لبنان
16 تشرين الثاني 2016, 07:25

التنشئة المسيحية - بشارة الملاك لمريم

ألقى غبطة البطريرك التنشئة المسيحية تناول فيها "دور الإنسان في تاريخ الخلاص" (لو 1: 26 - 38)، جاء فيها:

 

لكي يحقِّق الله تصميم خلاص الجنس البشري، يحتاج إلى مساهمة الإنسان. في الأحد الماضي، البشارة لزكريا بمولد يوحنا، كشفت الحاجة إلى إنسان يسبق المسيح، هو يوحنا، ليعلن مجيئه ويهيِّئ القلوب لاستقباله، من خلال خدمة المعمودية بالماء للتوبة. واليوم، البشارة لمريم كشفت الحاجة إليها لتكون أمًّا عذراء ومن دون وصمة خطيئة لابنه المتجسّد. بل الإله نفسه صار إنسانًا لكي يتمكّن من مخاطبة البشر بكلام الله، واللّقاء مع أهل زمانه، وتحقيق عمل الفداء.     

                                    

شرح نصّ الإنجيل

 

من إنجيل القديس لو 1: 26-38

 

     قالَ لوقا البَشِير: في الشَهْرِ السَادِس، أُرْسِلَ المَلاكُ جِبْرَائِيلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِلى مَدِينَةٍ في الجَلِيلِ اسْمُهَا النَاصِرَة، إِلى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاودَ اسْمُهُ يُوسُف، واسْمُ العَذْرَاءِ مَرْيَم. ولَمَّا دَخَلَ المَلاكُ إِلَيْهَا قَال: «أَلسَلامُ عَلَيْكِ، يَا مَمْلُوءَةً نِعْمَة، الرَبُّ مَعَكِ!». فاضْطَربَتْ مَرْيَمُ لِكَلامِهِ، وأَخَذَتْ تُفَكِّرُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذا السَلام! فقَالَ لَهَا المَلاك: «لا تَخَافِي، يَا مَرْيَم، لأَنِّكِ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ الله. وهَا أَنْتِ تَحْمِلينَ، وتَلِدِينَ ابْنًا، وتُسَمِّينَهُ يَسُوع. وهُوَ يَكُونُ عَظِيمًا، وابْنَ العَليِّ يُدْعَى، ويُعْطِيهِ الرَبُّ الإِلهُ عَرْشَ دَاوُدَ أَبِيه، فَيَمْلِكُ عَلى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلى الأَبَد، ولا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَة!».

 

     فَقالَتْ مَرْيَمُ لِلمَلاك: «كَيْفَ يَكُونُ  هذَا، وأَنَا لا أَعْرِفُ رَجُلاً؟». فأَجَابَ المَلاكُ وقالَ لَهَا: «أَلرُوحُ القُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وقُدْرَةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، ولذلِكَ فالقُدُّوسُ المَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ الله! وهَا إِنَّ إِلِيصَابَاتَ نَسِيبَتَكِ، قَدْ حَمَلَتْ هيَ أَيْضًا بابْنٍ في شَيْخُوخَتِها. وهذَا هُوَ الشَهْرُ السَادِسُ لِتِلْكَ الَّتي تُدْعَى عَاقِرًا، لأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اللهِ أَمْرٌ مُسْتَحِيل!». فقَالَتْ مَرْيَم: «هَا أَنا أَمَةُ الرَبّ، فَلْيَكُنْ لِي بِحَسَبِ قَوْلِكَ!». وانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِها المَلاك.

 

يعطي القدّيس لوقا تفاصيل عن الأشخاص والزمان والمكان: الشهر السادس، عذراء مخطوبة إلى يوسف من الناصرة، اسمها مريم، الملاك جبرائيل. كلّ هذه التفاصيل أرادها لوقا للدَّلالة أنّ ميلاد يسوع المخلّص والفادي حدث تاريخي محدّد في المكان والزمان. والإيمان به ليس إحساسًا نفسيًّا فقط يشعر به الإنسان بارتياح. بل الإيمان هو ثمرة هذا الحدث التاريخي الذي من خلاله يدخل الله في تاريخ البشر، وفي حياة كلّ واحد منّا. وهكذا البشارة لمريم هي بشرى لنا ايضًا بأنّنا مدعوّون لنعيش مع الله الحاضر معنا ومن أجلنا، عمّانوئيل، والقادر على شفاء نفوسنا وتغيير مجرى حياتنا.

 

 لقد تجسّد الله من أجل الإنسان، لكي يشركَه في حياته الإلهيّة. لقد ردّد آباء الكنيسة: "تانّس الله، ليؤلِّه الإنسان". كتب البابا القدِّيس يوحنا بولس الثاني في رسالته العامّة الأولى بعنوان "فادي الإنسان": "إنّ الإنسان هو طريق يسوع المسيح. وبالتالي ينبغي أن يكون طريق الكنيسة". الإنسان طريق الخلاص بيسوع المسيح. المسيح هو نبع الخلاص وفاعله، أما الإنسان فشريك في تحقيق خلاصه الشخصي وخلاص غيره. كلّنا مدعوّون لهذه المشاركة.

 

 يمكننا أن نقرأ رموزًا في التفاصيل المذكورة، وبخاصّة "الشهر السادس والبشارة لمريم بتجسّد ابن الله منها بقوّة الروح القدس". هذه التفاصيل ترمز إلى ما جاء في الصفحة الأولى من سفر التكوين التي تروي حدث الخلق الأوّل. ففي اليوم السادس، خلق الله الإنسان الأوّل على صورته ومثاله وفي حالة براءة ومجد. وفي الشهر السادس جاءت البشرى بخلق الإنسان الجديد، بشخص يسوع المسيح، الإله الذي صار إنسانًا، ليعيد للإنسان بهاء جمال صورة الله فيه التي شوّهتها الخطيئة. والروح القدس الذي كان في أساس نسمة الحياة في الخلق، إذ "كان يرفرفُ على وجه المياه" (تك1: 2)، هو الذي حلّ على العذراء مريم بالقدرة الإلهيّة وحقّق فيها الحبل بابن الله المتجسّد.

 

 الملاك جبرائيل يُرسَل إلى مريم حاملًا البشرى، كما أُرسل من قبل ستّة أشهر ليحمل البشارة لزكريا. الملائكة هم في رفقة الله، يشاركونه في كلّ أعماله، وهو يرسلهم في مهمّات خير.

 

ففي الميلاد، الملاك أعلن البشرى لرعاة بيت لحم، وجوق الملائكة أنشد الحدث: "المجدُ لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر" (لو2: 9 و13). بعد انتصار يسوع على تجارب الشيطان في الصحراء، "أقبل ملائكة وطفقوا يخدمونه" (لو4: 11). في بستان الزيتون، فيما كان يسوع يصلّي، مبديًا خوفه من كأس الألم والموت ومسلِّمًا ذاته لإرادة أبيه، "ظهر له ملاكٌ من السماء يشدِّده" (لو22: 42-43). صباح قيامته من الموت، عندما أقبلت إلى القبر مريم المجدليّة ومريم الأخرى، "خاطبهما الملاك قائلًا: لا تخافا! أنتما تطلبان يسوع المصلوب. إنّه ليس هنا. إنّه قام كما قال" (متى 28: 5). ساعة صعود الربّ إلى السماء، "وفيما كان الرسل شاخصين بأبصارهم إلى السماء إلى حيث هو ذاهب، إذا برجلَين (ملاكَين) بلباس أبيض قد وقفا بهم". وأنبآهم "أنّ يسوع هذا الذي رُفع عنكم إلى السماء سيأتي على النحو الذي عاينتموه عليه وهو منطلق إلى السماء" (أعمال1: 9-11). في مجيء المسيح ديّانًا في آخر الأزمنة، يأتي محاطًا بجميع ملائكته (متى 25: 31).

 

 تعلّم الكنيسة في "كتاب التعليم المسيحي" أنّ الملائكة كائنات روحيّة، غير جسدية وأنّ وجودهم حقيقة إيمانيّة تؤكِّدها الكتب المقدّسة وإجماع التقليد (الفقرة 328). هم خدّام الله وحاملو رسالة منه للتبليغ. "إنّهم يعاينون وجه الآب بشكل دائم في السماء" (متى18: 10). بما أنّهم كائنات روحيّة، فإنّ لهم عقلًا وإرادة كأشخاص مخلوقين وغير مائتين، ويفوقون بالكمال كلّ المخلوقات (الفقرتان 329 و330).

 

الملائكة حاضرون في حياة الكنيسة، وهي تنعم بمساعدتهم السّرية وبقدرتهم. في الليتورجيا، تنضمّ إليهم لتعبد الله المثلَّث القداسة، تلتمس مساعدتهم لنقل نفوس موتاها إلى الفردوس السماوي. وتعيّد أعيادًا خاصّة ببعضهم: مار ميخائيل، مار جبرائيل، مار روفائيل، الملائكة الحرّاس. وتعتقد الكنيسة أنّ لكلّ مؤمن ملاكًا حارسًا يرافقه ويحميه حتى يقوده إلى الحياة الأبدية (الفقرات 334-336).

 

 أُرسل الملاك إلى مريم عذراء الناصرة المخطوبة ليوسف من بيت داود (الآية 27).

 

الناصرة قرية صغيرة في منطقة الجليل الواقعة شمالي البلاد، قرب لبنان، والبعيدة عن أورشليم العاصمة الموجودة في ناحية الجنوب. هي قرية مريم. أمّا يوسف فهو من بيت لحم مدينة داود، وقد سكن الناصرة من أجل عمله كنجّار. ولهذا السبب ذهب إلى بيت لحم مع مريم الحامل للإكتتاب في الإحصاء الذي أمر به أغسطس قيصر (لو 2: 4-5)، حيث يوجد قيد نفوسه. وفي المناسبة وُلد يسوع في بيت لحم. لكنّه ترعرع في الناصرة ودُعي ناصريًّا.

 

من قرية الناصرة الصغيرة المجهولة اختار الله مريم، وعصمها من الخطيئة الأصلية لتكون الأمّ البتول لابنه الذي سيأخذ منها جسدًا بشريًّا، واختار يوسف ليكون خطِّيبها والزوج البتول والأب الشرعي للإله المتجسِّد والمربِّي له في حياته الإنسانيّة. وهكذا تمّت أقوال الأنبياء عن المسيح الذي يولد من عذراء ومن بيت داود الملك.

 

هذه هي أحكام الله الذي يختار مَن يشاء لتحقيق تصميمه الخلاصي. إنّ لكلّ مؤمن دورًا خاصًّا في هذا التصميم الإلهي. فلا بدّ من أن ينفتح كلّ واحد وواحدة منّا لهذا السّر الإلهي، وأن يلتمس إمكانيّة اكتشاف إرادة الله عليه، عندما نصلّي في "الأبانا": لتكنْ مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض". فنحن ننتمي إلى عالمَين يقتضيان منّا في حياة الدنيا الالتزام في بنائهما وهما: عالم البشر وعالم الله، والقيام بالواجب تجاه كلٍّ منهما: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" (متى  22: 20).

 

 كلمات الملاك لمريم غنيّة بمضمونها اللّاهوتي الخاصّ بها، وبمضمونها الكريستولوجي الخاصّ بيسوع الذي ستحبل به.

 

"السلامُ عليك" باللَّفظة الآراميّة الاصليّة وترجمتها اليونانية تعني "إفرحي يا مريم" لأنّها لقيت حظوة عند الله، فقد اختارها لتكون أمًّا لابنه، الإله المتجسّد. "المملوءة نعمة" هي إشارة إلى عصمتها من دنس الخطيئة الأصليّة. "الربّ معك" تعني أنّ الله الذي يدعوها لهذه الرسالة الكبيرة إنّما يعضدها لتستطيع القيام بها.

 

لنا، في هذه الكلمات والحقائق، أمثولات روحيّة: أن نفرح في كلّ دعوة ومهمّة يدعونا الله إليها في الكنيسة أو العائلة أو المجتمع أو الدولة، مهما اعتراها من صعوبات ومعاكسات ومحن؛ أن نشعر بالامتلاء بالنعمة الإلهيّة عندما نمارس أسرار الخلاص السبعة، وأن نستمدّ من هذه النعمة قوّتنا وعزاءَنا؛ أن ندرك أنّنا بقبول كلمة الله في عقولنا وقلوبنا وبتناولنا جسد المسيح ودمه، نحن نعطيه حضورًا من خلالنا، بحيث يفكّر بعقولنا، ويحبّ بقلوبنا، ويقول الحقيقة بألسنتنا، ويساعد ويبارك بأيدينا.

 

 أمّا المضمون الكريستولوجي فظاهر في الأوصاف التي يعطيها الملاك عن المولود منها:

 

هو "يسوع" الله الذي يخلّص شعبه من خطاياهم (راجع متى 1: 21). "وابن العلي" ابن الله الذي يتجسّد من مريم العذراء. "والملك الذي لا نهاية لمُلكه": إنّه الملك الإلهي الأبدي، ومملكته كنيسة الأرض التي تكتمل في كنيسة السماء. وكما عُرف داود الملك برجل سلام، فيسوع هو "أمير السلام" (أشعيا 9: 5) الحقيقي.

 

 نحن أبناء الكنيسة وبناتها، قد أشركنا المسيح بملوكيّته يوم قبلنا المعمودية والميرون، فجعلنا جماعة السلام. لا يستطيع أيّ مسيحي ومسيحيّة أن ينسى كيانه الداخلي السلامي، ودعوته ليكون صانع سلام في محيطه ومكان عمله وعلى مستوى مسؤوليّته. ربط المسيح بنوّتنا بالله بصنع السلام، عندما أعلن في إنجيل التطويبات، المعروف "بدستور الحياة المسيحية": "طوبى لفاعلي السلام، فإنّهم أبناءَ الله يُدعَون" (متى 5: 9).

 

مشاركتنا في ملوكيّة المسيح تقتضي الّا نحصر فكرنا وهمومنا في شؤون الأرض. عندما نصلّي في الصلاة الربّية "ليأتِ ملكوتك" فإنّا نلتزم ببناء ملكوت المسيح على أرضنا، وهو ملكوت القداسة والحقيقة والمحبة والعدالة والسلام، وسواها من القيم الإنجيليّة التي نتعلّمها من فم المسيح.

 

 شرح الملاك لمريم سرَّ الحبل العجيب: "الروح القدس يأتي، وقدرة العليّ تظلِّلك، ولذلك فالقدّوس المولود منك يُدعى ابنَ الله" (الآية 35). الآب يهيّئ كلّ شيء من أجل ولادة ابنه فادي الإنسان ومخلّص العالم. الإله يسكن في حشا عذراء نقيّة من أيّ دنس خطيئة أصليّة أو شخصيّة. وسيعلنها مجمع أفسس سنة 431 "والدة الإله" في طبيعته البشرية. الله الذي يدعو لرسالة ما، إنّما يهيّئ كلّ الوسائل اللّازمة لها. إذا تذكّرنا هذه الحقيقة، عشنا دعوتنا ورسالتنا بطمأنينة وفرح واتّكال على عناية الله.

 

في قول الملاك، ظهرت ملامح سرّ الله الواحد والثالوث: الآب الذي أرسل ابنه مولودًا من مريم العذراء بالجسد، بقدرة الروح القدس. من هذا الثالوث القدّوس نستمدّ كلّ قوّتنا وسرّ وجودنا. فمحبّة الآب تظلّلنا، ونعمة الابن تخلّصنا، وحلول الروح القدس يبثّ فينا الحياة الإلهيّة.

 

"قدرة العليّ التي تظلّل مريم" رُمِز إليها في العهد القديم بالغمامة التي تظلّل المكان ومن خلالها يأتي صوت الله، وهي تشكّل علامة حضوره. ثمّ كان الهيكل البيت الذي يخيّم فوقه الله. أمّا مريم فهي الهيكل بامتياز حيث سكن الله، وبهذه الصفة هي أيقونة الكنيسة وصورة هيكل الله الجديد.

 

أمام كلّ هذا الإعلان، أعطت مريم جواب الإيمان والرجاء والحبّ: "أنا أمةُ الربّ فليكن لي بحسب قولك" (الآية 38). فكرّست جسدها وعقلها وإرادتها وقلبها لتصميم الله ولخدمة ابنها الإلهي. ورافق هذا التكريس كلّ مراحل حياتها حتى أقدام الصليب. إنّها مثال الأمانة والثبات لكلّ مؤمن ومؤمنة،  ولكلّ مكرَّس ومكرَّسة.

*   *   *

صلاة

أيّها الربّ يسوع، لقد احتجْتَ لموآزرة الإنسان من أجل تحقيق تصميم الخلاص: يوحنا السابق والمعمِّد، ومريم ويوسف. ودعوْتَ الكثيرين إلى أدوار يتواصل بواسطتها تحقيق هذا التصميم الإلهي. أشرِكْنا معهم، واكشف لكلّ واحد وواحدة منّا الدور المطلوب منه والذي تختاره أنت، وساعدنا بنعمتك للقيام به.

ويا مريم، أمّ يسوع وأمّنا، نوِّري دربنا بمَثَل حياتك وساعدينا لكي نظلّ مثلك أمناء لكلّ وعد قطعناه، ولكلّ مسؤوليّة قبلناها سواء في الكنيسة، أم في العائلة، أم في المجتمع، أم في الدولة. ولتكن حياتُنا نشيد تعظيم للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد آمين.