لبنان
03 تشرين الأول 2017, 13:13

التنشئة المسيحية - الأحد الرابع من زمن الصليب

ألقى البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي من الصرح البطريركي في بكركي، التنشئة المسيحيّة للأحد الرابع من زمن الصّليب بعنوان "الحياة والواجبات وكالة من الله" (متى 24: 45-51) وتحدّث كذلك عن الإرشاد الرسولي "فرح الحبّ"، وجاء فيها:

 

بين النهايات، التي يذكّرنا بها زمن الصليب، نهاية حياة كلّ إنسان الزمنيّة. في هذا الأحد، يشبّه الربّ يسوع حياتنا الزمنيّة بوكالة من الله تشمل حياتنا الخاصّة، وهي هبة من الله سنعيدها اليه مجمَّلة. وتشمل المسؤوليّة في الحياة الزوجية والعائلية، في الكنيسة والدولة. كلّ واحد وواحدة منّا هو وكيل وينبغي أن يكون أمينًا وحكيمًا.

أوّلاً، شرح نص الإنجيل

من إنجيل القديس متى 24: 45-51

قالَ الرَبُّ يَسُوع: «مَنْ هُوَ العَبْدُ الأَمِينُ الحَكِيْمُ الَّذي أَقَامَهُ سَيِّدُهُ عَلى أَهْلِ بَيتِهِ، لِيُعْطِيَهُمُ الطَعَامَ في حِينِهِ؟ طُوبَى لِذلِكَ العَبْدِ الَّذي يَجِيءُ سَيِّدُهُ فَيَجِدُهُ فَاعِلاً هكَذَا! أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّهُ يُقِيْمُهُ عَلى جَمِيعِ مُمْتَلَكَاتِهِ. ولكِنْ إِنْ قَالَ ذلِكَ العَبْدُ الشِرِّيرُ في قَلْبِهِ: سَيَتَأَخَّرُ سَيِّدِي! وبَدَأَ يَضْرِبُ رِفَاقَهُ، ويَأْكُلُ ويَشْرَبُ مَعَ السِكِّيرِين، يَجِيءُ سَيِّدُ ذلِكَ العَبْدِ في يَومٍ لا يَنْتَظِرُهُ، وفي سَاعَةٍ لا يَعْرِفُهَا، فَيَفْصِلُهُ، ويَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ المُرَائِين. هُنَاكَ يَكُونُ البُكَاءُ وصَرِيفُ الأَسْنَان».

 

1. تُعتبر ساعة الموت، التي يجهلها كلّ إنسان، في وقتها وكيفيّتها، موعد انتظار لمجيء الربّ. لا بمعنى أنّ الله يخطف حياة الإنسان، بل ان الله يأتي لينقل إليه روح هذا الإنسان عند موته. ولذا نصلّي في الليتورجيّا المارونيّة: "أَرسِلْ يا ربّ ملائكتك ليحملوا إليك روح أخينا وأختنا".

هكذا نفهم من التشبيه الذي استعمله الربّ يسوع فيقول بالنسبة "للوكيل الأمين الحكيم":"طوبى له عندما يجيء سيّده فيجده فاعلًا هكذا". وعن الوكيل الخائن ثقة سيّده: "يجيء سيّده في يوم لا ينتظره، وفي ساعة لا يعرفها، ويجعل نصيبه مع الأشرار" (الآيات 46، 50، 51).

2. انتظار مجيء الربّ هو التزام بواجب الوكالة المتنوّع الذي يشمل:

أ- حماية حياتنا وحياة غيرنا من الانغماس في الخطيئة والشّر، وتجميلها بالقيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة. ففي موعد مجيء الربّ نردّ له أمانة الحياة مجمَّلة، كي تستحقّ مشاركته في الحياة الإلهيّة الأبديّة.

ب- ويشمل واجبات الحياة الزوجيّة، وهي التزام كلّ من الزوج والزوجة في إسعاد الواحد الآخر، وتأمين خيره الشخصي، وفي الاحترام المتبادل، وحفظ كرامة الآخر وحقوقه وقدسيّة حياته.

ج- ويشمل واجبات الوالدين تجاه أولادهم، بإعطائهم الحياة هبة من الله، كما يريدها؛ وجعلهم يدركون أنّهم ابناء الله وبناته. ولذا، من واجبهم تربيتهم على الإيمان والصلاة، والسّهر على ممارستهم الدينيّة في يوم الربّ، والمشاركة في الأسرار المقدّسة ولا سيّما القربان والتوبة. ومن واجب الوالدين أن يكونوا المثال في كلّ ذلك لأولادهم.

د- ويشمل واجبُ الوكالة المسؤولين عن الشأن العام، السياسيّين والإداريّين والقضائيِّين والعسكريِّين. فعلى عاتقهم يقع واجب تأمين خير المواطنين العام، والمحافظة على الدولة ومؤسّساتها بتفعيلها وحمايتها من الفساد، وحماية المال العام من الهدر والسرقة والرشوة والتهرّب من دفع الضرائب. إنّه واجب التشريع واتّخاذ القرارات الإجرائيّة، والقيام بالوظيفة الإداريّة بتجرّد وتفانٍ وإخلاص، والذود عن الوطن، والشعب والسيادة بتضحيات العسكريّين وسهرهم وتفانيهم.

3. إنّ كلّ هؤلاء الذين يقع عليهم هذا الواجب المتنوّع، يسمّي الربّ يسوع كلّ واحد وواحدة منهم "وكيلًا"، شرط أن يكون "أمينًا وحكيمًا".

الأمانة هي لله وللّذين نلتزم بخدمتهم، وللواجب الذي قبلناه وارتضينا به. والحكمة هي التصرّف الذي يجعل الوكيل مدركًا دائمًا انّه موكَّل. وليس هو السيِّد المطلق الذي يقرّر على هواه ووفق رغباته. فينظر في ممارسة واجباته من منظار الله، وفقًا لروحانيّة الطوباوي الأخ اسطفان وشعاره "الله يراني". الوكيل الحكيم هو مَن يستلهم قراراته وواجباته من الله، ويقول في نفسه: "لو كان الله مكاني، فكيف يتصرّف ويعمل ويقرّر؟".

 

   ثانيًا، الارشاد الرسولي "فرح الحب"

1. ننقل من الفصل الثالث نظرة الربّ يسوع إلى الزواج (الفقرات 61-66). في العهد الجديد يعتبر بولس الرسول أنّ الزواج "هبة" من الله (1كور4: 4). ذلك أنّ الله خلق كلّ شيء حسنًا، ولا يمكن أن يُرذل أيّ شيء من خلقه (1طيم4: 4). ودعت الرسالة إلى العبرانيّين لتكريم الزواج من الجميع، فإنّ مضجعه نقي (عبرا13: 4).

أما الربّ يسوع فأوضح نظرته إلى الزواج من كلّ جوانب كرامته وقدسيّته، فأكّد أن اتّحاد الرجل والمرأة غير قابل الانفصام، مثلما شاء الله منذ البدء (متى 19: 8). ولئن سمح موسى بالطلاق، فبسبب قساوة القلوب. لا يحقّ اعتبار هذا الاتّحاد برباط غير قابل الانفصال وكأنّه عبء، بل على العكس انه عطيّة من الله للثبات في الوعد والعهد. فيرافق الزوجَين بنعمته التي تشفي وتبدّل القلب المتحجِّر موجّهًا إيّاه إلى الأصل عبر طريق الصليب.

2. إنّ يسوع، الذي صالح كلّ شيء بنفسه، أعاد الزواج والعائلة إلى صيغتهما الأصليّة (راجع مر10: 1-12). لقد افتدى الزواج والعائلة (راجع أفسس5: 21-32)، ورمّم فيها صورة الثالوث القدّوس، وهو السّر الذي يتفجّر منه كلّ حبّ حقيقي.

إنّ العهد الزوجي، الذي دُشِّن في الخلق، وانكشف في تاريخ الخلاص، قد نال ملء انكشاف مفهومه في المسيح وفي الكنيسة. من المسيح بواسطة الكنيسة، يتقبّل الزواج والعائلة النعمة الضرورية من أجل الشهادة لمحبّة الله، وعيش حياة الشّركة. إنّ إنجيل العائلة يعبر تاريخ العالم، منذ خلق الإنسان على صورة الله ومثاله (تك1: 26-27) حتى اكتمل سرّ العهد بالمسيح في نهاية العالم بعرس الحمل (رؤيا 19: 9).

3. الربّ يسوع بتصرّفاته تجاه الزواج والعائلة هو النموذج للكنيسة، فقد جاء إلى العالم عبر عائلة. افتتح حياته العامة بحضور عرس في قانا الجليل (يو2: 1-11). قضى أوقات صداقة مع عائلة لعازر وشقيقتيه (لو10: 38)، ومع عائلة بطرس (متى 8: 14). وسمع صراخ أهل على أولادهم، معيدًا إليهم الحياة (مر5: 41؛ لو7: 14-15). وجسّد رحمة الله للجميع ولا سيّما في لقائه السامرية (يو4: 1-30)، والمرأة الزانية (يو8: 1-11) التي غمرها بحبّه المجّاني بعد أن جعلها تدرك خطيئتها.

4. بتجسّد الكلمة في عائلة بشرية في الناصرة نتلمّس الجديد في تاريخ العالم، وندخل في عمق سرّ ولادة يسوع: في كلمة "نعم" التي قالتها مريم للملاك، وعندها بدأ الحبل بالكلمة الإلهي في حشاها بقوّة الروح القدس؛ وكذلك في "نعم" يوسف الذي أعطى يسوع اسمه وأخذ على عاتقه العناية بمريم وابنها؛ في العيد الذي أحياه الرعاة في المذود؛ وفي مجيء المجوس وسجودهم للطفل الملك الجديد المولود؛ في الهرب إلى مصر الذي شارك به يسوع شعبه المهجّر وكلّ شعب مماثل؛ في انتظار زكريا الكاهن وفرحه بمولد يوحنا المعمدان؛ في إعجاب علماء الشريعة في هيكل اورشليم بحكمة الفتى يسوع ومعرفته وهو بعمر اثنتي عشرة سنة.

وندخل في حياة يسوع الشاب الذي خضع لشريعة العمل مع يوسف حتى عمر ثلاثين سنة، فكسب خبزه بعرق جبينه. وفي الوقت عينه كان يخضع لتربية أبيه وأمّه، ويتربّى في الإيمان.

5. هذا هو سرّ عائلة الناصرة التي تفوح منها رائحة الطّيب العائلي. هذا السّر سحر فرنسيس الأسيزي، وتريز الطفل يسوع، والأخ شارل دي فوكو، وشربل ورفقا.

إنّ عهد الحبّ والأمانة الذي عاشته العائلة المقدّسة في الناصرة، يعطي شكلًا لكلّ عائلة، ويساعدها على مواجهة أحداث الحياة والتاريخ. وبذلك تستطيع العائلة، بالرغم من ضعفها، أن تصبح نورًا في ظلمة العالم، وأمثولة في الحياة العائلية، والمكان الأمثل للتربية على القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية والاجتماعية.

*  *  *

صلاة

أيّها الربّ يسوع، لقد أتيت إلى أرضنا وكنتَ لنا المثال والقدوة في كلّ شيء. لقد نميت في الأمانة للآب الذي أرسلك، وفي حكمة التصرّف بعودتك الدائمة في الصلاة إلى إرادة الآب مرسلك. وعشتَ كأنّك "موكَّل" على رسالة خلاص كلّ إنسان وافتدائه. ولما كان يحاربك الشيطان للرجوع عن الواجب تصدّيت له بالعودة إلى كلام الله فانتصرت. ولما ثقلت عليك الآلام النفسيّة والحسّية في جبل الزيتون، وخارت قواك الجسديّة والمعنويّة وخفت من كأس الموت المرّ، لجأت إلى إرادة أبيك. وبميلادك في عائلة بشريّة وضيعة في الناصرة أعطيت الزواج والعائلة بهاءهما وقدسيّتهما وكرامتهما، وجعلت العائلة مدرسة طبيعيّة للتربية على القيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، وكنيسة بيتيّة لنقل الإيمان وتعليم الصلاة. وإنّنا نرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.