لبنان
14 آذار 2022, 06:00

الرّاعي: المطلوب إبعاد الأطماع السّياسيّة عن التّربية وترك المجال لأهل الاختصاص

تيلي لوميار/ نورسات
"تمثّل المرأة النّازفة كلّ إنسان ينزف من جرّاء معاناة في جسده أو روحه أو معنويّاته أو أخلاقه. وتمثّل كلّ مجتمع ينزف في حضارته وتقاليده وقيمه، وكلّ وطن ينزف في سيادته وهويّته واقتصاده وأمنه وكرامته. إنّ شفاءها هو ضمانة لشفاء كلّ شخص منّا، وشفاء مجتمعنا ووطننا". بهذه الكلمات وضع البطريرك المارونيّ الكاردنيال مار بشارة بطرس الرّاعي الأصبع على الجرح في عظة قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في بكركي، مطلقًا مجموعة من النّداءات، فقال:

"1. للمرأة النّازفة الّتي لمست طرف ثوب يسوع، يقينًا منها أنّها إذا فعلت تشفى من نزيف دمها، وهكذا حصل، قال يسوع: "تشجّعي، يا ابنتي، إيمانك خلّصك، إذهبي بسلام" (لو 8: 48). هذا هو الإيمان الصّامت المشتعل في قلبها. وليائيرس، رئيس المجمع، الّذي تبلّغ، وهو في الطّريق مع يسوع، أنّ إبنته ماتت، وليس من حاجة لإزعاج المعلّم، قال يسوع: "لا تخف، يكفي أن تؤمن، فتحيا ابنتك"( لو 8:  50). هذا هو الإيمان الّذي "يرجو ضدّ كلّ رجاء" (روم 4: 18).

يتّضح من هاتين الآيتين أنّ الله يقرأ في قلوبنا. قرأ يسوع إيمان المرأة النّازفة الّتي لمست بصمت طرف ثوبه، فكانت صلاتها الصّامتة ناطقة في نيّتها وفعلتها. وقرأ إيمان يائيرس الّذي جثا وتوسّل إليه أن يدخل بيته ليشفي إبنته المشرفة على الموت. فكانت صلاته النّاطقة صامدة في إيمانه الّذي لم يتزعزع عندما بلغه خبر موتها، وعندما دعاه يسوع لعدم الخوف بل للرّسوخ في الإيمان.

نلتمس اليوم من الله عطيّة الإيمان وروح الصّلاة. إنّهما لغتنا مع الله.

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، ويطيب لي أن أحيّيكم جميعًا، وعلى الأخص اتّحاد لجان الأهل للمدارس الكاثوليكيّة في كسروان الفتوح وجبيل. أحيّي رئيس الاتّحاد السّيّد رفيق فخري وأعضاء الهيئة الإداريّة والهيئة العامّة. وأوجّه تحيّة خاصّة إلى الآباء إخوتي في الرّهبانيّة المارونيّة المريميّة، الممثّلين بشخص النّائب العامّ الأب إدمون رزق. وأهل المرحوم الأباتي أنطوان صفير، الرّئيس العامّ الأسبق. وقد ودّعناه معهم بكثير من الأسى والرّجاء منذ ثلاثة أسابيع. إنّا نقدّم هذه الذّبيحة الإلهيّة لراحة نفسه ولعزاء أبناء الرّهبانيّة المارونيّة المريميّة وأهاليه وأنسبائه.

3. تمثّل المرأة النّازفة كلّ إنسان ينزف من جرّاء معاناة في جسده أو روحه أو معنويّاته أو أخلاقه. وتمثّل كلّ مجتمع ينزف في حضارته وتقاليده وقيمه، وكلّ وطن ينزف في سيادته وهويّته واقتصاده وأمنه وكرامته. إنّ شفاءها هو ضمانة لشفاء كلّ شخص منّا، وشفاء مجتمعنا ووطننا.

4. أتت المرأة خلسةً من وراء يسوع وبين الجمع الغفير، لتلمس طرف ثوبه وتشفى، لأنّ الشّريعة القديمة كانت تعتبر نزيف المرأة نجاسة، وتمنعها من لمس أيّ شيء لئلّا يتنجّس، وتمنع أيّ شخص من لمسها لئلّا تنتقل إليه النّجاسة (راجع لاويين 15: 25-27). فأملى عليها إيمانها أن تلمس طرف رداء يسوع، بنيّة الشّفاء. النّيّة أساسيّة في الصّلاة وفي كلّ عمل صالح، لأنّها تحدّد الغاية والهدف وتوصيف العمل، وتُعطي قيمة ومعنى لكلّ صلاة وعمل. فهي التّعبير عن مكنونات القلب والفكر، وعن الإرادة الدّاخليّة.

لم تخالف المرأة النّازفة الشريعة بلمس رداء يسوع، بل أتت بإيمان إلى ربّ الشّريعة لأنّه أقوى من حرفها الّذي يقتل. فالشّريعة هي للإنسان، لا الإنسان للشّريعة. لذا، أراد يسوع أن يكشف ذلك أمثولةً لجميع الأجيال.

5. آية قيامة ابنة يائيرس من الموت، تكشف مجموعة حقائق: تكشف قوّة إيمان يائيرس الّذي عرفه يسوع، وهو العارف بنوايا البشر. وتكشف أمانة يسوع لوعده، ولذلك أكمل طريقه، على الرّغم من موت ابنته الصّبيّة. وتكشف عطيّة الله الّتي لا تُقاس. لم يطلب يائيرس من يسوع أن يُقيم ابنته من الموت، ولم يفكّر بذلك. بل كانت المبادرة من يسوع، للدّلالة على تعاطفه الإنسانيّ، ولتشديد الإيمان به والرّجاء بوعده الخلاصيّ. وتكشف قدرة يسوع على أنّه يقيم على الأخصّ من الموت الرّوحيّ والمعنويّ، ومن حالة الخطيئة واليأس.

6. يعاني المواطنون، عندنا في لبنان، فوق فقرهم وبطالتهم وتدنّي رواتبهم، من عشوائيّة مصرفيّة واقتصاديّة وتجاريّة وسياحيّة من دون رقابة أو رادع. وكأنّ التّشريع الماليَّ في هذه القطاعاتِ أمسى هو أيضًا مستقلًّا عن قوانينِ الدّولة وعن قوانين النّد والتّسليف. فمِن حجزِ الأموال، إلى فِقدانِ الدّولار، إلى تقنينِ السّحبِ باللّيرة، إلى تلاعبِ الصّرّافين بجميعِ العُملات، إلى منعِ التّحاويلِ لتغطيةِ الضّرورات، إلى قَبول بطاقاتِ الائتمان مع زيادةٍ على قيمة الفاتورة، إلى رفضِ الدّفعِ ببطاقاتِ الائتمان، إلى فرضِ الدّفعِ نقدًا. إنّه النّزيف الماليّ والمعيشيّ والاجتماعيّ. لا تستطيع الحكومة معالجة هذا الوضع العشوائيّ إلّا بإحياء الحدّ الأدنى من النّظام الماليّ، وضبط مداخيل الدّولة بجباية الضّرائب والرّسوم من الجميع، وفي جميع المناطق اللّبنانيّة، وضبط مداخيل المطار والمرافئ والحدود، وإيقاف التّهريب دخولًا وخروجًا، واستثمار الأملاك البحريّة.

7. في هذا السّياق، سمعنا في هذين اليومين الأخيرين صرخة المعلّمين في المدارس الخاصّة.

فهي اليوم تبدو عاجزة عن دفع الرّواتب بسبب امتناع المصارف عن قبول التّحويلات من حساباتها إلى حسابات المعلّمين. ما يجعل المدارس عاجزة عن الالتزام بعقود العمل المبرمة مع المعلّمين والموظّفين. وهذا يشكّل خطرًا وجوديًّا على كلّ مدرسة ومؤسّسة لا تملك سيولة كافية لدفع الرّواتب المتوجّبة عليها. وفي الوقت عينه لا يُسمح لأهالي الطّلّاب بسحب مبالغ تغطّي مصاريفهم الشّهريّه. وكم بالحريّ أقساط أولادهم المدرسيّة؟ وإن لم يسحب الأهل مبالغ نقديّة كافية، كيف للمدرسة أن تدفع رواتب المعلّمين والموظّفين؟ إنّها حلقه مفرغة يدورون جميعهم فيها.

المطلوب من المصارف ومصرف لبنان اعتبار الاقساط المدرسيّة أولويّة مطلقة لكونها تؤثّر على المجتمع ومستقبل البلاد والتّعليم. لذا يُطلب تمكين المؤسّسات التّربويّة من تسديد المستحقّات المتوجّبة عليها من المبالغ المودعه سابقًا في حساباتها أو بموجب شيكات يدفعها الأهل أو حوالات من الدّولة أو الجهات المانحة. فأيّ معلّم أو موظف يرتضي العمل إن لم يستطع الحصول على راتبه الّذي فقد أصلاً أكثر من 90 بالمئة من قيمته الفعليّة بسب انهيار سعر صرف العملة الوطنيّة؟ وكيف يمكن الاستمرار في العيش إن لم يحصل المودع على أموال نقديّة؟

8. وأيضًا في القطاع التّربويّ، الّذي هو الأساس في تكوين شخصيّة المواطن اللّبنانيّ، نحن حريصون على ألّا يفتح قرار مجلس شورى الدّولة الصّادر أمس الأوّل بشأن "المركز التّربويّ للبحوث والإنماء" بابًا للدّخول في دوّامة صراع جديد على رئاسة المركز. وقد يكون ذلك مدخلًا للبعض كي يتلاعبوا في مناهجنا اللّبنانيّة النّابعة من ثقافتنا وحضارتنا المكوّنة على حوض البحر المتوسّط. المطلوب إبعاد الأطماع السّياسيّة عن التّربية وترك المجال لأهل الاختصاص، بل تفويضهم رسميًّا بالتّعاون مع أصحاب الشّأن التّربويّ لصناعة مناهج وطنيّة ملائمة للتّطوّر التّربويّ والتّكنولوجيّ الحاصل في العالم.

9. إنّ حياد لبنان، الّذي هو من صلب هويّته، والقائم على عدم الدّخول في أحلاف ومحاور وصراعات سياسيّة وحروب إقليميّة ودوليّة، والّذي يقتضي أن تكون الدّولة قويّة بجيشها وأجهزتها الأمنيّة، لكي تفرض سيادتها في الدّاخل وفي الخارج إذ تحترم سيادة الدّول الأخرى، وتردّ كلّ اعتداء عليها بقواها الذّاتيّة. هذا الحياد يجعل لبنان صاحب رسالة. فيتعاطف مع قضايا حقوق الإنسان وحرّيّة الشّعوب، ويتّخذ مبادرات للمصالحة وحلّ النّزاعات، ويعمل من أجل السّلام والاستقرار. من هذا القبيل، وبإسم الإنسانيّة والملايين من سكّان أوكرانيا اللّاجئين إلى بلدان أخرى وسائرين نحو المجهول بحقيبة صغيرة، وبإسم الضّحايا والقتلى الّتي تقع على أرضها وأرض روسيا، نشجب هذه الحرب الرّوسيّة- الأوكرانيّة ونطالب بإيقافها. فلا نتيجة منها سوى القتل والدّمار والتّهجير والإفقار والتّجويع وإتلاف الثروة الطّبيعيّة وإذكاء الحقد والبغض والعداوة.

10. وبإسم الحياد نطالب بعودة النّازحين السّوريّين إلى وطنهم، لكي يحافظوا على ثروة أرضهم وثقافتهم وكرامتهم، ويواصلوا كتابة تاريخهم. إنّ عودتهم مرتبطة بقرار سياسيّ لبنانيّ وعربيّ ودوليّ، وقد فاق عددُهم المليونَ ونصفَ المليون أيّ نحو 35% على الأقلّ من سكّان لبنان. غياب هذا القرار بات يأخذُ طابَعَ مؤامرةٍ على كيانِ لبنان ووِحدتِه وهويّتِه وأمنِه. إنَّ حلَّ قضيّتهم يَستدعي العجلةَ، خصوصًا مع اندلاعِ الحربِ في أوكرانيا وبروزِ موجاتِ نزوحٍ جديدةٍ في أوروبا والعالم.

11. إنّنا نرفع صلاتنا إلى الله، مصدر كلّ سلام وأخوّة إنسانيّة، كي يزرع السّلام في القلوب، فيدرك حكّام الدّول أنّ مهمّتهم الأساسيّة تمتين أسس السّلام الدّاخليّ والخارجيّ. "طوبى لفاعلي السّلام، فإنّهم أبناء الله يدعون" (متّى 5: 9). بالسّلام على الأرض يتمجّد الثّالوث القدّوس الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."