51)، قال فيها:

عاد يسوع مع أبيه وأمّه إلى الناصرة حيث كان بخضوعه لهما ينمو بالقامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس (راجع لو2: 51-52). في هذه الذكرى تحتفل الكنيسة بعيد العائلة المقدّسة، وتصلّي من أجل كلّ عائلة لكي تتقدّس بالنعمة. فالمسيح الإله وُلد في عائلة بشرية، لكي يعيد إلى الحياة الزوجيّة والعائلية جوهرها في تصميم الله، بحيث تكون "جماعة حبّ وحياة" (الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم، 51)، "وعلى صورة اتّحاد المسيح بالكنيسة" (أفسس5: 32). ونصلّي مع الكنيسة من أجل أن ينمو أولاد عائلاتنا، على مثال المسيح في إنسانيّته، بأبعاد الحياة الثلاثة: النمو بالجسد، والنمو بالتربية الأخلاقيّة والعلميّة، والنموّ روحيًّا بنعمة القداسة. وإنّنا نهنِّئ جميع العائلات بعيدها، راجين أن تكون السنة الجديدة 2016، سنةَ خير ونعم وسلام.

ونحتفل اليوم رسميًّا في لبنان بيوم السلام العالمي، الذي احتفل به قداسة البابا فرنسيس أوّل من أمس في اليوم الأوّل من هذه السنة كالعادة. تنظّم هذا الاحتفال اللّجنة الأسقفية "عدالة وسلامالتابعة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان. فنحيِّي رئيسها سيادة أخينا المطران شكرالله نبيل الحاج ونائب الرئيس وأعضاء اللّجنة. كما نحيِّي جميع المشاركين في هذه الليتورجيا الإلهية، من طلّاب مدارس وشبيبة، وناشطين اجتماعيين، وإعلاميِّين وجمعية مار منصور دي بول، وجمعية فرح العطاء ومؤسسة البطريرك صفير رؤساء وأعضاء، وأخوية القديسة تريز - وادي شحرور بمناسبة الاحتفال بيوبيلها الماسي، وعائلة المرحوم الكسندر يوسف رعد الذي ودّعناه معهم بكثير من الأسى في غزير منذ ثلاثة وأربعين يومًا. إننا نصلّي لراحة نفسه وعزاء أسرته. ونحيي جوقة الأب ألبير شرفان الأنطونية. إن ذكر الأب شرفان والأب سليمان أبي خليل الأنطونيين، اللذين غُيِّبا في دير القلعة بيت مري منذ خمس وعشرين سنة، يبقى في صلاتنا.
في مطلع السنة الجديدة 2016، نسأل الله أن يغنيها بهباته الإلهيّة الروحيّة والزمنيّة. ونصلّي مع قداسة البابا من أجل السلام في العالم، وبخاصّة في لبنان وبلدان الشَّرق الأوسط، الممزَّق بعضُها بالحروب، وأكثريّتها بالتفكّك والتنافر والنزاعات السياسيّة والمذهبيّة. وإنّا نخصِّص تأمّلنا في مضمون رسالة يوم السلام العالمي التي وجّهها إلى العالم البابا فرنسيس وهي بموضوع: "إنتصِرْ على اللّامبالاة، واكسَبْ السلام".

أسارع للحال وأقول أن هذه الرسالة موجّهة إلى كل واحد وواحدة منّا وإلى جميع الناس، أفرادًا وجماعات ومؤسسات، إلى العائلة والكنيسة والدولة. وموجّهة بنوع خاص إلى الجماعة السياسية في لبنان التي بلغت ذروة اللامبالاة بعدم انتخاب رئيس للجمهورية، فعطّلت واجب التشريع في المجلس النيابي، وواجب التدابير الإجرائية في الحكومة، وزعزعت بالتالي السلام الأهلي اقتصاديًا ومعيشيًا ومصيريًا، وعممت الفوضى والفساد، وافقرت اللبنانيين وأرغمت الشباب على الهجرة.
والرسالة موجّهة أيضًا إلى حكام الدول في بلدان الشرق الأوسط وفي الأسرة الدولية الذين لا يبالون بشعوب المنطقة الشرق أوسطية وبحقوقهم في العيش الكريم الآمن في أوطانهم، بل يوقدون نار الحروب في فلسطين والعراق وسوريا واليمن وسواها، واليوم تهدد المملكة العربية السعودية.
 

تبدأ الرسالة بالتأكيد "أن الله ليس غير مبال، بل يكترث للبشرية، ولن يتخلّى عنها"، وبالدعوة إلى المحافظة على أسباب الرجاء، بالرغم من الحروب والنزاعات الدائرة في العالم، التي يسمّيها البابا فرنسيس "بالحرب العالمية المجزّأة". ثم يذكر مبادرات عالميّة تُغلِّب الرجاء على اليأس، منها: لقاء قادة الدول بشأن المتغيّرات المناخية وحماية العيش الكريم على الأرض، بيتنا المشترك، ويوبيل سنة الرحمة، والترابط القائم بين الشعوب، ومبادرات التضامن والتعاون (الفقرتان 1و2).
 

في القسم الأول من الرسالة يتكلم قداسة البابا عن اللامبالاة بكافّة أشكالها وعن "عولمة اللّامبالاة". تبدأ، في شكلها الأوّل، لامبالاة تجاه الله لتصبح لامبالاة تجاه الإنسان، وتجاه الخلق. وذلك بفعل أنسنة مزيّفة، ونزعة مادّية، وروح النسبية والعَدَمية. في هذا الإطار، يعتقد الإنسان أنّه صانع ذاته وحياته والمجتمع؛ ويشعر بأنّه مكتفٍ بذاته، ويسعى ليس فقط إلى الحلول محلّ الله، بل إلى إقصائه بالكلِّية. ويظنّ بالتالي أنّه لا يتوجّب عليه أيّ شيء تجاه آخر غير نفسه. ويدّعي أنّه يمتلك حقوقًا فقط.
اللامبالاة تجاه الإنسان هي موقف الشخص الذس يسمع ويعرف ويقرأ ويرى البؤس والحاجة والمـأساة عند شخص أو عند شعب، ولكنّه يحفظ كلّ ذلك في دائرة نفسه، من دون أيّة مبادرة. هؤلاء الأشخاص اللّامبالون بمآسي غيرهم قد فقدوا الشعور الإنساني، والشفقة، والحنان، ومشاعر الرحمة. عندما يقع قلبنا في اللامبالاة، يصبح وكأنّه من حجر. وعندما نكون بخير وراحة، ولو نسبيًّا، ننسى المحرومين منهما.
أمّا أللامبالاة بالأرض، بيتنا المشترك، وبحالتها الصحية فظاهرة في تلوّث المياه والهواء، واستغلال الغابات من دون تمييز، وفي تدمير البيئة.
كلّ هذه الحالات من اللامبالاة تؤدِّي إلى الانغلاق على الذات والتملّص من الالتزام؛ وتساهم في انتفاء السلام مع الله، ومع القريب، ومع الخلق (الفقرة 3).

6. في القسم الثاني الخاصّ بالسلام، يبيّن البابا فرنسيس كيف أنّ اللامبالاة المعولمة تهدِّد السلام. عندما لا يبالي الإنسان بالله إلى حدّ نسيانه ونكرانه، وبالقيم السميا، يصبح بسهولة فريسة تيّار النسبية، ويصعب عليه العمل بموجب العدالة والالتزام بالسلام، وينزلق نحو أفعال العنف والتعسّف.
يكون السلام مهدَّدًا عندما يتملّص المسؤول من الالتزام بالواجب. وهو بذلك يذكي الظلم والخلل الاجتماعي واللاإستقرار وأعمال العنف. ويكون السلام مهددًا عندما تشمل اللامبالاة حقوق الإنسان الأساسية وكرامته وحريّته، على مستوى المؤسّسات، إذا طُبعت بالسعي إلى الربح والمتعة. فيبرّر هذا التصرف سياسات اقتصادية ظالمة، وبخاصّة عندما تهدف المشاريع الاقتصادية والسياسية إلى السيطرة والاحتفاظ بالسلطة والثروات، من دون أي اعتبار لحقوق الآخرين ومقتضياتهم الأساسية. ولذا عندما تُنكر حقوق الشعوب الأساسية في الغذاء والماء والعناية الصحية والعمل، تجد هذه الشعوب نفسها مضطرة إلى الحصول عليها بالقوّة (راجع البابا فرنسيس: فرح الإنجيل، 59).
والسلام مهدَّد أيضًا من اللامبالاة بالبيئة الطبيعية، الظاهرة في إتلاف الأحراج والتلوّث والكوارث الطبيعية التي تقتلع جماعات بكاملها من بيئتها، وترغمها على العيش في حالة من عدم الاستقرار والهشاشة. هذه كلّها تولِّد حالات جديدة من الفقر والظلم، مع عواقبها الوخيمة على الاستقرار والسلام الاجتماعي (الفقرة4).
 

لا بدّ، يقول البابا فرنسيس، حيال هذه اللامبالاة ونتائجها المهدِّدة للسلام، من ارتداد القلب، بالعبور من اللّامبالاة إلى الرحمة. فالله برحمته نزل، بشخص ابنه يسوع المسيح، وسكن مع البشر. تجسّد وأظهر تضامنه مع البشرية في كل شيء. لم يكتفِ بتعليم الجمع، بل اعتنى بالجياع والعاطلين عن العمل (مر6: 34-44؛ متى20: 3). وشمل بنظره أيضًا سمك البحر وطيور السماء والنبات والأشجار. لقد ضمّ إليه الخلق بأسره.
وعلّمنا أن نكون رحماء مثل أبيه (لو 6: 36). في مثل السامري الصالح أدان إهمال مساعدة الآخرين في الضرورات الملّحة وتصرّف "الذي رأى وعبر" (لو 10: 29-32).
الرحمة هي قلب الله، وينبغي أن تكون أيضًا قلب كل إنسان بحيث ينبض حبًا للجائع والعطشان والغريب والعريان والمريض والسجين. هذا هو المقياس الذي يدين به الله أعمالنا.
تحظى الكنيسة بالمصداقية في كرازتها وتعليمها، عندما تعيش وتشهد هي بذاتها للرحمة، وتنقلها إلى قلب الأشخاص، وتحملهم على إيجاد طريق العودة إلى الآب. حيث الكنيسة حاضرة، ينبغي أن تظهر رحمة الله: في الرعايا والجماعات والجمعيات والحركات الرسولية. بل حيث يوجد مسيحيون يجب أن يجد أي شخص "واحة رحمة"، ونمط تصرّف طيّب في العلاقات الاجتماعية. هذا يقتضي ارتداد القلب أي أن تحوّل نعمة الله قلب الحجر إلى قلب من لحم (خروج 36: 26)، قادر على الانفتاح على الآخر بفضيلة التضامن التي تعمل بإرادة ثابتة على تأمين الخير العام، وهو خير الجميع وخير كل شخص. ذلك أننا كلّنا مسؤولون عن كلنا (الفقرة 5).

يدعو قداسة البابا من أجل اكتساب السلام، إلى تعزيز ثقافة التضامن والرحمة من أجل الانتصار على اللامبالاة. وهذا من واجب العائلات بحكم رسالتها كمكان أول لنقل الإيمان وقيم المحبة والأخوّة والاعتناء بالآخر؛ ومن واجب المربّين والمنشّئين في المراكز المعنية بتربية الأولاد والشبان، والعاملين في وسائل الاتصال الاجتماعي والتقنيات الحديثة المدعوة لتخدم الحقيقة وتكوّن الرأي العام السليم (الفقرة 6).
ويخلص البابا فرنسيس إلى القول:"إن السلام هو ثمرة ثقافة التضامن والرحمة والشفقة". ويعطي أمثلة عن المبادرات الايجابية التي تقوم بها مؤسسات غير حكومية وخيرية، وأشخاص وجمعيات إنسانية وكهنة ومرسلون ورهبان وراهبات وعائلات وشبيبة وإعلاميون ومصوّرون ينيرون الرأي العام (الفقرة 7).

يختم البابا فرنسيس رسالته ليوم السلام العالمي بدعوة الجميع واحدًا واحدًا لإجراء فحص ضمير، في يوبيل سنة الرحمة، حول لامبالاته وتقصيره في صنع السلام في عائلته ومجتمعه ووطنه. ويوجّه نداء إلى الدول للقيام بأفعال ومبادرات شجاعة تجاه الأشخاص الضعفاء كالأسرى والمهاجرين والعاطلين عن العمل والمرضى، وفقًا لحاجات هؤلاء جميعًا في حقوقهم الأساسية وكرامتهم ومصير حياتهم.
ويدعو حكام الدول لتجديد علاقات التعاون مع الشعوب الأخرى، بحيث تتاح للجميع المشاركة في الحياة الدولية. وفي هذا السياق، يوجّه نداءً مثلثًا:
   1) الإحجام عن إقحام شعوب أخرى في حروب تدمّر الإنسان نفسًا وجسدًا والحجر والثقافة.
   2) إلغاء أو التخفيف من عبء الدين الدولي المعطى للبلدان الفقيرة.
   3) اعتماد سياسات تعاون تحترم قيم السكان المحليين وثقافتهم وتحترم حق الأولاد في أن يولدوا.

مع قداسة البابا نصلّي إلى المسيح الإله "أمير السلام"، بشفاعة أمنا مريم العذراء، الأم الساهرة على حاجات البشرية، كي يبارك جهود جميع الذين يلتزمون بواجباتهم من أجل إحلال العدالة والسلام. فيؤهلنا لنرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.