لبنان
03 تشرين الثاني 2025, 06:00

الرّاعي: تُبنى الأوطان على إيمان أبنائها بالحقّ والعدالة والكرامة الإنسانيّة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس أحد تقديس البيعة في الصّرح البطريركيّ في بكركي، وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس ألقى عظة بعنوان "أنت هو المسيح ابن الله الحيّ" (متى 16: 16) قال فيها:

"عندما سأل يسوع تلاميذه، في قيصرية فيليبّوس: «وأنتم من تقولون إنّي هو؟» أجاب سمعان: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ» (متى 16: 15-16). فامتدح يسوع إيمانه الظّاهر في إعلانه، قائلاً: «طوبى لك يا سمعان بن يونا، فلا لحم ولا دم أظهر لك ذلك، بل أبي الذي في السّماء» (متى 16: 17).

بهذا الاعتراف العظيم، بدأ تاريخ الكنيسة. فقد وُلدت الكنيسة من إعلان الإيمان هذا، لا من نظامٍ أو فكرٍ بشريّ، بل من لقاء شخصيّ عميق بين المسيح والإنسان المؤمن. ولذلك قال له الرّبّ: «أنت الصّخرة (بطرس)، وعلى هذه الصّخرة أبني كنيستي». لقد جعل يسوع من هذا الإيمان أساسًا لبناء الكنيسة، ومن بطرس رمزًا للثّبات، ومن كلّ مؤمنٍ صادقٍ بالحقيقة حجرًا حيًّا في هذا البناء الإلهيّ.

في هذا الأحد المعروف بتقديس البيعة، تبدأ السّنة الطّقسيّة التي تدور فيها الكنيسة حول المسيح شمسها الرّوحيّة سنة كاملة، مثلما تدور الأرض حول الشّمس سنة كاملة، وتستمدّ منها النّور والحرارة والحياة للإنسان والحيوان والنّبات. هكذا الكنيسة تستمدّ من المسيح النّور والحياة، فيما هي تتأمّل في أسراره أسبوعيًّا على مدار السّنة في مختلف أطوار حياته: التّجسّد بدءًا من محطّاته الإعداديّة المعروفة بزمن المجيء والميلاد؛ حياته العلنيّة في زمن الصّوم وبشارة ملكوت الله؛ الفداء وسرّ الفصح في زمن الموت على الصّليب والقيامة؛ إرسال الرّوح القدس في زمن الكنيسة النّاشئة وانتشارها، وترقّب عودة المسيح بالمجد في نهاية الأزمنة المعروف بزمن الصّليب.

يسعدني أن أرحب بكم جميعًا للاحتفال بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة. وأوجّه تحيّة خاصّة لعائلة المرحوم ميلاد مسعود الذي ودّعناه منذ حوالي الشّهر مع أولاده وأشقائه وشقيقاته. وقد عرفناه مع المرحومة زوجته سهام عبدالله بو خليل أثناء خدمتنا الكهنوتيّة في رعيّة الضبية العزيزة. نذكره مع زوجته في هذه الذّبيحة الإلهيّة ونعزّي أسرته وأنسباءهم.

لقد آلمنا، كما جميع اللّبنانيّين، اغتيال الشّاب الطّالع إليو أبو حنّا على مدخل مخيّم شاتيلا الفلسطينيّ منذ أسبوع. فإنّا نعزّي والدَيه، ونصلّي لراحة نفسه، وندين أشدّ الإدانة هذا الاغتيال الغاشم.

"أنت المسيح ابن الله الحيّ" (متى 16: 16). جواب سمعان بطرس هذا لم يكن عبارة نظريّة أو فكرة فلسفيّة، بل إعلان إيمان حيّ بالمسيح. فالإيمان الحقيقيّ لا يُكتسب بالذّكاء، بل يوهب بالنّعمة. إنّه نور في القلب، لا مجرّد معرفة من العقل. من هذا النّور وُلدت الكنيسة وبدأ تاريخ الخلاص.

فكما أسّس المسيح كنيسته على إيمان بطرس، كذلك تُبنى الأوطان على إيمان أبنائها بالحقّ والعدالة والكرامة الإنسانيّة.

وكما قال الرّبّ: «على هذه الصّخرة أبني كنيستي»، كذلك الوطن يُبنى على صخرة القيم، لا على مصالح الأفراد أو الأحزاب.

الإيمان الذي أعلنه بطرس هو إيمان صادق وثابت، لا يتقلّب مع الظّروف، بل يصمد أمام العواصف. وهذا ما نحتاجه اليوم في لبنان: إيمان وطنيّ ثابت، يضع مصلحة الوطن فوق كلّ مصلحة، ويعتبر الإنسان أغلى من كلّ حساب.

لبنان يعيش مرحلة دقيقة: الاقتصاد منهك، المؤسّسات مشلولة، الشّعب يتألم، والمغتربون الذين يحملون صورة لبنان في العالم يطالبون بحقّهم المشروع في المشاركة بصنع القرار الوطنيّ.

فقانون انتخاب المغتربين، الذي أصبح حديث السّاعة في الحياة السّياسيّة اللّبنانيّة. فبحسب القانون رقم ٤٤/ وتحديدًا المادتين ١١٢ و١٢٢، خُصِّص للمغتربين اللّبنانيين ستة مقاعد في مجلس النّواب (واحد لكلّ قارة). لكنّ العديد من القوى الوطنيّة تطالب اليوم بحقّ المغتربين الكامل في انتخاب جميع النّواب الـ١٢٨، لا أن يقتصر تمثيلهم على ستة فقط.

فالمغترب اللّبنانيّ ليس مواطنًا من الدّرجة الثانية. بل هو ابن هذا الوطن، غادره مكرهًا أو ساعيًا وراء لقمة العيش، لكنّه بقي مرتبطًا به عاطفيًّا واقتصاديًّا وإنسانيًّا.

لقد ساهم المغتربون، وما زالوا، في دعم لبنان في أصعب الأوقات، بالتحويلات الماليّة، وبالمشاريع، وبالصّورة الإيجابيّة التي نقلوها عن بلدهم. فهل يُكافأون اليوم بتقليص حقّهم الدّستوريّ؟

إنّ تعطيل إدراج تعديل هذا القانون على جدول أعمال مجلس النّواب، وتأخير تطبيق حقّ الانتخاب الكامل، هو تراجع عن مبدأ المساواة والمواطنة بحسب الدّستور. فالوطن لا يقوم بالتّهميش، بل بالمشاركة الكاملة بين أبنائه المقيمين والمنتشرين.

ليست الكنيسة مبنيّة على صخرة من حجر، بل على صخرة الإيمان، والحقّ، والثّقة باللّه. هذه الصّخرة هي التي جعلت الكنيسة ثابتة على مرّ العصور، تسير بين الأزمات والاضطهادات، وتعزيات الله، فتبقى حيّة لأنّها مبنيّة على الحقيقة والمحبّة.

وكما تُبنى الكنيسة على الإيمان، هكذا أيضًا تُبنى الأوطان على الحقيقة والعدالة والضّمير. الإيمان الذي جعل بطرس قائدًا روحيًّا هو نفسه الإيمان الذي يُفترض أن يُلهم كلّ مسؤول وكلّ مواطن ليكون خادمًا للخير العام، لا لنفسه ولا لفئته. فالوطن الذي اهتزّت فيه القيم، وتزعزعت فيه الثّقة، بحاجة إلى من يُعيد بناءه على صخرةٍ جديدة، صخرة الحقّ والمساواة والمواطنة الصّادقة. وها الوطن ينتظر من المسؤولين القيام بالإصلاحات، وهي: الإصلاح السّياسيّ والدّستوريّ، الإصلاح الماليّ والنّقديّ والمصرفيّ، الإصلاح الإداريّ والبنى التّحتيّة، الإصلاح القضائيّ، والإصلاح الاجتماعي والانتاجيّ.

فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات: يا ربّ، في بداية هذه السّنة الطّقسيّة الجديدة، نرفع قلوبنا إليك. جدّد فينا الإيمان الذي أعلنَه بطرس، وثبّتنا على صخرة الإيمان والحقّ والرّجاء. بارك كنيستك، وقدّس شعبك، وانظر إلى وطننا لبنان، فامنحه قادة صادقين، ومؤسّسات أمينة، وشعبًا متماسكًا بالمحبّة، بارك أبناء لبنان المنتشرين في أصقاع الأرض، أشرق بروحك القدّوس على هذا الشّعب، وأعد إليه فرحه وإيمانه، لك المجد إلى الأبد. آمين."