لبنان
25 تموز 2022, 05:00

الرّاعي: إذهبوا وابحثوا في مكان آخر عن العملاء وأنتم تعلمون أين هم ومن هم

تيلي لوميار/ نورسات
مع الوفود الّتي أمّت الصّرح البطريركيّ في الدّيمان من مختلف المناطق اللّبنانيّة، رفع البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي الصّلاة من أجل حماية الهويّة المسيحيّة، بخاصّة بعد ما تعرّض له المطران موسى الحاج عند حدود لبنان الجنوبيّة أثناء قيامه برسالته، فترأّس القدّاس الإلهيّ في كنيسة الدّيمان ألقى خلاله عظة على ضوء الآية "سأجعل روحي عليه فيبشّر الأمم بالحقّ" (متّى 10: 18)، وقال:

 "1. هذه نبوءة قالها أشعيا النّبيّ في منتصف سنة 500 قبل المسيح، فتمّت في شخص يسوع. إبن الله المتأنّس، إذ ملأ الرّوح القدس بشريّته، وجعله مسيحًا مرسَلًا من الآب ليبشّر الأمم بالحقّ ولاسيّما بحقيقة الخلاص. إتّخذ صورة خادم لهذه الغاية. فأحبّه الآب ورضيَ عنه. إنّه صاحب هويّة ورسالة أشرك فيهما بواسطة المعموديّة ومسحة الميرون جسده السّرّيّ، الّذي هو الكنيسة. الهوّيّة هي مسحة الرّوح القدس، والرّسالة هي التّبشير بالحقّ وبحقيقة الخلاص والعمل على تحقيقه. وها الكنيسة، بكلّ أبنائها وبناتها، ومؤسّساتها الرّوحيّة والرّاعويّة، التّربويّة والاستشفائيّة، الإنسانيّة والإنمائيّة، وأجهزتها ومنظّماتها الاجتماعيّة تعمل لخلاص الإنسان بكلّ أبعاده. فباتت الكنيسة علامة رجاء للجميع.  

2. يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، وقد توافدتم من مختلف المناطق اللّبنانيّة ومن بينكم أهالي شهداء تفجير مرفأ بيروت الـ232، الّذين نحمل قضيّتهم في قلبنا وصلاتنا وعملنا اليوميّ وصولًا إلى الحقيقة الكاملة. جئنا وإيّاكم للصّلاة من أجل حماية هويّتنا المسيحيّة الّتي نلناها بمسحة الميرون، ومنحتنا حرّيّة أبناء الله كرسالة. هذه الحرّيّة– الرّسالة دافع عنها بطاركتنا القدّيسون في قعر هذا الوادي المقدّس، في دير قنّوبين طيلة أربعماية سنة، في كامل عهد العثمانيّين، حيث صمدوا بالصّبر والصّلاة من أجل حماية الأغلى عند الموارنة: الإيمان الكاثوليكيّ، والحرّيّة، والاستقلاليّة، وجعلوا هذه الثّلاثة رسالتهم. ولمّا اهتزّت الهويّة والرّسالة بسبب ما جرى على حدود لبنان الجنوبيّة في بداية هذا الأسبوع من تعرّض لسيادة أخينا المطران موسى الحاج أثناء قيامه برسالته، أتيتم إلى هذا الكرسيّ البطريركيّ في الدّيمان لتعلنوا إدانتكم وشجبكم ورفضكم لكلّ ما جرى، إلى جانب الكثيرين من رسميّين وحزبيّين ومواطنين أمّوا هذا الصّرح البطريركيّ، أو الّذين اتّصلوا بنا مستنكرين من لبنان والخارج وفي مقدّمتهم فخامة رئيس الجمهوريّة، ودولة رئيس حكومة تصريف الأعمال والمكلّف بتشكيل حكومة جديدة، وسيادة السّفير البابويّ.

3. سأجعل روحي عليه، فيبشّر الأمم بالحقّ (متّى 12: 18).

طبّق متّى الإنجيليّ نبوءة أشعيا على يسوع، وهي تبدأ بإعلان من الآب عن يسوع الّذي أرسله خادمًا: "هوذا فتاي- خادمي، الّذي سُرّت به نفسي". يسوع هو ابن الآب الحبيب الّذي أرسله وجاد به، ليكون فاديًا للإنسان ومخلّصًا للعالم. ولهذا سُرّت به نفسه، لكونه يتمّم مشيئته ويظهر حبّه اللّامحدود لبني البشر. إنّه مع الآب على فكر واحد وفعل واحد وقرار واحد.

وتعلن النّبوءة هويّته:"سأفيض روحي عليه"، وهي مسحة الرّوح القدس الّذي سيملأ كيانه البشريّ، ويجعله مسيحًا. وتعلن رسالته: "فيبشّر الأمم بالحقّ"، كاشفًا حقيقة الله والإنسان والتّاريخ. هذه الحقيقة تحرّر وتخلّص وتوحّد.

4. هاتان الهويّة والرّسالة تقتضيان منّا نهجًا، حدّده أشعيا في نبوءته باثنتين: الوداعة بروح سلامي في الاعتصام بالحقّ والعدل: "لا يخاصم ولا يصيح ولا يُسمع صوته في الشّوارع" (متّى 12: 14)؛ والمحافظة على الضّعيف ومساعدته لينهض من معاناته الجسديّة والمادّيّة والرّوحيّة والأخلاقيّة: "قصبة مرضوضة لا يكسر، وفتيلًا مدخّنًا لا يُطفئ" (متّى 12: 20). وهكذا، نشكّل، كما يريدنا المسيح الرّبّ "علامة رجاء للجميع"، إذ نسير بالحقّ والعدل حتّى النّصر (راجع متّى 12: 20).

5. نحن المسيحيّين، أينما كنّا، وعلى الأخصّ في لبنان وبلدان الشّرق الأوسط، مؤتمنون على هذه الهويّة والرّسالة. وعلى ثقافة الإنجيل وكرامة الإنسان وقدسيّة الحياة البشريّة. فلا نستطيع إلّا أن ننفتح بشكل دائم لعمل الرّوح القدس، الّذي يقدّسنا وينقّي هويّتنا، ويوجّه رسالتنا الّتي لا تقتصر على القطاع الرّوحيّ والدّينيّ، بل تنبسط إلى العائلة والمجتمع والدّولة.

فالرّسالة في الدّولة هي ممارسة السّلطة السّياسيّة والعمل السّياسيّ والحزبيّ من أجل تأمين الخير العامّ، على جميع المستويات، ومن أجل تعزيز الاقتصاد الوطنيّ، وإعطاء الجميع، وبخاصّة الأجيال الطّالعة أملًا بمستقبل أفضل وفرص عمل في وطنهم وتحفيز قدراتهم وإبداعهم. هذا يعني أنّ الهدف من العمل السّياسيّ هو الإنسان، لا بالمطلق، بل هذا الإنسان المواطن.

6. نحن من جهتنا ككنيسة لن نتخلّى عن إنسانيّتنا وعن خدمة هذا الإنسان الذي بقربنا، مهما كلّف الأمر. لقد آن الأوان لتغييرِ هذا الواقعِ الطّافحِ بالأحقاد والكيديّات، والمكتَظّ بالسّلوكيّاتِ المعيبةِ بحقِّ القائمين بها أوّلًا. لا يُبنى لبنانُ ولا يَنمو ولا يتوحَّدُ بهذا النّهجِ المنحَرِفِ عن قيمِ شعبِه ومجتمعِه وتاريخِه. ويا ليتَ الّذين يَقترفون هذه السّلوكيّاتِ ويُفبرِكون الملفّات يتَّعظِون ممّن سبقَهم، ومن تجاربِ الماضي القريبِ والبعيد، الّتي أظهرَت أنّ ما عدا الأمنِ والحرّيّةِ والمحبّةِ والكرامةِ لا يَنبُتُ في تُربةِ لبنان، وأنّ ما عدا الصّالحين لا يدخلون تاريخَ لبنان الحضاريّ المشرّف.

عبثًا تحاول الجماعةَ الحاكمةَ والمهيمنةَ تحويلِ المدبَّر الّذي تعرّضّ له سيادةُ المطران موسى الحاج من اعتداءٍ سياسيٍّ والّذي انتهك كرامة الكنيسة الّتي يمثّلها، إلى مجرّد مسألةٍ قانونيّةٍ هي بدون أساس لتغطيةِ الذَّنبِ بالإضافة إلى تفسيرات واجتهادات لا تُقنع ولا تُجدي. وإن كان هناك من قانون يمنع جلب المساعدات الإنسانيّة فليبرزوه لنا  

ومن غير المقبول أن يخضع أسقف لتوقيف وتفتيش ومساءلة من دون الرّجوع إلى مرجعيّته الكنسيّة القانونيّة، وهي البطريركيّة. وبهذا النّقص المتعمّد إساءة للبطريركيّة المارونيّة، وتعدٍّ على صلاحيّاتها. نحن نرفض هذه التّصرّقات البوليسيّة ذات الأبعاد السّياسيّة الّتي لا يجهلها أحد، ونطالب بأن يُعاد إلى سيادة المطران موسى الحاج كلّ ما صودر منه: جواز سفره اللّبنانيّ، وهاتفه المحمول، وجميع المساعدات، من مال وأدوية، كأمانات من لبنانيّين في فلسطين المحتلّة والأراضي المقدّسة إلى أهاليهم في لبنان من مختلف الطّوائف. هذا ما كان يفعله الأساقفة الموارنة أسلافه على مدى سنوات، وما يجب عليه هو أن يواصله في المستقبل. وأنتم أيّها المسيئون إلى كرامة اللّبنانيّين كفّوا عن قولكم إنّ المساعدات تأتي من العملاء، واذهبوا بالأحرى وإبحثوا في مكان آخر عن العملاء، وأنتم تعلمون أين هم، ومن هم.

7. إنَّ الدّورَ الّذي يقوم به راعي أبرشيّةِ الأراضي المقدّسّةِ عمومًا ليس دينيًّا وإنسانيًّا فحسب، بل هو دورٌ وطنٌّي أيضًا، إذ يحافظُ على الوجودِ المسيحيِّ والفِلسطينيِّ والعربيِّ في قلبِ دولةِ إسرائيل، ويَستحِقُّ الإشادةَ به ودعمَه لا التّعرّضَ لكرامته ورسالته المشرّفة. إنَّ الوجودَ المارونيَّ في فِلسطين يعود إلى الأزمنةِ الأولى لبروزِ جماعةِ مارون. ولَعِب الموارنةُ هناك دورًا أساسيًّا في تعزيزِ الهُويّةِ الوطنيّة، وكانوا رسلَ خيرٍ بين جميعِ الأديان، وظلَّ اسمُهم بَهيًّا ورفيعًا ومحطَّ تقديرٍ من إخوانِهم في الطّوائف الأخرى.

8. إنَّ البطريركيّة المارونيّة صامدةٌ كعادتِها على مواقفِها وستُتابع مسيرتَها مع شعبِها، معكم أنتم الّذين هنا والّذين هناك، ومع سائر اللّبنانيّين لإنقاذِ لبنان بالاستناد إلى منطلقاتِ الحِيادِ الإيجابيّ النّاشط واللّامركزيّةِ الموسّعةِ وعقدِ مؤتمرٍ دُوَليٍّ خاصٍّ بلبنان لبتّ المسائل المسمّاة "خلافيّة"، ويعجز اللّبنانيّون عن حلّها. البطريركيّة المارونيّة تُحبّ جميعَ اللّبنانيّين تُعاهِدُهم كعادتِها بالوقوفِ إلى جانبِهم مهما عَصفَت التّحدّيات واشتدّت الصّعوبات من أجل أن يحيا لبنان الحبيب، إذ يَكفي اللّبنانيّين عذابات. فما تَعذّب شعبُ لبنان وذُلَّ مثلما يَتعذّبُ ويُذَلُّ في هذه السّنوات. لذلك، سنواصل الدّعوةَ الحثيثةَ إلى تشكيلِ حكومةٍ جديدةٍ بأسرعِ ما يمكن، وانتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجُمهوريّةِ في المُهلِ الدّستوريّة. إنَّ لبنانَ يَستحقُّ حكومةً جديدةً ورئيسًا جديدًا.

وإنّنا نضع هذه الأمنيات في عهدة أمّنا مريم العذراء، سيّدة لبنان وسيّدة قنوبين، وأبينا القدّيس مارون وقدّيسيناـ ومعهم نرفع نشيد المجد والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".

وبعد القدّاس استقبل البطريرك الرّاعي الشّخصيّات المشاركة في القدّاس وخرج إلى الشّرفة المطلّة على الباحة الخارجيّة محاطًا بنوّاب التّكتّل وخاطب الوفود الشّعبيّة الّتي فاق عددها الألفين قائلاً: "أوّل كلمة سأقولها البطريرك صفير حيّ فينا، كلّ البطاركة أحياء فينا، كونهم تناولوا نفس اللّغة الّتي أتحدّث بها اليوم، هذه ثقافتنا الّتي لا نتراجع عنها على الإطلاق، أحيّيكم وأشكر حضوركم اليوم هذا الحضور المعبّر عن رفضكم واستيائكم وإدانتكم للإهانة الّتي تعرّض لها زميلنا موسى الحاج وهي إهانة للكنيسة المارونيّة، هو إهانة للبطريركيّة المارونيّة كون القوانين تقتضي بأنّ أحدًا غير قادر على محاكمة أو مساءلة أو تفتيش أو إيقاف أسقف أو كاهن أو راهب أو راهبة دون استئذان البطريرك، هذه إهانة شخصيّة لي، طبعًا نحن نطالب معكم بضرورة استرجاع كلّ ما صادروه، نطالب بتسليم المطران الحاج كلّ ما تمّ مصادرته أوّلاً جواز سفره اللّبنانيّ، هاتفه الخليويّ إضافة إلى كلّ المساعدات الماليّة والأدوية والّتي تمّ إرسالها من اللّبنانيّين في الأراضي المقدّسة إلى أهاليهم من كلّ الطّوائف وهي أمانة عليه توصيلها لأصحابها، ومن ثمّ نقول لهم ونكرّر بأنّ المطران سيواصل عمله كون ما يقوم به من دور يعتبر رسالة".

وتابع البطريرك الرّاعي: "ونقول لهم "وليس نطلب ونرجو" ممنوع إيقافه ومساءلته على الحدود اللّبنانيّة هذه الحادثة لم نتعرّض لها من قبل في العهود السّابقة وفي عهد المطارنة الّذين تعاقبوا على هذه الكرسيّ، من وقت ما كانت صور والأراضي المقدّسة أبرشيّة واحدة على أيّام المجمع اللّبنانيّ 1736 وصولاً إلى اليوم".