الرّاعي التمس من إهدن شفاعة الدّويهيّ من أجل كنيسة لبنان وشعبه
بعد الاستقبال، سار الرّاعي مع المؤمنين إلى كنيسة مار جرجس إهدن، حيث ضريح الطّوباويّ الدّويهيّ، وفيها ترأّس القدّاس الإلهيّ عاونه فيه النّائب البطريركيّ العامّ على نيابة إهدن- زغرتا المطران جوزيف نفّاع، والنّائب البطريركيّ للشّؤون القانونيّة والقضائيّة والمشرف العامّعلى توزيع العدالة في الكنيسة المارونيّة المطران حنّا علوان، والنّائب البطريركيّ المطران الياس نصّار، ورئيس أساقفة أبرشيّة طرابلس المارونيّة المطران يوسف سويف، والمونسينيور إسطفان فرنجية، بمشاركة رئيس دير مار سركيس وباخوس في إهدن الأب زكّا القزي، ورئيس دير مار أنطونيوس- الجديده الأب سابا سابا، وكهنة نيابة إهدن- زغرتا ولفيف من كهنة ورهبان المنطقة والشّمامسة والإكليريكيّين، وبحضور عدد من الفعاليّات.
بعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظة بعنوان: "من أراد أن يتبعني، فليزهد بنفسه، ويحمل صليبه ويتبعني" (متّى 16: 24)، وقال:
"1.وقعت دعوة المسيح هذه في قلب الطّوباويّ إسطفان الدّويهيّ، الّذي تجمعنا هذا المساء، عشيّة ذكرى مولده في 2 آب 1630. لم تكن هذه الدّعوة، بالنّسبة إليه، عابرة، بل كانت دعوة حياة. الزّهد هنا لا يعني إنكار الذّات لمجرّد التّقشّف، بل هو التّحرّر من عبودية الأنا، والارتقاء إلى حبّ الله من دون قيد. الزّهد الحقيقيّ هو بداية السّير على درب المسيح، حيث يصبح حَملُ الصّليب طاعةَ محبّة، لا خضوعًا قاسيًا. الطّوباويّ البطريرك إسطفان زاهد بنفسه، وحمل صليبه، وتبع سيّده بثبات في جميع مراحل حياته.
2. يسعدني أن أحيّيكم جميعًا، وقد توافدتم من كلّ مكان، للاحتفال معنا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة التّي نكرّم فيها ذكرى مولد الطّوباويّ البطريرك إسطفان الدّويهيّ، ابن هذه المدينة إهدن، منبتِ البطاركة العظام والأساقفة والكهنة والرّهبان والرّاهبات والمؤمنين العلمانيّين، وأرضِ رؤساء الجمهوريّات، ورجال الثّقافة والسّياسة والشّأن العامّ.
3. الطّوباويّ البطريرك كان لاهوتيًّا متبحّرًا في العقيدة، كنسيًّا في العمق، مؤرّخًا دقيقًا، كاتبًا غزيرًا، ورجلًا يوازن بين الإيمان والعقل، بين التّقليد والتّجدّد. وكان مربّيًا للأجيال، ورائدًا في الدّفاع عن الهويّة المارونيّة، ومقاومًا لكلّ محاولة تفتيتٍ أو تشويهٍ. عاش كاهنًا قدّيسًا، وأسقفًا ورعًا مثقّفًا، وبطريركًا مدبّرًا شجاعًا، فأعلنته الكنيسة طوباويًّا، واليوم نواكب بالصّلاة دعوى رفعه قدّيسًا فوق المذابح في كنائس العالم.
4. وُلد في زمن الشّدائد والانقسامات، فحمل شعلة الإيمان والعِلم، وتربّى على التّقوى والصّلابة في الرّؤية. عاش في روميه، وتثقّف في جامعاتها، لكنّه ظلّ أمينًا لتراث كنيسته المارونيّة، وعاد ليصير أسقفًا وبطريركًا في أحلك الظّروف، وراح يكتب ويحفظ ويدوّن، حتّى صار حارس التّاريخ واللّاهوت واللّيتورجية في الكنيسة المارونيّة، حافظًا لتراثها، ومجدّدًا لليتورجيّتها، ومؤسّسًا لهويّتها الحديثة.
إنّ الكنيسة المارونيّة حين تقرأ سيرة قدّيسيها، لا تفعل ذلك لتذكّرهم فحسب، بل لتستدعي حضورهم الحيّ، وتعيد تقديمهم كشفعاء وقدوة. ففي قدّاس اليوم، نرفع صلاتنا شاكرين الله على نعمة الدّويهيّ، وملتمسين شفاعته من أجل كنيسة لبنان، وشعبنا المؤمن، ومؤسّساتنا الرّوحيّة، ليبقى نورُ الإيمان متّقدًا وسط ظلمات هذا الزّمان.
5. كيف نذكر الدّويهيّ، ولا نتذكّر رسالته الوطنيّة؟ كيف نحتفل به وننسى أنّه كان رجل دولة بامتياز، يكتب إلى قناصل الدّول، ويرعى شعبه في زمن الفقر والاحتلال؟
لقد كان صوتًا حرًّا في وجه القهر، وراعيًا جسورًا في زمن الانقسامات. كان يرى أنّ البطريركيّة المارونيّة ليست فقط مسؤوليّة كنسيّة، بل رسالة وطنيّة، وصوتًا للكرامة، وجسرًا للوحدة.
من هذا الوادي المقدّس الّذي أنجب الدّويهيّ، نرفع صلاتنا ليولد في لبنان اليوم رجال يعلون فوق الانقسامات، يحمون لبنان من شهوة السّلطة، من جفاف الضّمير، رجال يحكمون بالحقّ لا بالمصلحة، يقدّمون المصلحة العامّة، لا مصالحهم.
6. في ضوء كلمة الرّبّ في إنجيل اليوم: "من أراد أن يتبعني، فليزهد بنفسه، ويحمل صليبه ويتبعني" (متّى 16: 24)، نتساءل "ألا يحتاج لبنان اليوم قادة يزهدون بذواتهم، ويتبعون صوت الضّمير، صوت الله في أعماق نفوسهم؟ ألا نحتاج إلى زعماء وسياسيّين لا يبحثون عن النّفوذ بل عن النّهوض؟ ألا نحتاج إلى رجال دولة، لا رجال صفقات؟ إلى رجال فكر لا رجال مصالح؟ إلى رجال ضمير، لا أدوات تابعة؟
نحن نحتاج اليوم عودة روحيّة ووطنيّة، إلى بناء دولة تصان فيها الكرامة، ويعلوها الدّستور، ويكون فيها المسؤول راعيًا لا متسلّطًا، شريكًا لا خصمًا. هذا ما شهده التّاريخ في وجه الدّويهيّ، وما يجب أن نشهده اليوم في وجه كلّ مسؤول، في أيّ موقع كان.
7. لقد حدّد لنا الطّوباويّ البطريرك إسطفان الدّويهيّ هوّيتنا ورسالتنا. الهويّة هي فسيفساء الأديان والطّوائف، أيّ الوحدة في التّنوّع. أمّا الرّسالة فهي العمل معًا من أجل إكمال قيام الدّولة المدنيّة الّتي تفصل بين الدّين والدّولة، وتبقي قائمة العلاقة بين الدّولة وعقيدة كلّ دين، وتجعل أساسها العدالة والمساواة وإشراك مختلف المواطنين في مؤسّسات الدّولة. وعلى هذا الأساس تعود الثّقة بين جميع اللّبنانيّين، وتكون المواطنة حجر الزّاوية. فبدون هذه الثّقة تبقى الرّيبة هي الأساس، ويقود الشّكّ إلى أن يحتمي المواطنون بالطّائفة لا بالدّولة. أمّا تنقية الذّاكرة فتبقى المدخل الأساس إلى الثّقة بين المواطنين.
8. فلنصلّ، أيّها الإخوة والأخوات، كي يشرق فجر جديد على لبنان، وعلى كنيستنا، وعلى عائلاتنا. نصلّي من أجل شرقنا الجريح، من فلسطين إلى سوريا والعراق، ومن أجل السّلام في الأرض الّتي أحبّها الدّويهيّ وكرّس حياته لأجلها. ونرفع نشيد المجد والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس، إلى الأبد، آمين."