العراق
09 تموز 2021, 08:45

البطريرك ساكو: الحوار سنّة الحياة

تيلي لوميار/ نورسات
شدّد بطريرك بابل للكلدان على أهمّيّة الحوار وضرورته الحياتيّة، مشيرًا إلى أنّ التّنوّع هو سنّة الحياة وغنى ولا يجب أن يتحوّل إلى خلاف وصراع، وذلك في مقالة جديدة نشرها موقع البطريركيّة الرّسميّ، وكتب فيها:

"كتبتُ قبل أيّام مقالةً مقتضبة عن التّعصّب وهو حالة إنسانيّة شاذّة، وأودّ اليوم أن أتناول موضوع الحوار لما له من أهمّيّة كبرى في حياتنا العائليّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والدّينيّة.

الحوار ضرورة حياتيّة

بسبب التّداخل الاجتماعيّ والدّينيّ. كانت المجتمعات سابقًا متجانسة ومنغلقة، أمّا اليوم فصار العالم كلّه كقرية رقميّة صغيرة، كلّ شيء فيه يتحرّك، ويتعيَّن على المرء كما يقول أفلاطون أن يرى كلّ قيمة تنبع من الخير المطلق. تنوّعنُا سُنَّة الحياة وغِنى، ولا يجب أن يتحوّل إلى خِلاف وصراع.

ما الحوار؟

الحوار من ܚܘܪ – ܚܘܪܐ حور حوارًا، حور (أبيض) في اللّغة السّريانيّة، ويعني إظهار الوجه الأبيض (الخفيّ) للحقيقة. أمّا في اللّغات الأجنبيّةdialogue ، فيعني لقاءَ شخصين أو فريقين وجهًا لوجه للكلام بصدق وعلميّة.

الحوار ليس مقاربة دبلوماسيّة، ولا عمليّة جرّ البساط من تحت أقدام الآخر، بفرض رأي معيَّن عليه، ولا إلزامه باعتناق معتقد، بل الحوار تلاقٍ وانفتاح على الآخر وفهم حقيقته، وقبول الاختلاف باحترام. لذلك يتطلّب الحوار إصغاءً من دون تبسيط أو توفيق لئلّا يتحوّل الى سِجال وتكفيرٍ وقطيعة. الحوار يعلّم التّواضع ويقود إلى المحبّة.

يسعى الحوار إلى معرفة وجهة نظر الآخر كما يعرضها بنفسه بعيدًا عن المجاملة والكذب، أيّ أن يلتقيه في مستوى الفكر وغِناه الكينونيّ. إنّ الجهل يقود إلى أخطاء وفقدان الثّقة والتّحوّل إلى موقف الدّفاع والهجوم. لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، لكلّ واحد شيء من الحقيقة. ويجب الاعتراف بنسبيّة ومحدوديّة نظرتنا وحكمنا. بالحوار يحلُّ كلُّ شيء وتستقيم الأمور.

النّاس مختلفون في الطّباع والثّقافة والبلد والدّين والجنس. هذا الاختلاف واقع طبيعيّ بمشيئة الله الّذي خلقنا مختلفين. فالاختلاف في الرّؤى والأفكار طبيعيّ ومقبول. لذا من المؤسف أن تكون ثمّة حركات عنصريّة طاغية يفكّر أصحابها بأنّهم فوق الآخرين، وأكثر قيمة منهم. هذه عنصريّة مقيتة. الإنسان بطبيعته كائن اجتماعيّ كما يذكر أرسطو، أيّ أنّه كائنٌ متحاور في العائلة والمعبد والعمل. فطبيعيّ أن يعترف بالآخر أخًا أو مواطنًا متساويًا. إعترافٌ قانونيّ ومؤسّساتيّ يؤمِّن حياة المواطنين ويضمن حقوقهم.

المجتمعات والدّيانات ليست منغلقة، بل هي منفتحة، فالجانب الوطنيّ والاجتماعيّ والدّينيّ متسامح، لا يقبل إقصاء وإلغاء الآخرين المختلفين.

التّعايش السّلميّ يمرّ عبر الاحترام للهويّة الخاصّة، والاختلافات شرعيّةٌ. عندئذٍ نختبر بالفعل، أنّ لدينا أمورًا كثيرة توحّدنا وتدفعنا معًا على المُضيّ قُدُمًا. الخير حالة وموقف، والتّعصّب شذوذ!

حوار الأديان

الدّين "صلة" بالله، يرتفع فيها المرء فوق أهوائه، ليتعبّد إلى الله، ويتحلَّى بالأخلاق الحميدة، ويرسّخ صلته بأخيه الإنسان، الّذي هو موضوع خلق الله وعنايته. من هذا المنطلق يرسي حوار الدّيانات منطلقات لاهوتيّة للتّلاقي في العمق الإيمانيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ والوطنيّ.

الدّين في جوهره حوار، بكونه رسالة موجّهة إلى البشر من دون استثناء. وعلى الدّيانات أن تكون منفتحة على العالم وثقافته، والتّواصل مع النّاس بأفضل الوسائل، وعدم استعمال أجوبة جاهزة قديمة لا تجيب على أسئلتهم الحاليّة.

ثمّة علاقة وطيدة بين العقل والمنظومة الدّينيّة. فالتّفكير والتّحليل والحوار ينطلق من النّصّ الدّينيّ الّذي ليس منافيًا للعصرنة، كون الرّسالة الدّينيّة هي لكلّ النّاس وكلّ الأزمنة، فلا يمكن عزل فرائض الدّين وشرائعه عن الواقع المعاصر.

الخلاص من التّطرّف والإرهاب ينطلق من حوار الدّيانات ومن عمليّة تنشئة النّاس تنشئة إنسانيّة واجتماعيّة وثقافيّة وروحيّة سليمة، وتدريبهم على قيم الأخوَّة كما دعا البابا فرنسيس، وشيخ الأزهر د. أحمد الطّيّب، والمرجع الشّيعيّ الأعلى السّيّد السّيستاني. على رجال الدّين التّمتّع بالصّوت النّبويّ لتدريب مؤمنيهم على ممارسة التّسامح والمحبّة والخير والسّلام.

إذا كان هناك من تسابُق فليكن في مجال الخدمة المضحّية للنّاس، خصوصًا تجاه الفقراء ومن يجمعنا بهم الوطن والمصير. علينا تعزيز حوار الأديان كما قال البابا فرنسيس يوم الأربعاء 4/11/2016 لدى استقباله مجموعة من ممثّلي الأديان: "من الفظاعة تبرير الأعمال البربريّة بإسم الدّين".

وحدتنا كمسيحيّين

نحن إخوة متنوّعون. وهناك مساحة مشتركة واسعة تجمعنا، وقيَم مشتركة ينبغي تفعيلها. علينا إدراك أبعاد الوحدة ومستلزماتها حتّى يشعر كلّ طرف بمضامينها. نحن كلدان وسريان وآشوريّون وأرمن قوميّات موجودة لا يمكن إلغاؤها بقرار فرديّ. ليتحمّل الجميع مسؤوليّاتهم في رفع الحواجز النّفسيّة والفئويّة بين كلّ القوميّات، والنّظر إلى بعضهم البعض كأشخاص أحرار ومسؤولين بالرّغم من الاختلافات، والتّوصّل عبر حوار هادئ إلى الاتّفاق والتّضامن والتّعاون خدمةً لشعبنا ووطننا.

ثمّة أمر أساسيّ بالنّسبة لي كمؤمن ومسؤول في الكنيسة الكاثوليكيّة (الجامعة) المنفتحة على كلّ النّاس، إنّي أرفض التّطرّف، وأؤكّد أنّي عندما أدافع عن الكلدان، لست انفصاليًّا، بل أبقى أحبّ الجميع وأفكّر بهم، وأنفتح عليهم، إنّما أدافع عن الكلدان لأنّ هناك من يريد إقصاءهم وإلغاءهم من دون وجه حقّ. أؤمن بالحوار وبأنّ كلّ كنيسة محلّيّة مهما كان عدد مؤمنيها هي كنيسة جامعة منفتحة. الكنيسة لا يمكن أن تتحوّل إلى جماعة طائفيّة منغلقة. هذا يتعارض مع دعوة يسوع المسيح لتبشير كلّ الأقوام: "اِذهَبوا في العالَمِ كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إِلى الخَلْقِ أَجمَعين" (مرقس 16/ 15).

إنّ كنيسة المشرق المجيدة كانت كنيسة جامعة تضمّ عدّة أقوام من دون أن تنغلق على قوميّة واحدة، فالتّسمية الآشوريّة تعود إلى سنة 1976. في النّهاية أيّ كلدانيّ يشعر أنّه آشوريّ، قراره محترم، كما ينبغي احترام حرّيّة الكلدان والسّريان والأرمن في الحفاظ على تسميتهم القوميّة."