لبنان
26 حزيران 2023, 07:50

البطريرك العبسيّ من كرخا: الأرض لمن يقطنها والأوطان لا تبنى بالرّغبات بل بالإرادات

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ الذّبيحة الإلهيّة في مزار مار يوحنّا المعمدان في كرخا عاونه المطارنة إيلي بشاره حدّاد، فرنسوا بيروتي إدوار ضاهر جورج اسكندر ولفيف من الرّؤساء العامّين والكهنة بحضور المطران مارون عمّار ممثّلاً البطريرك بشاره الرّاعي ووزير الشّؤون الاجتماعيّة في حكومة تصريف الأعمال هكتور حجّار ووزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري، والنّوّاب ميشال موسى وغسّان عطالله وأسامة سعد وعبد الرّحمن البزري والنّوّاب السّابقون أمل أبو زيد وسليم خوري ونقيب أطبّاء لبنان البروفيسور يوسف بخاش والعميد جورج صقر ممثّلاً قائد الجيش العماد جوزف عون والعميد يوسف مدوّر ممثّلاً مدير عامّ الأمن العامّ اللّواء الياس البيسري والعميد المتقاعد جورج المرّ ممثّلاً مدير عامّ جهاز أمن الدّولة طوني صليبا والمقدّم جورج عيد ممثّلاً مدير عامّ قوى الأمن الدّاخليّ اللّواء عماد عثمان والمفتّش العامّ في قوى الأمن الدّاخليّ العميد فادي صليبا ورئيس الطّبابة العسكريّة العميد الرّكن ماهر أبو شعر إضافة إلى رجل الأعمال شارل حنّا الّذي كان قد تبرّع بترميم المزار على نفقته الخاصّة وقضاة وأمنيّين وحشد من المؤمنين وأهالي البلدة .

وبعد الإنجيل المقدّس ألقى العبسيّ كلمة جاء فيها: "فرحتي في هذا المساء كبيرة جدًّا إذ آتي إليكم أيّها الأبناء الأحبّاء، بعد انتظار قسريّ دام سنة، لنلتقي ونصلّي ونعيّد ونبتهج معًا في هذه البلدة الجميلة الوادعة المضيئة المحبوبة، في هذا المقام المقدّس العريق، مقام النّبيّ يوحنّا المعمدان الفريد من نوعه في منطقتنا، الّذي كم كان شوقي كبيرًا إلى الحجّ إليه والتّبرّك به، بين هذه الوجوه الكريمة التي تنطق بالمحبّة والإيمان ويلمع فيها وجه السّيّد المسيح ووجه المعمدان.

أشكر أخي المحبوب سيادة المطران إيلي بشارة حدّاد الجزيل الاحترام راعي أبرشيّة صيدا ودير القمر وما إليهما الّذي شرّفني وفرّحني بأن دعاني إلى زيارتكم. أمدّ الله بعمره ومنحه الصّحّة التّامّة وقدّسه وبارك عمل يديه. أشكركم أنتم أيّها الأبناء الأحبّاء على الاستقبال البنويّ الحارّ الجميل الّذي استقبلتموني به معبّرين عن محبّتكم للكنيسة وأمانتكم لها. أشكر بنوع خاصّ خادم الرّعيّة المحبوب حضرة الأب وليد الدّيك الّذي غمرني بمحبّته ولطفه، وكذلك رئيسَ البلديّة الأكرم السّيّد جان نخلة ومختارَ البلدة السّيّد أنور نصّورة ولجنة مزار مار يوحنّا المعمدان وكلّ من ساعد في تهيئة الاستقبال. والشّكر الخاصّ لابن هذه البلدة البارّ حضرة السّيّد شارل حنّا صاحب الأيادي البيضاء الّذي رمّم من ماله الخاصّ هذا المقام المقدّس بهذا الإتقان والجمال والسّخاء معيدّا إليه رونقه وقدسيّته وجاعلّا منه مزارًا وطنيًّا يحجّ إليه النّاس من كلّ أنحاء لبنان للتّبرّك والصّلاة، والّذي جعل من هذه البلدة في الوقت عينه بلدة تجذب الأنظار والأسماع لؤلؤةً بين جاراتها يتمتّع أهلها بالهناء والرّاحة والجمال. بارك الله على ابننا الحبيب شارل وعلى عائلته الكريمة وأنعم عليهم بالصّحّة الكاملة والعمر المديد. وتحيّة مقدّسة إلى الحجّاج والزّوّار القائمين في هذا المساء هنا. تقبّل الله صلاتهم بشفاعة المعمدان.

تَعتبر الكنيسة القدّيس النّبيّ يوحنّا المعمدان ألمع وجه في تاريخ الكنيسة بعد السّيّدة العذراء مريم وتضعه في الكرامة رأسًا بعدها فتذكره في صلواتها بعد ذكر العذراء حالاً وترفع أيقونته على الإيقونسطاس بعد أيقونتها (الإشارة إلى الإيقونسطاس). وإذا كانت الكنيسة تفعل ذلك فلأنّ السّيّد المسيح قال عن يوحنّا المعمدان "ليس في مواليد النّساء أعظمُ من يوحنّا المعمدان". لذلك فإنّ هذا المقام الّذي يحمل اسمه له قيمة كبيرة واعتبار كبير في التّقوى المسيحيّة ويحقّ لنا بالتّالي أن نفتخر بأنّنا نحتفظ بمثل هذا الكنز في بلدتنا كرخا. لكنّ وجود هذا المقام في بلدتنا يتطلّب منّا  أشياء أخرى علينا أن نتحلّى بها. القدّيس الشّفيع في الكنيسة ليس فقط موضع تكريم بل هو أيضًا موضع اقتداء. علينا أن نقتدي بشفيعنا.

أوّل ما نقتدي به في شفيعنا يوحنّا المعمدان هو أن ندلّ النّاس على السّيّد المسيح، أن نعرّف النّاس بالسّيّد المسيح، كما كان يفعل يوحنّا المعمدان الّذي عرف مكانته، موضعه، دوره، رسالته، عرف أنّه ليس السّيّدَ المسيح بل السّابق المهيّئ الطّريق له فقال لمّا رأى يسوع: "هذا هو حمل الله الرّافع خطيئة العالم".

لكنّ أجمل وصفٍ وصف به المعدان نفسه هو ذاك الّذي أورده الإنجيليّ يوحنّا. وصف نفسه بأنّه صديق العريس. لم يصف نفسه بالعريس بل بصديق العريس، وبصديق العريس الّذي يفرح لسماع صوت العريس، يعني لا يحسده ولا يغتابه ولا يتربّص به الشّرّ ولا يسعى إلى الإطاحة به... وبصديق العريس الّذي لا يسير أمامه كالقطيع الّذي يُساق، ولا خلفه كالأتباع الّذين لا رأي لهم، بل إلى جنب العريس قريبًا من قلبه ومن أذنه ومن فمه ومن صدره. أكبر إكرام لشفيعنا يوحنّا المعمدان أن نقتدي به، أن نكون أصدقاء ليسوع بالطّريقة الّتي كان بها صديقًا ليسوع. المطلوب منّا أن نكون أصدقاء ليسوع. يسوع نفسه طلب ذلك: "لا أدعوكم بعد عبيدًا بل أصدقاء". يسوع نفسه يريد أن نكون أصدقاء له. وما أجمل صداقة يسوع. هذه الصّداقة القائمة على أن نحفظ تعاليمه ووصاياه ونقتدي بحياته وسيرته، الصّداقة القائمة على أن لا نقدّم أنفسنا على يسوع ولا نشوّه صورته ولا نشوّه تعليمه ولا نحجب نوره، لا بأقوالنا ولا بأفعالنا، بل نسعى إلى أن نقدّم يسوع للعالم ناصعًا. عندئذ نكون أعظم من يوحنّا المعمدان نفسه. اليوم مناسبة ملائمة لنسأل أنفسنا هل فينا شيء يشير إلى المسيح أم أنّنا مسيحيّون بالاسم فقط في كثير من الأحيان؟

ثاني ما نقتدي به بشفيعنا النّبيّ يوحنّا المعمدان هو شجاعته وجرأته في كلامه عن الله وعن السّيّد المسيح وفي دعوته النّاس إلى التّوبة واتّباع الصّراط المستقيم. عندما نتكلّم عن السّيّد المسيح يجب أن نتكلّم بجرأة وإلّا فلنصمت. الكلام عن السّيّد المسيح لا يحتمل أن يكون خجولًا أو عارجًا أو متلكّئًا أو بين بين. إمّا أن نتكلّم بجرأة وإمّا أن لا نتكلّم. "لأنّك لست حارًّا ولا باردًا كدت أن أتقيّأك من فمي". يقول لنا الله بفم يوحنّا الإنجيليّ. على أيّ حال كلام السّيّد المسيح لا يستطيع أن يتكلّم به إلّا الشّجعان: النّبيّ إيليّا، والنّبيّ يوحنّا المعمدان إيليّا الثّاني كما سمّاه المسيح، والسّيّد المسيح، والسّيّدة العذراء، وبولس الرّسول وغيرهم الكثير الكثير من الشّهود. أزمة المسيحيّين في هذه الأيّام بنوع خاصّ هي أزمة شجاعة. وقد نبّهنا السّيّد المسيح إلى ذلك بقوله لنا: "من يستحيي بي وبكلامي قدّام النّاس أستحيي أنا به قدّام أبي الّذي في السّماوات". قول المسيح قاطع كالسّيف. الألوان الباهتة والأضواء الخافتة والأصوات الهامسة لا تليق بالمسيحيّ وليست من شيمه ولا من أخلاقه.

قيمة الإنسان لا تأتيه من الإنسان، أيّ لا تأتيه من أعماله ولا من مواهبه ولا من مديح النّاس له عليها، بل قيمة الإنسان تأتيه من الله. إنّ قيمتنا نحن البشر هي أنّنا أبناء الله، ومن دون الله لا قيمة للإنسان. إنّ قيمتنا نحن من قيمة الله. إنّ الله وحده هو الّذي يضفي على حياتنا المعنى والفرح والسّلام ويمنحنا الخلاص. وبقدر ما نكون قريبين من الله تكون قيمتنا كبيرة. حاول الكثيرون عبر التّاريخ وما زال الكثيرون يحاولون إلى اليوم أن ينفوا الله من حياتهم ومن حياة النّاس بشتّى الوسائل حتّى إنّ أحدهم قال يومًا متهكّمًا: "أبانا الّذي في السّماوات ابقَ فيها". لكنّا نحن المسيحيّين المؤمنين بالرّبّ يسوع والتّابعين لوصاياه والملتزمين تعاليمه نعترف أنّ الإنسان من دون الله لا يعود إنسانًا. إنّا نلمس ذلك يوميًّا في ما نرى حولنا حيث المادّيّة وما معها من مذاهب إلحاديّة تنفي الله من الوجود لتُحلّ محلّه آلهة من صنع البشر سبق صاحب المزامير ووصف أخلاقها المسفّة وبُعدها عن الإنسان وما تخلّفه فيه من قلق وخوف ومن شرّ.

لكنّ هناك في الحياة ما هو غير شهادة يوحنّا المعمدان يستحقّ هو أيضًا أن يمتدحَه الرّبّ وقد امتدحه حقًّا. هناك العبد الأمين، والعبد الحكيم، وأنقياء القلوب وصانعو السّلام والحزانى والمضطَهَدين... وإيمان الكنعانيّة وغيرها، هؤلاء كلّهم وغيرهم الكثير طوّبهم وامتدحهم وكافأهم الرّبّ. فالمجال لنيل مديح السّيّد هو واسع جدًّا وفي وسع كلّ واحد أن يحصل بطريقته على مديح السّيّد المسيح. وعلينا أن نسعى لذلك.

إنّ هذا المقام المقدّس الّذي انطبعت على جدرانه وجوه أجدادنا وآبائنا وتترجّح بين حناياه أصواتهم وترانيمهم لا معنى لوجوده، لبقائه، وحتّى لا لزوم لوجوده وبقائه ما لم نكن نحن موجودين وباقين هنا. إن كان هذا المقام صمد إلى اليوم فلأنّهم صمدوا ولأنّنا ما زلنا صامدين ومتشبّثين بأرضنا وترابنا وهوائنا وسمائنا. الأرض لمن يقطنها والأوطان لا تبنى بالرّغبات بل بالإرادات. وإرادتكم مرسومة واضحةٌ على وجوهكم. نحن أتينا إليكم اليوم مباشرة من سينودس كنيستنا المقدّس الّذي جمع كلّ أساقفة كنيستنا من أنحاء العالم. تدارسنا أحوال وشؤون وشجون أبنائنا حيثما كانوا في هذا العالم.  كونوا على يقين بأنّ الكنيسة في خدمتكم ولن تتخلّى عنكم".

وفي الختام قدّم شارل حنّا درعًا للبطريرك العبسيّ وهو كناية عن رمز السّنديانة الّتي تنتصب في ساحة المقام .