لبنان
14 شباط 2022, 06:00

البطريرك الرّاعي: نصلّي لكي يضرم الله المحبّة في قلب كلّ مسؤول سياسيّ

تيلي لوميار/ نورسات
في أحد الأبرار والصّدّيقين، احتفل البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي بالقدّاس الإلهيّ في بكركي، سائلاً شفاعتهم من أجل الحصول على نعمة التّشبّه بهم في عيش المحبّة شاهدين لمحبّة الله مع كلّ إنسان، وذلك في عظة ألقاها على ضوء الآية الإنجيليّة "كنت جائعًا فأطعمتموني" (متّى 25: 35)، فقال:

"1. تذكر الكنيسة اليوم الأبرار والصّدّيقين الّذين عاشوا المحبّة بقربهم من الجائع والعطشان والعريان والغريب والمريض والسّجين، ليس فقط في حالتهم المادّيّة، بل أيضًا والمعنويّة والرّوحيّة. وكون المسيح إبن الله أصبح بتجسّده متّحدًا بكلّ إنسان، فقد تماهى مع كلّ واحد. ولذلك قال: "كنت جائعًا فأطعمتموني ..." (متّى 25: 35). واضح من كلام الرّبّ أنّنا "في مساء الحياة سندان على المحبّة". نستشفع صلاة الأبرار والصّدّيقين لكي يمنحنا الله نعمة التّشبّه بهم في عيش المحبّة شاهدين لمحبّة الله مع كلّ إنسان.

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، فأحيّيكم جميعًا، وأحيّي "رابطة قنّوبين للرّسالة والتّراث" و"تجمّع موارنة من أجل لبنان" بمناسبة إصدارهما كتاب "البطريرك عريضة الخادم والمعلّم". يتناول الكتاب مبادراته الإنسانيّة في الحرب العالميّة الثّانية ومواقفه الوطنيّة الرّائدة في أحداث عهده. وأحيّي جماعة الصّلاة للقدّيسة Veronica Juliani، مع مرشدها المونسنيور شربل أنطون ومؤسّستها السّيّدة جوليان سمعان، وأعضاءها الّذين يبلغون حوالي 1300 شخصًا من مختلف المناطق وبلدان الانتشار. هؤلاء يشاركون في سلسلة صلوات يوميّة وأعمال رحمة. تتّخذ الجماعة مركزها الرّئيسيّ في كنيسة مار يوسف جونية. إنّا نبارك مبادراتها ونشاطاتها.

وأوجّه تحيّة خاصّة إلى عائلة نسيبنا المرحوم جوزف أمين غبريل، عديل شقيقي المرحوم سليم، وقد ودّعناه بالأسى الشّديد والصّلاة في 15 كانون الثّاني الماضي في بيت شباب العزيزة، مع زوجته السّيّدة دوريس أنيس أبو زيد وابنيه وابنته وسائر ذويهم وأنسبائهم في لبنان والمهجر.

وأحيّي أيضًا عائلة المربيّ المرحوم الياس أنطون سرور وهو صديق لنا مذ كنّا مطرانًا لأبرشيّة جبيل. وقد ودّعناه بالأسى والصّلاة في 11 كانون الأوّل الماضي مع زوجته المربيّة بهجت الحلو وبناته وشقيقه وشقيقاته وأهالي معاد العزيزة.

نصلّي في هذه الذّبيحة المقدّسة لراحة نفسي العزيزين المرحومين الياس وأنطوان، ولعزاء أسرتيهما.

3. إنجيل اليوم يبيّن البعد الاجتماعيّ للكرازة بالإنجيل. فالمسيحيّة المؤسّسة على الإنجيل تتكوّن من ثلاثة أبعاد مترابطة ومتكاملة، تسمّى خدمات، وهي: خدمة الكلمة بالكرازة والتّعليم، وخدمة التّقديس بتوزيع نعمة الأسرار الإلهيّة، وخدمة المحبّة الاجتماعيّة.

يتوسّع قداسة البابا فرنسيس، في إرشاده الرّسوليّ "فرح الإنجيل" (4 تشرين الثّاني 2013) في مفهوم البعد الاجتماعيّ أو خدمة المحبّة الاجتماعيّة الرّامية إلى تعزيز الشّخص البشريّ، وتحريره من معوّقاته، ونموّه. ويعتبر قداسته أنّ الأساس هو سرّ الثّالوث الأقدس الّذي نعلنه وننفتح لعمله فينا. فعندما نعلن إيماننا بأنّ الآب يحبّ كلّ كائن بشريّ، نكتشف أنّه يعطيه كرامة لا متناهية. وعندما نعلن إيماننا بأنّ ابن الله أخذ طبيعتنا البشريّة وافتدانا بإراقة دمه، ندرك أنّ كلّ شخص بشريّ قد رُفع إلى قلب الله نفسه، والله يشرّفه بحبّه اللّامتناهي. وعندما نعلن إيماننا بالرّوح القدس العامل فينا ندرك أنّه يسعى للدّخول إلى كلّ وضع إنسانيّ وإلى جميع العقد الاجتماعيّة المترابطة والصّعبة، لكي يفكّها.

4. حدّد الرّبّ يسوع أنواع الحاجات الإنسانيّة بستّة، وهي: الجوع والعطش والغربة والعري والمرض والأسر. لا تقتصر هذه الحاجات على المستوى المادّيّ، بل تشمل أيضًا المستوى الرّوحيّ والمعنويّ والثّقافيّ والأخلاقيّ. فالجائع هو المحتاج إلى طعام، وأيضًا إلى علم وروحانيّة. العطشان هو المحتاج إلى ماء، وأيضًا إلى عدالة وعاطفة إنسانيّة. العريان هو المحتاج إلى ثوب، وأيضًا إلى أثاث بيت وصيت حسن وكرامة. المريض هو الّذي يعاني من مرض في جسده أو نفسه، أو الّذي هو في حالة أخلاقيّة شاذّة كالبخل والطّمع والنّميمة والكبرياء، أو المدمن على المخدّرات أو المسكّرات. الغريب هو الّذي يعيش خارج بلاده، وأيضًا الغريب بين أهل بيته الّذي يعاني من عدم قبولهم أو تفهّمهم له. السّجين هو العائش وراء القضبان، وأيضًا من هو أسير أمياله المنحرفة، أو مواقفه غير البنّاءة أو المتحجّر في هذه المواقف أو من هو مستعبد لأشخاص أو لإيديولوجيّات.

5. المحبّة الاجتماعيّة تصبح شريعة عند الّذين يحبّون الله حقًّا. القدّيس البابا بولس السّادس حدّد العمل السّياسيّ بأنّه أعلى فعل محبّة لأنّه مبنيّ على التّجرّد والتّفاني في سبيل تأمين الخير العامّ الّذي منه خير جميع المواطنين وخير كلّ مواطن. نصلّي لكي يضرم الله هذه المحبّة في قلب كلّ مسؤول سياسيّ. فما أكثر حاجات شعبنا الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة والنّقديّة. وما أكثر حاجات دولتنا اللّبنانيّة إلى مسؤولين مخلصين لها، وإلى إصلاحات تقيمها من حالة الانهيار.

6. ولذلك، لا ننفكّ نطالب بإجراء الانتخابات النّيابيّة في موعدها الدّستوريّ المحدّد في الخامس عشر من أيّار المقبل. وندعو إلى المشاركة فيها بكثافة من النّاخبين اللّبنانيّين في لبنان وبلدان الانتشار. والهدف خلق واقع جديدٍ في البلاد يُحدِثُ تغييرًا في الاتّجاه الصّحيح البنّاء والوطنيِّ الحضاريّ. نقول هذا في وقتٍ تَكثرُ فيه فذلكاتٌ تُمهِّدُ لإرجاءِ الانتخاباتِ عوضَ أن تَتكثَّفَ التّحضيراتُ لحصولِها. ولقد أثارَ ذلك أصدقاءَ لبنان، فسَارعوا إلى إصدارِ بياناتٍ صارمةٍ تُحذّرُ المسؤولين اللّبنانيّين وغيرَهم من التّلاعبِ بمواعيدِ الانتخابات: من إعلانِ جَدّة والمبادرةِ الكويتيّة ومؤتمرِ وزراءِ الخارجيّةِ العرب، مرورًا بالأممِ المتّحدةِ ومجلسِ الأمنِ الدُّوليّ والفاتيكان، وصولًا إلى الاتّحادِ الأوروبيِّ والمجموعةِ الدُّوليّةِ لدعمِ لبنان. وهولاء كلّهم نادوا بضرورة إجراء الانتخابات في موعدها، جميعُ هذه الدّول والمرجعيّات تَعرِفُ أنَّ الانتخابات، أكانت نيابيّةً أو رئاسيّة، هي ممرٌّ حتميٌّ لعودةِ لبنان دولةً محترَمةً.

ولكَم نأملُ بأن يدور محورُ المشاريع الانتخابيّةِ حول: معالجةِ القضايا الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ، حيادِ لبنان، عقدِ مؤتمرٍ دوليٍّ، اللّامركزيّةِ الموسّعةِ، حصرِ السّلاحِ بالجيش، وتنفيذِ القرارات الدّوليّة.

هذه العناصر، تُشكّلُ، من دون شكّ، خريطةَ الطّريقِ لإنقاذِ لبنان، واستنهاضِ دولتِه، وإعادةِ الكرامةِ للشّعب، وحمايةِ الوحدة اللّبنانيّة، وصون علاقات لبنان مع ذاته ومع الدّول العربيّةِ والدّوليّة. إنّ التّغاضي عن هذه الأمور الأساسيّة طيلة سنوات هو الّذي أدّى إلى ما نحن عليه اليوم، هذا الوضع الخطير يَفرِضُ اتّخاذَ مواقفَ جريئةٍ ومتقدِّمة. ليس بالمساوماتِ والتّسوياتِ اليوميّةِ تَحفَظُ الشّعوبُ مستقبلَها في أوطانِها وبين الأمم. من علامات الأمل أن قد بدأت تَتكوّنُ مواقفُ علنيّةُ تَدِلُّ على اهتمامِ الدّول الشّقيقةِ والصّديقةِ بإيجادِ حلٍّ للأزمة اللّبنانية في إطارِ الشّرعيّتين اللّبنانيّةِ والدُّوليّة. فعسى أن تتجاوبَ الدّولةُ اللّبنانيّةُ جِدّيًا مع الطّروحاتِ البنّاءةِ، فلا تَلتفُّ عليها لتمريرِ الوقتِ وإضاعةِ الفرص.

7. في هذا السّياق إنّ التّحدّيات الّتي تواجهُ البلاد تحتِّمُ الالتفافَ حولَ مؤسّساتِ الدّولةِ الرّئيسيةِّ وعدمَ التّشكيكِ المغرِضِ بها، وفي طليعتِها الجيش اللّبنانيّ. فالجيشُ هو ضمانُ السّيادةِ والأمنِ والسّاهرُ على السّلمِ الوطنيّ. ولا بدّ هنا من أن نشكرَ جميعَ الدّولِ الّتي توفّرَ لهذه المؤسّسةِ العسكريّةِ الوطنيّةِ المساعداتِ والتّجهيزاتِ ليكونَ قادرًا على مواصلةِ القيامِ بدوره، خصوصًا في المرحلةِ المقبلةِ الّتي تستدعي ضبطَ الأمن في الاستحقاقَين الانتخابيّين على كامل الأراضي اللّبنانيّة.

8. فلنصلِّ، أيّها الأخوة والأخوات، لكي يحفظ الله لبنان أرض محبّة وصلاة وإخاء. للثّالوث الواحد القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس كلّ مجد وإكرام، الآن وإلى الأبد."