لبنان
27 حزيران 2018, 05:00

البطريرك الرّاعي يضع حجر الأساس لمزار القدّيسة رفقا العالميّ في حملايا

أحيت بلدة حملايا مساءً عيد القدّيسة رفقا في قدّاس احتفاليّ ترأّسه البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الرّاعي، واضعًا حجر الأساس لمزار القدّيسة رفقا العالميّ في بلدتها، بعد أن سار المؤمنون في مسيرة من كنيسة سيّدة النّجاة في بكفيّا وصولاً إلى حملايا.

 

وللمناسبة كانت للبطريرك الرّاعي عظة انطلق فيها من الآية: "لقد اختارت مريم النّصيب الأفضل ولن يُنزع منها" (لو10: 42)، فقال:

 

1. "النّصيب الأفضل" الّذي اختارته مريم هو سماع كلام المسيح قبل أيّ شيء آخر، لأنّه كلام يُشبع العقل والقلب، ويعطي معنى للحياة، ودفعًا للنّشاط والخدمة والعمل بكلّ تفانٍ وإخلاص.

 

هذا "النّصيب الأفضل" اختارته القدّيسة رفقا منذ طفولتها، وشكّل نقطة الانطلاق التّوجيهيّة في حياتها، عبر ثلاث محطّات أساسيّة: قرارها بدخول جمعيّة المريمات في بكفيّا، ثمّ الإيحاء السّماويّ إليها لتدخل الرّهبانيّة البلديّة المعروفة اليوم بالرّاهبات اللّبنانيّات المارونيّات، عندما انحلّت جمعيّتها لتنضمّ إلى أخرى، وأخيرًا جلجلة آلامها الّتي عاشت مرارتها بفرح القيامة. نحن اليوم نلتمس من الله بشفاعتها أن نصغي أوّلًا وآخرًا لكلام الله قائلين بصلاة المزمور: "كلامك مصباحٌ لخطاي ونورٌ لسبيلي" (مز 119: 105).

 

2.  بفرح كبير تجمعنا القدّيسة رفقا في هذه اللّيلة لنحيي عيد ميلادها في 29 حزيران 1833، عيد القدّيسَين بطرس وبولس، ولنحتفل بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة. كان اسمها "بطرسيّة" قبل إبراز نذورها الرّهبانيّة، ثمّ اتّخذت اسم رفقا الّذي كان اسم أمّها، الّتي توفّيت وبطرسيّة طفلة. إنّنا نقدّم هذه الذّبيحة المقدّسة من أجلكم جميعًا، من أجل حملايا وبلدات المنطقة. فنذكر عائلاتكم مرضاكم وأجيالكم الطّالعة وموتاكم الّذين سبقونا إلى بيت الآب.

 

ويفرّحنا أن نضع الحجر الأساس لكنيستها وقاعتها الرّاعويّة، بعد سائر الإنجازات الّتي حقّقتموها على هذه التّلّة الجميلة، حيث كانت تنفرد لتصلّي وتصغي لكلام الله في طفولتها وصباها. إنّنا نصلّي كي يكافئ الله بشفاعتها كلّ الّذين سخوا بعقاراتهم ومالهم وجهد أيديهم لتحقيق كلّ هذه الإنجازات.

 

3. "النّصيب الأفضل" هو سماع كلام الله. لقد ركّز الرّبّ يسوع أكثر من مرّة على المأكل والمشرب الأفضل الّذي يحمله للعالم. فللمرأة السّامريّة قال إنّه يعطي ماءً مختلفًا عن ماء بئر يعقوب، "مَن يشرب من الماء الّذي يعطيه الرّبّ، لا يعطش، بل تجري منه مياه الحياة" (يو4: 14). كما الجسد بحاجة إلى الماء المادّيّ، كذلك النّفس بحاجة إلى ماء روحيّ. هذا الماء هو الرّوح القدس.

 

للشّيطان الّذي جرّب يسوع في البرّيّة، داعيًا إيّاه ليكفّ عن الصّوم، وقد جاع، وليحوّل الحجارة خبزًا، لكونه ابن الله، أجاب يسوع: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله" (متّى 4: 4).

 

وفي كفرناحوم نبّه يسوع الجموع: "لا تعملوا للقوت الفاني، بل اعملوا للقوت الباقي للحياة الأبديّة. هذا القوت يهبه لكم ابن الإنسان". ثمّ أضاف: "الله الآب يعطيكم الخبز الحقيقيّ النّازل من السّماء...  أنا هو خبز الحياة. مَن جاء إليّ لا يجوع. ومَن آمن بي لا يعطش أبدًا" (يو6: 27، 32، 35). هذا الخبز هو كلمة الله. مريم، ومثلها رفقا بجلوسها على قدمَي يسوع لسماعها كلامه، كانت تقتات من خبز الكلمة، وكان إيمانها بيسوع ينمو ويكبر. هذا هو "النّصيب الأفضل"، الّذي تكلّم عنه يسوع.

 

4.  من هذا الخبز، خبز كلمة الله وجسد المسيح ودمه، اقتاتت بطرسيّة. وبهذا الخبز المزدوج نمت في الإيمان والفضائل وروح التّقوى والممارسة الدّينيّة في كلّ يوم أحد. ما مكّنها أن تتحمّل مرارة اليتم بوفاة والدتها رفقا الّتي أحبّتها من كلّ القلب، وهي في السّابعة من عمرها. وعندما بلغت العاشرة راحت تعمل كخادمة في بيت أسعد البدويّ في دمشق مدّة أربع سنوات. فتجلّت بتقواها وأمانتها وعفافها، فعاملها أهل البيت كابنتهم.

 

ولمّا عادت إلى حملايا، كان والدُها قد تزوّج ثانية من دون علمها. وكان الشّعور الدّاخليّ بالميل إلى الحياة الرّهبانيّة آخذًا بالنّموّ في داخلها. وكانت تتردّد إلى كنيسة سيّدة النّجاة في بكفيا، تصغي إلى كلام الله، وتتأمّل، وتمارس الأسرار، وتعترف عند مرشدها الخوري يوسف الجميّل الّذي اكتشف جمال نفسها، فلقّبها "بزنبقة حملايا". وأرشدها إلى الدّخول في جمعيّة المريمات المكرّسات للمسيح وتعليم كلمة الله للفتاة اللّبنانيّة وتربيتها علميًّا وروحيًّا وحياتيًّا. فلبّت الدّعوة الإلهيّة، وهي بعمر عشرين سنة. وراحت تقوم برسالتها حيث كانت ترسلها السّلطة الرّهبانيّة تباعًا في الشّبّانيّة، ودير غزير للآباء اليسوعيِّين، ودير القمر، وجبيل، وأخيرًا في معاد، حيث قضت سبع سنوات تعلِّم كلمة الله وتربِّي الأطفال والفتيان.

 

5.  ولمّا بلغت الثّامنة والثّلاثين من العمر، فوجئت بانحلال جمعيّة المريمات وانضمامها إلى جمعيّة قلب يسوع الأقدس، تحت اسم  جمعيّة القلبَين الأقدسَين يسوع ومريم". فكانت دعوة إلهيّة جديدة لها لدخول "رهبانيّة الرّاهبات اللّبنانيّات المارونّيات" المعروفة آنذاك "بالرّهبانيّة البلديّة"، في دير مار سمعان – أيطو. وبعد أربع عشر سنة من الغوص في سماع كلام الله، والاتّحاد الكامل بالمسيح، والشّوق الكبير إلى مشاركته في آلام الفداء، وتحديدًا يوم أحد الورديّة من سنة 1885 صلّت رفقا وطلبت هذه المشاركة في آلام المسيح. فاستجاب طلبها في اليوم نفسه، وبدأ الوجع المؤلم في رأسها وامتدّ إلى عينيها. اقتلع الطّبيب المعالج في جبيل عينها اليمنى من دون بنج. فأصابها نزيف شديد ونُقلت إلى بيروت لإيقافه. ثمّ عادت إلى دير مار سمعان تحتمل أشدّ الأوجاع، وأُصيبت عينُها اليسرى بوجع مؤلم وشحَّ النّور فيها. ومع هذا كلّه تشكر الله وتسبّحه، وتقول: "ألمي ليس بشيء بالنّسبة إلى آلامه المقدّسة من أجل فدائنا".

 

6.  نُقلت إلى دير مار يوسف جربتا في تشرين الثّاني 1897، وبعد سنتين صارت عمياء بالكلّيّة، وهي ترفع بصوتها الجميل صلاة الشّكر والتّسبيح لله. إنّها في السّادسة والسّتّين من عمرها. وتواصلت جلجلتها إذ أصبحت مقعدة بالكلّيّة، وأوصالها مفكّكة، ولم يسلم منها سوى أناملها لتلاوة المسبحة وشغل السّنّارة، ولسانها لإنشاد رحمة الله. دامت جلجلة آلامها تسعًا وعشرين سنة حتّى وفاتها في 23 آذار 1914 وانتقالها إلى سعادة السّماء. وها هي  "تتلألأ كالشّمس بين الأبرار" (متّى 13: 43).

إنّنا نكل إلى شفاعتها كلّ المتألّمين والمرضى بأجسادهم وأرواحهم ومعنوياتهم. نصلّي من أجل شفائهم وتقديسهم، وكي يضمّوا آلامهم إلى آلام المسيح من أجل الكنيسة وخلاص العالم.

 

7.  إنّ سرّ القدّيسة رفقا هو سماع كلام الله، "النّصيب الأفضل". فالكلام الإلهيّ الّذي سمعته من فم يسوع قادها، كما يقود كلّ مؤمن ومؤمنة، إلى معرفة الله. فالله الحقيقة هو"نورنا في الطريق" (مز119: 105)، لكي "لا نزلّ ونتيه" (مز 121: 3). الإرشاد الرّسوليّ  "الكنيسة في الشّرق الأوسط" يؤكّد أنّ "كلمة الله هي روح الحياة المسيحيّة وأساسها". إنّها تُعطي معنىً للحضور المسيحيّ في الشّرق الأوسط وتنعشه، فلا يكون مجرّد انتماء سوسيولوجيّ، أو إنجازات اقتصاديّة فقط، بل ثقافة حياة وحضارة.

نقرأ في الإرشاد الرّسوليّ "كلمة الرّبّ" أنّ الكلمة الإلهيّة تُنير كلّ الوجود الإنسانيّ، وتدعو ضمير كلّ واحد وواحدة منّا لينظر إلى حياته بعمق، ويصحّح الخلل الّذي فيها، وليعطي كلّ لحظة قيمتها، لأنّه سيؤدّي حسابًا عن حياته (راجع متّى 25: 35-36). والكلمة إيّاها تُذكّرنا بضرورة التزامنا في العالم، والعمل من أجل العدالة والمصالحة والسّلام، ومن أجل المساهمة في جعل المجتمع أكثر إنسانيّة.

 

الكلمة الإلهيّة نفسها تندّد، من دون التباس، بكلّ أنواع الظّلم، وتعزّز التّضامن والمساواة، وتدفع بنا إلى التّخفيف من آلام الّذين يتألّمون وهم ضحايا الأنانيّات (الفقرة 100).

 

وتوجب كلمة الله على  الملتزمين في الحياة السّياسيّة أن يستلهموها في أعمالهم الزّمنيّة، بحيث يبحثون عن الخير العامّ لجميع النّاس، باحترام كرامة الأشخاص وتعزيزها. ومن الواجب أن يتثقّفوا بتعليم الإنجيل والكنيسة (الفقرة 100)، لكي يتمكّنوا من ممارسة سياسيّة سليمة، وتعزيز حقوق الإنسان الأساسّية وحمايتها (الفقرة 101).

 

8.  في هذه اللّيلة المقدّسة، نرفع مع القدّيسة رفقا، من هذه التّلّة الجميلة، تلّتها، نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".