لبنان
30 تموز 2018, 05:00

البطريرك الرّاعي أحيا الأحد قدّاسه الأوّل في الدّيمان

ترأّس البطريرك المارونيّ قدّاسه الأوّل أمس الأحد في الصّرح البطريركيّ في الدّيمان، ألقى خلاله عظته منطلقًا من آية لو 10/ 19 "إنّ ابن الإنسان جاء ليبحث عن الضّائع ويخلّصه"، فقال:

 

"1. لقاء الرّبّ يسوع بزكّا كان لقاءً وجدانيًّا بدّل حياة زكّا العشّار إلى الأفضل. كانت كافية الرّغبة الصّادقة عنده ليرى يسوع، فتسلّق جمّيزة لهذه الغاية بسبب قصر قامته. فرآه يسوع بنظرة القلب، وكافأه بعزمه على دخول بيته. وهناك تمّ اللّقاء الوجدانيّ بينهما، فوقف زكّا معترفًا بخطيئتين وملتزمًا بتعويضَين:

 

الخطيئة الأولى: حجب المساعدة عن الفقراء؛ والتّعويض: إعطاؤهم نصف مقتنياته.

 

والخطيئة الثاني:  ارتكاب الظّلم بحقّ من كان يجبي منه أكثر من العشر؛ والتّعويض: بردّ المسلوب له أربعة أضعاف.

عندها أعلن الرّبّ يسوع "اليوم دخل الخلاص لهذا البيت... فإنّ ابن الإنسان جاء ليبحث عن الضّائع ويخلّصه" (لو 19: 9- 10)

لو لم يلتقِ زكّا العشّار يسوع، لما أدرك واقع خطيئته، ولما أصلح ذاته. ذلك أنّ الرّبّ يسوع نور يكشف لنا مكنونات قلوبنا ونفوسنا، الخفيّة عنّا بسبب المصالح الدّنيويّة، والامتلاء من الذّات، الّتي هي كالمرض الخبيث تتآكل الإنسان من الدّاخل، من دون أن يشعر.

 

2. يسعدنا أن نحتفل معكم بقدّاسنا الأوّل في هذا الكرسيّ البطريركيّ في بلدة الدّيمان العزيزة وقد جرت العادة أن يشارك فيه أهالي الدّيمان الأحبّاء، من مقيمين ومنتشرين. فإنّي أحيّيكم جميعًا، ونحن وإيّاكم نسهر على جذورنا في الوادي المقدّس عامّة، وبخاصّة في الكرسيّ البطريركيّ في قنّوبين، حيث عاش البطاركة مع النّسّاك والمتوحّدين وسكّان الوادي أربعماية سنة في عهد العثمانيّين، حفاظًا على الأغليَين: الإيمان الكاثوليكيّ والاستقلاليّة. وفي قنّوبين تكرّم القدّيسة مارينا حيث مغارتها والكابيلّا الحاملة اسمها، وفيها يرقد سبعة عشر بطريركًا. وقد زارتها الأسبوع الماضي بجثمانها الّذي تبرّك منه المؤمنون بالآلاف. أتى البطاركة إلى قنّوبين سنة 1440 مع البطريرك يوحنّا الجاجي، لأنّ فيها حصنًا منيعًا محاطًا ببسالة أهالي إهدن وبشرّي وجبّتها وحصرون والحدث الّذين قاوموا المماليك في ربيع وخريف 1282، بقيادة الشّهيد البطريرك دانيال الحدشيتي، ولو أنّ الغزاة أحرقوا وهدّموا وضربوا الأعناق بالسّيف، كما يروي عزيزنا الأستاذ أنطوان فرنسيس في كتابه المقتبس من كتابات المكرَّم البطريرك أسطفان الدّويهيّ، وهو بعنوان "العاصية، رواية تاريخيّة"، الّذي تمّ توقيعه بالأمس في حديقة البطاركة. وإنّي أهنّئ أهالي الدّيمان على الكنيسة الرّعائيّة الجديدة الّتي يسخون في إنجازها مع مجمّعها. كافأهم الله بفيض من نعمه وبركاته.

 

ونرحّب بيننا بمتطوّعي الدّفاع المدنيّ، ونثني على جهودهم وتضحياتهم في سبيل خدمة المجتمع اللّبنانيّ. ونأمل من الدّولة استجابة مطالبهم المحقّة، لكي يعيشون بكرامة مع عائلاتهم، لكونهم جهازًا أساسيًّا لا غنى عنه. وإنّنا نذكر بصلاتنا شهداءهم الّذين وقعوا أثناء أداء الواجب.

 

3. ويسعدني أن أرحّب بجماعة "أخوّة شارل دي فوكو العلمانيّة" المؤلَّفة من عدّة جنسيّات. هذه الجماعة تستمدّ روحانيّتها من السّنوات الثّلاثين الّتي عاشها الرّبّ يسوع في النّاصرة، بهدف تفعيل دورها في الشّهادة ليسوع المسيح من خلال الحياة اليوميّة العاديّة.

تعقد الجماعة لقاءها العالميّ العاشر في هذه الأيّام في لبنان ولأوّل مرّة في بلد عربيّ، بموضوع "تعالوا نسير في الرّجاء، متجرّدين، مستنكرين، ومُعلنين". هذا الموضوع، المتضمّن أربع كلمات والدّاعي للسّير بموجبها، يساعدنا لنقرأ تعليم إنجيل اليوم.

 

4. فالرّجاء نافذة في حياة كلّ إنسان تنفتح على بُعدين: البُعد الأوّل، الثّبات في الإيمان والقيم بوجه المصاعب والمحن والمعاكسات. والبُعد الثّاني، انتظار تجلّيات الله في حياتنا، بحيث نترك له مجالاً ليتدخّل، مثلما فعل زكّا العشّار بتسلّق جمّيزة ليرى يسوع، وهو فعل تواضع قام به بروح الأطفال.

والتّجرّد فضيلة أساسيّة، ولاسيّما عند أصحاب السّلطة سواء في الكنيسة أم في الدّولة. بها يتمكّن الإنسان من التّغلّب على ذاته وإصلاحها وتحريرها ممّا يأسرها من مصالح صغيرة وأميال منحرفة ومكاسب غير مشروعة، هكذا فعل زكّا العشّار الّذي كان أسير غناه ومرتبته كرئيس العشّارين، إذ تخلّى عن أنانيّته وصمّ أذنيه عن سماع وجع الفقراء، وعن الاحتفاظ بمال الظّلم الّذي كان يسلبه في جباية العشر.

 

5. أجل، لا تستقيم الحياة الوطنيّة ومسيرة الدّولة، إذا لم يتّصف أصحاب السّلطة بفضيلتي التّجرّد والتّواضع. هذا هو أصل الأزمة السّياسيّة الرّاهنة عندنا، أعني أزمة تعثّر تأليف الحكومة. أليس لأنّ كلّ فريق متمسّك بمصالحه وحصّته ومكاسبه وحساباته؟ فلو تجرّدوا وتواضعوا، مثل زكّا العشّار، لتألّفت الحكومة للحال! ولو تحلّوا بفضيلة الرّجاء واتّكلوا على عناية الله، وأفسحوا له في المجال ليظهر تجلّياته، لاتّخذوا قرارات شجاعة وانتصروا بها على ذواتهم، كما فعل زكّا. إنّ المتجرّد المتواضع يترك مجالاً لعمل الله في حياته، مع ما له من نتائج عظيمة لخيره وخير الجماعة.

 

6. تدعونا فضيلتا التّجرّد والتّواضع إلى موقفين: الاستنكار والإعلان.

 

نستنكر الإفراط في استعمال السّلطة السّياسيّة، استبدادًا أو ظلمًا أو استيلاءً على المال العامّ، أو وسيلة لمكاسب ومغانم وأرباح غير مشروعة، فيما هي فنّ شريف في خدمة الخير العامّ على كلّ المستويات.

 

ونستنكر إهمال الاقتصاد، عصب البلاد، في كلّ قطاعاته، وبالتّالي إفقار الشّعب، وإيقاع الدّولة في عجز ماليّ خطير، وفتح باب الهجرة على مصراعيه بوجه شبابنا المثقّف وقوانا الحيّة.

 

ونعلن أنّ الشّعب اللّبنانيّ فَقَدَ الثّقة بالسّلطة السّياسيّة اليوم أكثر من الأمس. فبالأمس أقلّ من خمسين بالمئة شاركوا في الانتخابات النّيابيّة، وأكثر منهم لم يمارسوا هذا الحقّ لعدم الثّقة. واليوم، إذ يرون هذا التّراجع في الحياة السّياسيّة بعد الانتخابات ازدادوا عدم ثقة. فإلى أين نحن ذاهبون ببلادنا؟ ليست الدّولة ملك أحد، بل أصحاب السّلطة مؤتمنون عليها وموكّلون، والمطلوب من الوكيل أن يكون "أمينًا وحكيمًا، فيما هو مُقام ليعطي الشّعب طعام حاجاته"، كما يقول الرّبّ يسوع في الإنجيل (راجع متّى 25: 45).

 

ونعلن عدم القبول بهذه الحالة وبهذا النّوع من الممارسة السّياسيّة، وعدم القبول بتراجع لبنان الاقتصاديّ والاجتماعيّ والمعيشيّ والثّقافيّ، وعدم القبول باستباحة المبادئ والمعايير الدّستوريّة والقوانين، وبممارسة الظّلم من خلال عدم تطبيق العدالة وبخاصّة قرارات مجلس شورى الدّولة من قبل الوزارات المعنيّة، كما نشهد في عدد من القضايا. فإلى من يلجأ المظلومون لينالوا حقوقهم؟

 

7. أجل، الإنسان بحاجة إلى خلاص. ولهذه الغاية أصبح الله الابن إنسانًا، يسوع المسيح. فبنعمة هذا الخلاص تاب زكّا العشّار، وبدّل مجرى حياته إلى الأفضل، وفي الوقت عينه أثمرت توبته بوهب نصف أمواله للفقراء، وبإعادة ما سلبه من أيّ إنسان أربعة أضعاف. فللخلاص الشّخصيّ ثماره الجماعيّة.

 

نسأل الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيّدة قنوبين، لنا ولجميع النّاس، نعمة التّوبة لخلاصنا وخير الجماعة. فنستحقّ أن نرفع نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد. آمين".