العراق
20 كانون الثاني 2021, 06:55

البطريرك ساكو: جائحة كورونا تتطلّب الباعوثا

تيلي لوميار/ نورسات
دعا بطريرك بابل والكلدان مار لويس روفائيل ساكو إلى الصّوم والتّوبة والصّلاة من أجل الخلاص من وباء كورونا، وذلك في رسالة وجّهها إلى أبناء كنيسته عشيّة عيد صوم "الباعوثا"، كتب فيها نقلاً عن موقع البطريركيّة الرّسميّ:

"يقع يوم الإثنين القادم 25 كانون الثّاني ولمدّة ثلاثة أيّام، الصّوم المعروف عندنا في العراق بـ"باعوثا نينوى" والّذي يلتزم به غالبيّة المسيحيّون، وكأنّه الصّوم الكبير. صوم قطعيّ إلى الظّهر أو إلى المساء، مع المشاركة اليوميّة في صلوات خاصّة ورتب توبة واحتفال بالقدّاس. كلمة "باعوثا" سريانيّة- كلدانيّة تعني صلاة الطّلبة.

ثمّة فرق بين يونان النّبي ويونان "السّفر" المتمّرد:  

بحسب علماء الكتاب المقدّس إنّ النّبيّ يونان "يونس" ذو النّون (أيّ صاحب السّمكة- الحوت) معروف في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام. عاش في مملكة إسرائيل الشّماليّة في القرن الثّامن قبل الميلاد في أيّام الملك ياربعام الثّاني (786- 746)، ولم يغادرها البتّة. أمّا مؤلّف سفر يونان، (أحد أسفار الأنبياء الإثني عشر في العهد القديم)، وهو ليس النّبيّ يونان، ولا علاقة تاريخيّة مباشرة معه، هو شخص مجهول من أواخر القرن الخامس إلى أوائل القرن الرّابع قبل الميلاد. والأحداث الّتي يرويها غير تاريخيّة. أشير على سبيل المثال إلى نينوى الّتي  دمّرت  سنة 612  قبل الميلاد، وعدم وجود بحر بينها وبين إسرائيل! ويونان هو نينوى  معكوسًا.

كاتب  السّفر (القصة)، شخص منفتح، يتمتّع بكاريزما النّبوّة، ثائر على المعتقدات التّقليديّة الّتي حصر فيها اليهود أنفسهم، واعتقدوا أنّ الله هو لهم وحدهم، ولا يعنيه الآخرون! من هذا المنطلق استخدم الكاتب اسم  يونان وألّف هذه القصّة- الدّراما لكي يعرض لمعاصريه ولنا تعليمًا دينيًّا جديدًا يؤمن به. محوره: إنّ الله ليس حصرًا لليهود، إنّما هو إله رحيم، وأب عطوف يرعى جميع أبنائه وبناته الّذين خلقهم، ويرغب في خلاصهم.  نجد صدى لهذه الرّعاية الأبويّة في إنجيل يوحنّا: "فإن الله أحبّ العالم حتّى أنّه جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يوحنّا 3: 16). والتّوبة الّتي يعنيها السّفر تحديدًا هي: نبذ التّطرّف والطّائفيّة عند اليهود ومن بينهم يونان المتزمّت، والعنف والحرب عند أهل نينوى. يصف مار أفرام في الميمر الأوّل للباعوثا يونان ونينوى بـ"نموذج للتّوبة".

تشير القصّة– الدّراما إلى أنّ الله أمر يونان بالسّفر إلى مدينة نينوى الفاسدة  ليعظ فيها، ويحثّ أهاليها على التّوبة، لكن يونان الطّائفيّ يستاء من أمر الله، ويرفضه. والسّبب هو أنّ نينوى مدينة ليست يهوديّة، وإنّها سبق أن قامت بسبي اليهود في زمن الملك الأشوريّ سنحاريب، لذلك هرب في سفينة إلى ترشيش (مراكش اليوم)، أيّ إلى اتّجاه معاكس تمامًا. وهاج البحر، ورمي يونان فيه، وابتلعه حوت، ظلّ في جوفه ثلاثة أيّام. إستولى على يونان الخوف والهلع، فأخذ يصلّي بقلب منكسر إلى الله لكي ينقذه. أخيرًا قذفه الحوت خارج مدينة نينوى. وراح يونان (بطل القصّة) يعظ فيها صومًا عامًّا صارمًا وتوبة، فعفا الله عن سكّانها. هنا أيضًا نرى الكاتب يعود يركّز من جديد على شديد أسف يونان، وحزنه أمام توبة أهل نينوى وخلاصهم! فقال الرّبّ: "لقد أشفقت أنت على الخروعة الّتي لم تتعب فيها ولم تربّها، والّتي نبتت بنت ليلة، ثمّ هلكت بنت ليلة،  أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة الّتي فيها أكثر من إثنتي عشرة ربوةً من أناس..؟" (يونان 4/10-11).

ممارسة الباعوثا  في الكنيسة:  

لا علاقة لممارسة باعوثا الكنيسة بأهل نينوى، إنّما يعود تنظيمها إلى تفشّي وباء الطّاعون (ܡܘܬܢܐ) في بلاد ما بين النّهرين أيّام الجاثليق حزقيال (570-581)، حيث مات الألوف من النّاس، فدعا الجاثليق النّاس إلى الصّيام والصّلاة والتّوبة لمدّة ثلاثة أيّام من أجل زوال الوباء. هذا ما حدث (طالع كتابنا سبر البطاركة ص51). إستلهم الجاثليق حزقيال ومعاونوه عناصر سفر "قصّة يونان" لمساعدة النّاس على الصّلاة والتّوبة، فنظّم مواعظ شعريّة ومداريش شجيّة، اقتبسها من ميامر مار أفرام ونرساي وآخرين، وصلوات وطلبات، وسمّاها "باعوثا نينوى" تيمّنًا بالصّوم الّذي ورد في سفر يونان.

جائحة كورونا تتطلّب الباعوثا:  

إنّ وباء كورونا الفتّاك الّذي تفشّى في كلّ دول العالم، ومسّ حياة الملايين من النّاس يشبه وباء الطّاعون في زمن الجاثليق حزقيال! فقد بلغ عدد الوفيّات في العالم حتّى اليوم قرابة المليونين، والمصابين نحو خمسة وتسعين مليونًا. إنّه كارثة عالميّة بكلّ المقاييس، بما حملته من نتائج سلبيّة على حياة النّاس صحّيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا (التّعليم والدّراسة)، واقتصاديًّا ودينيًّا (علّقت نشاطات الكنائس والجوامع). وكما فعل المسيحيّون أيّام الجاثليق حزقيال وزال عنهم الوباء، لنقتدي بهم نحن أيضًا، ونحوّل هذه  التّجربة الأليمة (جائحة كورونا) إلى فرصة نعمة وخير، من خلال وقفة روحيّة واجتماعيّة تضامنيّة جادّة: تعالوا نصوم معًا ونتوب عن خطايانا،  ونصلّي من أجل الخلاص من وباء كورونا، ونتأمّل في معنى وجودنا، ونتحمّل مسؤوليّاتنا تجاه إخوتنا ومجتماعاتنا، ونتضامن مع المرضى المصابين بكورونا وبأمراض أخرى، وبالنّاس الّذين فقدوا وظائفهم ورزقهم، ولنمدّ لهم يد العون.

لنصلّ أيضًا من أجل عودة السّلام والأمان والاستقرار إلى بلدنا والمنطقة بعد كلّ الحروب والصّراعات الّتي أنهكتها. لنصلّ كذلك من أجل نجاح زيارة البابا فرنسيس. لنستمع إلى كلماته كما سمع أهالي نينوى إلى كلمات يونان، لكي تكون لنا حياة أفضل.

يا ربّ استجب صلاتنا وتقبّل صيامنا."