لبنان
19 شباط 2018, 06:56

البطريرك الرّاعي في التّنشئة المسيحيّة: الصّوم الكبير بحث عن يسوع من أجل الشّفاء

في أحد شفاء الأبرص، نشرت البطريركيّة المارونيّة التّنشئة المسيحيّة الخاصّة بهذا الإنجيل، استهلّها البطريرك مار بشارة بطرس الرّاعي قائلاً:"الصّوم الكبير هو زمن الصّوم والصّلاة والصّدقة بأعمال محبّة. نبدأ في هذا الأحد التّأمّل في صلاة يسوع، والتماس الأبرص، وشفائه من برصه بفعل محبّة كبيرة من المسيح الرّبّ".

 

وبعد تلاوة إنجيل مرقس 1/ 35- 43، كان شرح تضمّن الأفكار التّالية: 

1. يسوع يستعدّ لرسالته بصلاة الفجر في مكان قفر. أوّل ما يستوقنا السّؤال: هل يسوع، وهو الله، بحاجة إلى صلاة؟ للإجابة، يجب أن نفهم المعنى العميق لكلمة "صلاة". يعتقد الكثيرون أنّ الصّلاة هي كلام نقوله لله، نطلب من خلاله أمورًا كثيرة، نطلب النّعم والشّفاء والتّوفيق والمغفرة، وسواها. ولذلك نعتبر أنّ الصّلاة، أيّ الطّلب، لا تناسب يسوع الإله. ولكن بالحقيقة الصّلاة كلمة مشتقّة من كلمة أخرى هي "الصّلة"، أيّ العلاقة. نفهم أنّ الصّلاة الحقيقيّة ليست مجرّد كلام وطلبات أو أيّ شيء آخر. بل هي "صلة" ابن بأبيه، وشعور عميق بالحضور أمام الحبّ الأعظمّ. وهو حضور يملأ كياننا بالنّور والسّلام والغبطة. لذلك يسوع هو في"صلاة" دائمة مع الآب. يعلّمنا الآباء القدّيسون أنّنا مدعوّون إلى تحويل "حياتنا كلّها إلى صلاة"، مدركين أن الله يرافق كلّ واحد وواحدة منّا في كلّ أوضاع حياته. إنّه الملهم والمنير والهدف الأسمى الّذي أسعى إلى لقائه من خلال كلّ عمل صالح أقوم به، حتّى تصبح "حياتي هي المسيح". هذا هو هدف الصّوم الأساسيّ، أن يصبح المسيح كلاًّ للكلّ في حياتنا الشّخصيّة: فهو أهمّ من الأكل والشّرب وأهم من الملذّات والأفراح الدّنيويّة. ولقائي به في اللّيتورجيا والصّلاة والرّياضات الرّوحيّة ألذّ من أيّ شيء آخر. ويكتمل صومي إذا ما حييت نهاري بكامله في نور ذلك الحضور الّذي لا يُدرك.

2. غالبًا ما يربط الكتاب المقدّس الصلّاة بخَلوَة "المكان القفر". نتذكّر كيف التقى يعقوب الرّبّ ليلاً في "مخاضّة يبّوق" (تك ٣٢: ٢٢-٢٤) وإيليا كلّم الله في الصّحراء، وموسى على رأس الجبل. بل هذا هو أحد أهداف بقاء شعب الله المختار ٤٠ سنة في الصّحراء، حتّى يلاقي ربّه ويتعلّم منه طريق الحياة. فالصّحراء ضرورة للقاء الله. أوّلاً لأنّ صوت الله خافت، فهو يتكلّم "في النّسيم العليل" (١ مل ١٩). لذلك، لا يمكننا سماعه طالما نحن في وسط ضجيج العالم. يسمّي الكتاب المقدّس الصّحراء باللّغة العبريّة "ميدبَر" أيّ "حيث لا كلام". هناك يتوقّف كلّ شيء عن الكلام. فلا مغريات ولا ما يشتّت ذهنك. حتّى الإنسان نفسه يتوقّف عن الكلام بسبب العطش. ويقول الكتاب المقدّس إنّ هذه الصّلاة الصّامتة، حين يعرف الإنسان أنّ لا معين له ولا من يتّكل عليه، عندها ينفتح قلبه كليًّا على الله ويضع نفسه بين يديّ ربّه، إذ لا خيار آخر أمامه.

المسيحيّ مدعوّ دومًا إلى العودة إلى "صحراء" الخلوة مع الله. أن يضع نفسه في الهدوء والسّكينة لخلق جوّ الصّلاة الملائم وليفتح قلبه على سماع صوت الرّبّ. وذلك عبر وسائل متعدّدة: إن في غرفته أمام مذبح صغير أو بزيارة القربان في الكنيسة أو في زيارة أماكن الحجّ والمزارات. ولكن أيضًا وبشكل خاصّ في الرّياضات الرّوحيّة الصّامتة. زمن الصّوم هذا هو دعوة متجدّدة لنا أن نسير وراء المسيح إلى الصّحراء حيث قاده الرّوح لينتصر على إبليس.

3. "بحث سمعان بطرس ومَن معه عن يسوع حتّى وجدوه" (الآيتان 36-37). نحن أيضًا في زمن الصّوم الكبير مدعوّون للبحث عن يسوع في كلّ ظروف حياتنا وحالاتها. إذا وجدناه، خلال هذه الأربعين يومًا من الصّوم والصّلاة والتّصدّق، استطعنا أن نحتفل حقًّا بعيد فصحه الّذي هو فصحنا. ملفت ذكر اسمه سمعان-بطرس وحده للدّلالة على أولويّته، وعلى أنّ "رفاقه" هم التّلاميذ الآخرون. من هنا القول: "حيث الأسقف هناك الكنيسة". ولهذا يجب احترامه، فالتّجريح به تجريح بالكنيسة، ولهذا يُعاقَب في القوانين الكنسيّة.

جاؤوا إلى يسوع بعد بحث طويل، متوسّلين من أجل الجماعة: "الجميع يطلبونط"(الآية 37). الصّوم الأربعينيّ الطّويل هو زمن البحث عن يسوع، لأنّنا والناّس كلّهم بحاجة إليه. في صلاتنا نحملهم جميعًا، نتشفّع من أجلهم، لأنّنا نشعر بحاجاتهم ليس فقط المادّيّة، بل والرّوحية والمعنويّة ايضًا.

3. كان جواب يسوع شعورًا بحاجة النّاس إليه، إلى محبّته ورحمته، فأذكى في قلب سمعان ورفاقه روحًا رسوليًّا، إذ قال: "لنذهب إلى مكان آخر، إلى القرى المجاورة، لأبشّر هناك، فإنّي لهذا خرجت" (الآية 38). هذه دعوة موجَّهة لنا نحن أيضًا المسيحيّين، أفرادًا وجماعات.

قال: "لنذهب" بصيغة الجمع، لأنّ في رسالتنا التّبشيريّة لسنا وحدنا، بل هو من يرافقنا ويسير أمامنا ويدلّنا على الطّريق. إلى أين يجب أن نذهب؟ نذهب إلى الشّخص الّذي نلتقيه في يومنا: في البيت، في العائلة، مع الجيران، في المحلّات المحيطة بالبيت، في العمل، مع الزّملاء، مع الزّبائن... كلّ هؤلاء مطلوبون منّي. تبدأ بشارتي بابتسامة محبّة، ومن ثمّ بكلمة طيّبة، وخدمة نزيهة صادقة ومساعدة قدر المستطاع، ونصيحة مفيدة عند الحاجة.

"وطاف يسوع في كلّ الجليل، وهو يكرز في مجامعهم ويطرد الشّياطين" (الآية 39). كانت رسالة يسوع "التّبشير والشفاء". وهذا ما نراه فاعلاً إيّاه: "يكرز ويطرد الشّياطين". يربط الكتاب المقدّس مرارًا عديدة طرد الشياطين بالكرازة. هذا ليس ربطًا اعتباطيًّا. بل إنّ الربّ يعلّمنا أنّ سماع الكلمة الإنجيليّة هو الذي يحرّرنا؛ المهمّ أنّ نسمع الكلمة من مصادرها الموثوقة، من السلطة التعليمية في الكنيسة، وليس من كلّ ما نجده على الانترنت والفيسبوك. فالتعليم الصحيح، الموافق عليه من السلطة الكنسيّة، هو الذي يحرّرنا ويقوّينا على كلّ تجارب الشيطان. من الضروريّ أيضَا في هذا الصوم أن يختبر المؤمن قوّة "كلمة الله" ومدى فعاليّتها في حياتنا الشخصيّة. في نهاية الصوم، يجدر بالمؤمن أن يقوم بفحص ضمير متسائلاَ: "كيف تفاعلت مع كلمة الله؟ وما هي الخطوة الجديدة التي حقّقتها، من خلالها، في حياتي وفي مسيرتي الروحيّة؟

4. كان أوّل لقاء ليسوع مع "أبرص، وافاه يتوسّل إليه: إن شئتَ فأنت قادر أن تطهّرني" (الآية 40). البرص هو أخطر مرض عرفه العالم القديم. هي جرثومة تصيب الأطراف: اليدين والقدمين والأنف والأذن. فتسدّ الأوعية الدمويّة وتمنع بالتالي الدم من الوصول. فتموت تلك الأعضاء، لدرجة أنّها تتعفّن، مُصدرةً رائحةً كريهةً. وبالطبع كان هذا المرض معديًا جدًّا. لذلك كان ممنوعًا على كلّ أبرص الاقتراب من الناس. فهو موت متنقّل. عليه أن يحمل جرسًا، يقرعه فيهرب الناس من طريقه، وكان عليه أن يعيش بعيدًا في البرية.

نفهم مدى شجاعة وإصرار هذا الأبرص المسكين بل ثقته الكبيرة وإيمانه العظيم بيسوع. خاطر بحياته حتّى يرى يسوع، غير آبه برفض الناس له وبالشريعة المانعة. كم كان ألمه كبيرًا. يقع عند قدمَي يسوع منهارًا تحت ثقل صليب لا يُطاق. يضع رأسه بين قدميه خجلاً من أن يُظهر ليسوع وجهه المتعفّن ورائحته النتنة ويتوسّل. إنه بحاجة إلى رحمة يسوع وقدرته، ومطلبُه واحد: "أريدُ أن أطهر، إذا شئت". لا يفرض، لا يثور. يتوسّل ويقبل. أمام حبّ الله الأعظم، يجب أن نقف بثقة تامّة راضين بكلّ ما يختاره هو، لأنّه الأفضل لنا.

هذه هي الثقة المطلوبة من كلّ واحد منا. أقبل من الله كلّ شيء، وأنا على يقين أنّه الأفضل لي، حتى ولو لم يكن ذلك هو مبتغاي: "أنا أريد يا ربّ ما تريده أنت، لأنّك تريده. لتكن مشيئتك".

5. ظهرت رحمة يسوع العظيمة في ما فعل متحدِّيًا عدوى المرض: "مدَّ يده ولمسه". ثمّ قال له: "قد شئت، فاطهر!" النتيجة: "في الحال زال عنه البرص، فطهر" (الآية 41). هنا ظهر كلّ حنان يسوع وهو حنان الله الذي نهتف له في القداس: "يا حنون، يا رحوم، يا محبًّا للبشر ارحمنا". ليس الله مجرّد "مدير ناجح" لهذا الكون. بل هو أب وأمّ وأخ وصديق. هو الحبّ والحنان. لذلك، يختبر المؤمن كلّ يوم تعزيات الله له في جهاده. لا يدعنا الله لوحدنا في صحرائنا، بل نختبر دومًا يده الحنونة تسندنا وتعزينا وتضمّد جراحنا.

إنّ رحمة المسيح الربّ أكبر من عدوى مرض البرص. لم تنتقل عدوى المرض إليه بلمس برصه، بل انتقلت محبّته القديرة الشافية إلى البرص، فزال، وطهر جسد ذاك المسكين. لم يخالف يسوع "الشريعة" المانعة لمس الأبرص، بل رفعها إلى كمالها. كانت "الشريعة" لحماية الناس من عدوى المرض، أما يسوع فأكملها بلمس يده محوّلًا إياها أداة لشفاء المصاب. هنا نفهم قول بولس الرسول: "الحرفُ يقتل والروح يبني" (2 كور 3: 6).

استعمل الربّ يسوع في كلامه صيغة الماضي: "قد شئت فاطهر"، للدلالة أن إرادة الله في الاساس أن يشفي جميع الناس، واليوم بلغت مشيئته هذا الأبرص.

نحن مدعوّون لنسمع الأبرص يعلّمنا أنّ الربّ يشاء أيضًا خلاص كلّ واحد منّا، تمامًا، كما فعل معه. يدعونا لنعي أهميّتنا في قلب الربّ. علينا أن نذكر دائمًا ما يفعله الله من عظائم من أجلنا كلّ يوم، وأن نثق به ونسلّم له ذواتنا. لقد حضّر الله الخلاص لكلّ إنسان قبل أن يصوّره في حشا أمّه. هذا ما جعل القديس أغسطينوس يقول: "الله أقرب مني أكثر ممّا أنا قريب من ذاتي!"

6. بشفاء الأبرص نحن أمام فعل خلق جديد: أطهر، فطهر!" قال الله فتمّ ما قاله. "كوني فكانت". هذا ما حدث تمامًا في قصّة الخلق الأولى. نرى هنا خلقًا جديدًا للأبرص. لم يعد هذا الرجل ما كان عليه سابقًا. ما فعله يسوع لم يكن مجرّد شفاء من مرض جسديّ، بل ملأ الرجل من القوّة الإلهيّة والثقة، إذ فتحه على آفاق الملكوت الجديد.

وهذا ما يفعله الله معنا كلّ يوم. يخلقنا من جديد بواسطة المعموديّة والأسرار، وبخاصّة التوبة والافخارستيّا. يخلقنا بواسطة روحه القدّوس، الذي ينقل إلينا الحياة الجديدة، وثمار الفداء. ويخلقنا أيضًا بواسطة كلمته في الكتاب المقدّس وتعليم الكنيسة، وبواسطة كلّ صلاة صادقة وتأمّل حقيقيّ. كلّما التقينا الربّ، نخرج من ذاك اللقاء متجدّدين.

ما يزيدنا ثقةً وتسليمًا، هو قدرة الله غير المحدودة. فهو يعمل بقوّة كلمته. لا شيء قادر على الوقوف أمام الله. هو ضابط الكلّ. يحاول المجرّب إيهامنا أنّ كلّ قوى الشرّ هي أقوى من الله، وأنّنا بالتالي معرّضون في كلّ لحظة للسقوط، بلا قيامة. ولكنّ الحقيقة غير ذلك. وهي أنّ إلهنا أقوى من الموت. "فقد وطئ الموت بالموت ووهب الحياة للّذين في القبور".

7. من جديد يعود يسوع إلى الشريعة، ويقول له: "إذهب وأرِ نفسك للكاهن، وقدّم عن طهرك ما أمر به موسى، شهادةً لهم" (الآية 44). كانت شريعة موسى أن يؤتى بالأبرص في حال شفائه، إلى الكاهن، ليتحقّق من شفائه. فيدعوه ليقدّم ذبيحة التكفير عن طهره، ويعلن إعادته إلى الحياة مع الجماعة (راجع الأحبار، الفصل 14).

هكذا نحن في حياتنا الكنسيّة، عندما نقصد الكاهن تائبين ونادمين على خطايانا وطالبين نعمة الغفران من الله وملتمسين المصالحة معه ومع جماعة المؤمنين التي هي الكنيسة. ففي سرّ التوبة، يسمع الكاهن الإقرار بخطاياي، ويتيقّن من توبتي، فيمنحني بسلطانه الإلهي الحلّ من خطاياي، وبذلك يصالحني مع الله والكنيسة، ويعيدني إلى حياة الشركة معها. ثمّ اشارك في ذبيحة القداس التي هي قربان ابن الله التكفيري عن خطايا جميع الناس، بالإضافة إلى أعمال تكفيرية، تعويضيّة، شخصيّة ينبغي أن يقوم بها كلّ واحد منا.

8. أما الأبرص فراح يشهد لرحمة يسوع، إذ "بدأ ينادي بأعلى صوته ويذيع الخبر" (الآية 45).

مَن تمسّه نار الحبّ الإلهيّ لا يمكنه إلاّ أنّ يشعّ من نور الربّ. وهذا ما عبّر عنه بولس الرسول نفسه في رسائله. وهكذا ينطلق الأبرص معلنًا للناس أجمع "الخبر السار"، أي خبر حبّ الربّ غير المحدود وقدرته الفائقة على تغيير كلّ شيء. ما أذاعه هذا الرجل كان "الخبر السار"، وليس "قصّة ما حدث معه". لم يبشّر هذا الرّجل بنفسه، بل بالرّبّ يسوع مخلّص الجميع. أمّا نحن فيجب أن تظهر شهادة توبتنا والمصالحة مع الله والكنيسة، في أعمالنا وتصرّفاتنا ومسلكنا الجديد.

نجحت رسالة الأبرص الّذي شفي، "فكان النّاس يقصدون يسوع في الأماكن المقفرة وفي كلّ مكان" (الآية 45). بشّر الأبرص فآمن النّاس. ووجود يسوع في البرّيّة، جعلهم يخرجون إليه. وبهذا يكون يسوع قام بالخطوة الثّانية التّبشيريّة، وهي قيادة النّاس نحو اللّقاء الشّخصيّ بالله، الّذي يتمّ بشكل خاصّ في البرّيّة. نجد في هذا النّصّ مسيرةً تربويّةً على الإيمان: من أبرص يريد الشّفاء، إلى شخص ملموس بالحنان الإلهيّ، إلى مبشِّر بالخبر السّارّ، وأخيرًا، لقاء مميّز بين النّاس والرّبّ يسوع في البرّيّة.