لبنان
15 آذار 2021, 06:00

الرّاعي: الجيش هو من شعب لبنان ولا يجوز وضعه في مواجهة شعبه

تيلي لوميار/ نورسات
على ضوء إنجيل شفاء المخلّع، قارب البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، خلال عظة قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في بكركي، بين الرّجال الأربعة الّذي أنوا بالمخلّع إلى يسوع إيمانًا منهم أنّه قادر على شفائه، والسّلطة في لبنان، انطلاقًا من فكرة أنّ "الرّجال الأربعة يمثلّون السّلطة في الدّولة الّتي لها مبرّر واحد لوجودها هو تأمين الخير العامّ الّذي منه خير كلّ مواطن وكلّ المواطنين"، فقال:

"1. لمّا سمع الرّجال الأربعة كلمة الله من فم يسوع في البيت بكفرناحوم، والجمع غفير، آمنوا بيسوع وأتوه بمخلّع، إيمانًا منهم أنّه قادر على شفائه. وللدّلالة على هذا الإيمان، "نبشوا السّقف ودلّوا السّرير الّذي كان المخلّع مطروحًا عليه، لمّا لم يستطيعوا الدّخول من الباب، فما كان من يسوع إلّا أن شفاه نفسًا وجسدًا، قائلًا له: "يا ابني، مغفورةٌ لك خطاياك" (مر 2: 5)، ثمّ "قم احمل سريرك واذهب إلى بيتك""(مر 2: 11).

ثلاثة مترابطة تنكشف لنا في هذه الآية الإنجيليّة: كلمة الله الّتي تولّد الإيمان، تجسيد الإيمان بالأفعال، الشّفاء بفضل إيمان الإنسان.

الصّوم الكبير هو زمن سماع كلمة الله ابتغاءً للإيمان، عملًا بقول بولس الرّسول: "الإيمان من السّماع" (روم 10: 17)، وزمن أعمال المحبّة والرّحمة على مثال الرّجال الأربعة.

2. فيما نحتفل معكم بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، نحيي ذكرى الأربعين لعزيزين علينا الأوّل هو المرحوم النّائب والوزير السّابق جان عبيد الّذي كانت تشدّه إلى البطريركيّة وإلينا روابط مودّة وتقدير واحترام. نجدّد التّعازي لزوجته السّيّدة لبنى إميل البستاني ولأولاده والأشقّاء والشّقيقات. نصلّي ملتمسين الرّاحة الأبديّة لنفسه ولعائلته وأنسبائه العزاء الإلهيّ.

والثّانية هي نسيبة لي المرحومة أنطوانيت رياشي الرّاعي، فأجدّد التّعازي لأبنائها وابنتها وشقيقها وشقيقتها وعائلاتهم. نصلّي لراحة نفسها في السّماء، ولعزاء أسرتها وأنسبائنا.

منذ يومين، الحادي عشر من آذار، أحيينا يوم المغترب. نذكر بصلاتنا كلّ مواطنينا الّذين اضطرّوا إلى الهجرة، والأوطان الّتي احتضنتهم، ونصلّي كي تستقيم الأوضاع عندنا ليتمكّن العديدون من العودة إلى رحاب الوطن.

3. نستنتج من آية شفاء مخلّع كفرناحوم أهمّيّة الإيمان بالمسيح مخلّص العالم وفادي الإنسان وميزاته. فالإيمان مدرسة حلول وبطولة وتضحيات. عندما لم يستطع الرّجال الأربعة الدّخول بالمخلّع من الباب، علّمهم إيمانهم "أن ينقّبوا السّقف فوق المكان الّذي كان فيه يسوع، ويدلوا المخلّع مع سريره". والإيمان فعل تحدٍّ حمل يسوع على تحقيق مبتغاهم. والإيمان عطيّة من الله، ما علينا إلّا أن نفتح عقولنا وقلوبنا لقبوله. وبما أنّ الإيمان يولد من سماع كلام الله، فهو جواب من المؤمن، يُترجم بالأعمال والمبادرات والمواقف.

4. بهذا الإيمان الجواب، أتى الرّجال الأربعة بالمخلّع إلى يسوع، وهم على يقين بأنّه سيشفيه. ففاجأ يسوع الجمع الحاضر بغفران خطايا المخلّع: "مغفورة لك خطاياك"، فيما هم كانوا ينتظرون شفاءه من الشّلل. أراد الرّبّ بذلك التّأكيد أنّ الإنسان لا يكون مشلولًا جسديًّا فقط، بل روحيًّا أيضًا من جرّاء الخطايا المتراكمة. فهذه تشلّ عقله عن الحقيقة، وإرادته عن فعل الخير، وقلبه عن أفعال المحبّة والرّحمة، وضميره عن سماع صوت الله في أعماقه. وقد أتى المسيح أرضنا، وهو الإله، لشفاء كلّ إنسان من شلله الدّاخليّ بغفران الخطايا وبثّ روح جديدة في أعماقه. ولكي يكشف للمشكّكين أنّ له سلطانًا لمغفرة الخطايا، أعطاهم البرهان الحسّيّ بقوله للمخلّع: "قم احمل سريرك واذهب إلى بيتك. فقام للوقت وحمل سريره ومضى" (مر2: 11-12). فكشف عن نفسه أنّه طبيب الأجساد والأرواح حقًّا، وكشف أيضًا أنّ الشّفاء المزدوج الّذي يجريه هو خلق جديد. بكلمته للمخلّع: "قم إحمل سريرك" أجرى الدّمّ في عروقه والحياة في جميع أعضائه، كذلك عندما قال له: "مغفورة لك خطاياك"، بثّ فيه روحًا جديدًا، لكي يبصر الحقيقة بعقله، ويلتزم فعل الخير بإرادته، ويحبّ بقلبه، ويصغي إلى صوت الله في أعماق ضميره.  

5. الرّجال الأربعة يمثلّون كلّ جماعة، في الكنيسة والعائلة والمجتمع، تتعاون وتتنظّم لمساعدة المرضى والفقراء وذوي الاحتياجات وكلّ محتاج، باسم الأخوّة الإنسانيّة، وبروح التّضامن الّذي يجعلنا نشعر أنّنا كلّنا مسؤولون عن كلّنا. إنّني أحيّي كلّ هؤلاء وأشكرهم على محبّتهم تجاه المحتاجين والفقراء. والرّجال الأربعة يمثلّون السّلطة في الدّولة الّتي لها مبرّر واحد لوجودها هو تأمين الخير العامّ الّذي منه خير كلّ مواطن وكلّ المواطنين. فالسّلطة مؤتمنة على المال العامّ ومرافق الدّولة ومرافئها، وعلى تنظيم مؤسّساتها الدّستوريّة وأجهزتها وإداراتها العامّة، وعلى تعزيز ميادين الاقتصاد والاجتماع والتّشريع والثّقافة، وعلى إجراء اتّفاقيّات تعاون اقتصاديّ وتجاريّ مع الدّول، وعلى تحقيق آمال أبناء الوطن وحقوقهم الأساسيّة، بتجرّد عن كلّ مصلحة شخصيّة أو فئويّة.  

6. إذا سلّطنا نور هذه الحقيقة على واقع الشّعب اللّبنانيّ والسّلطة السّياسيّة عندنا لوجدنا، من جهة، الشّعب رهينة صراعات أهل السّلطة الّذين أخذوا اللّبنانيّين رهائنَ ولا يُطلقون سَراحَهم رغم كلِّ الاستِغاثات الشّعبيّةِ والمناشداتِ الدّوليّة. وكأنّهم فقدوا الضّمير الوطنيّ والعاطفة. ولوجدنا، من جهة أخرى، أنّ السّلطة ترى شعبَها في الفَقرِ ولا تَكفيه، وفي الجوعِ ولا تُطعمه، وفي العَتمةِ ولا تُنيرُه، وفي الهِجرةِ ولا تَستعيدُه. وتراه صارخًا في الشّوارع ولا تُلبّي مطالبَه، وفي حالة البطالةِ ولا تَجِدُ له عملًا، وفي المحاكمِ ولا تَضمَنُ له عدالةً، وفي الهاويةِ ولا تَنتَشِلُه. وتراه في حالة الإفلاسِ ولا تُعوِّمُه، وفي الذُلِّ ولا تُعيدُ إليه كرامتَه. لسنا نفهم كيف أنّ السّلطة تحوّل الدّولة عدوّة لشعبها!  

7. لقد برهن شعب لبنان، بشبابه وكباره، من كلّ المناطق والانتماءات، عبر انتفاضته أنّه شعب يستحقّ وطنه. لكنّه مدعوّ ليناضل من أجل أن يستعيد لبنان هويّته الأصليّة كمجتمع مدنيّ، ومن أجل إفراز منظومة قياديّة وطنيّة جديدة قادرة على تحمّلِ مسؤوليّةِ هذا الوطنِ العريق وحكمِ دولته وقيادة شعبه نحو العلى والازدهار والاستقرار والحياد. إنّ شابّات وشبابَ لبنان الثّائرين هم أملُ الغد. لذا، ندعوهم إلى توحيدِ صفوفِهم وتناغمِ مطالبِهم واستقلاليّةِ تحرّكِهم، فتكون ثورتهم واعدة وبنّاءة. ولعلّهم بذلك يستحثّون الجماعة السّياسيّة وأصحاب السّلطة على تشكيل حكومة استثنائيّة تتمتّع بمواصفات القدرة على الإنقاذ وإجراء الإصلاحات، وتعمل في سبيل إنقاذ لبنان لا المصالح الشّخصيّة والحزبيّة والفئويّة. ما يقتضي اتّخاذ القرارات الجريئة على أساس من الحقيقة والمصلحة العامّة. إذا كان المسؤولون، بسبب انعدام الثّقة، عاجزين عن الجلوس معًا لمعالجة "النّقاط الخلافيّة" الّتي تراكمت حتّى الانفجار النّهائيّ اليوم، فلا بدّ من اللّجوء إلى مؤتمرٍ دوليّ برعاية الأمم المتّحدة، لإجراء هذه المعالجة، مثلما جرى في ظروف سابقة.

8. لكنّني أدعو أهل الثّورة إلى احترام حقّ المواطنين بالتّنقل من أجل تلبية حاجاتهم، وإلى تجنّب قطع الطّرقات العامّة، واستبدالها بمظاهرات منظّمة في السّاحات العامّة يعبّرون فيها عن مطالبهم المحقّة، وفقًا للأصول القانونيّة والحضاريّة. إنّهم بذلك يتجنّبون أيّ صدام مع الجيش والقوى الأمنيّة، ويقفون سدًّا منيعًا بوجه المتسلّلين المخرّبين. ولقد أسفنا جدًّا لوقوع "ضحيّتين" على أوتوستراد البترون في أوّل الأسبوع هما الشّابّان المرحومان الياس مرعب ونعمه نعمه من زغرتا العزيزة. نصلّي لراحة نفسيهما ونجدّد التّعازي لأهلهما الأحبّاء.

9. مثلما نتفهّم غضبَ الشّعبِ نتفهّم أيضًا تذمّرَ المؤسّسةِ العسكريّة. فالجيشُ هو من هذا الشّعب، ولا يجوز وضعه في مواجهةِ شعبِه. والجيشُ هو من هذه الشّرعيّة، ولا يحقّ لها إهمال احتياجاته وعدم الوقوف على معطياتِ قيادتِه ومشاعرِ ضبّاطِه وجنودِه. والجيشُ هو القوّةُ الشّرعيّةُ المُناطُ بها مسؤوليّةُ الدّفاعِ عن لبنان، فلا يجوزُ تشريعُ أو تغطيةُ وجودِ أيِّ سلاحٍ غيرِ شرعيٍّ إلى جانب سلاحِه. والجيشُ هو جيشُ الوطنِ اللّبنانيّ كلّه، ولا يحقّ أن يَجعلَه البعضُ جيشَ السّلطة. والجيشُ هو جيشُ الدّيمقراطيّةِ ولا يحقّ لأحد أن يحوّلَه جيشَ التّدابيرِ القمعيّة. والجيش بكلّ مقوّماته هو رمز الوحدة الوطنيّة ومحقّقها. بالمحافظة عليه، نحافظ على الوطن وسيادته وحياده الإيجابيّ، وعلى الثّقة بين أطيافه، والولاء له دون سواه.  

10. ونتفهّم أيضًا دعوة وزير التّربية والتّعليم العالي لتعليق الدروس في المدارس، بالتّوافق مع ممثّلي العائلة التّربويّة، بسبب التّلكّؤ بتلبية المطالب المحقّة الّتي تؤمّن استمراريّة القطاع التّربويّ في ظلّ الأزمات المتلاحقة الّتي تستدعي الإسراع في وضع حدّ لها، لذا من واجب المعنيّين بالشّأن العامّ إعطاء القطاع التّربويّ الاهتمام الّذي يستحقّه، وبخاصّة ما يتعلّق بتأمين اللّقاح للمعلّمين والمعلّمات والإداريّين والتّلامذة. ونطالب مجدّدًا بالدّعم الماليّ لجميع مكوّنات الأسرة التّربويّة، وبخاصّة موافقة مجلس النّوّاب على مشاريع القوانين الّتي تقدّمت والّتي من شأنها أن تؤمّن بعض الارتياح للأهل وبعض رواتب المعلّمين وبالتّالي استمراريّة المؤسّسات، لأنّ انهيار التّعليم لا سمح الله يعني انهيار الوطن.

11. نسأل الله أن يقبل مقاصدنا لمجده تعالى وخلاص النّفوس وخير وطننا وشعبنا. له المجد والشّكر، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."