الرّاعي: تكريس لبنان والشّرق لقلب مريم الطّاهر قوّة روحيّة تفتح أمامنا درب السّلام والرّجاء
وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظة بعنوان: "الحبّ الّذي وقع في الأرض الصّالحة أثمر مئة ضعف" (لو 8: 8)/ قال فيها:
"حضرة السّيّدة اللّبنانيّة الأولى،
1. إنّنا نرفع أسمى معاني التّرحيب بكِ وأنتِ معنا اليوم في الاحتفال الرّوحيّ واللّقاء الوطنيّ الّذي نكرّس فيه لبنان وبلدان الشّرق الأوسط لقلب مريم الطّاهر. وأرحّب بممثّلي اصحاب الغبطة البطاركة والسّادة المطارنة والرّؤساء العامّين والعامّات والكهنة والرّهبان والرّاهبات والفعاليّات المدنيّة والعسكريّة والأخويّات وهذا العدد الكبير من المؤمنين.
2. إنّنا نستذكر اليوم السّعيد الذّكر البابا بندكتوس السّادس عشر الّذي دعا لهذا التّكريس، إيمانًا منه بأنّ قلب مريم هو الملاذ الأمين في قلب الأزمات والتّحدّيات. ورأى في هذا التّكريس، قوّة روحيّة تحافظ على رسالة الكنيسة في الشّرق، وتحمي شعوبنا من الانقسام واليأس، وتفتح أمامنا درب السّلام والرّجاء.
أمّا مناسبة الدّعوة فكانت انعقاد السّينودس الرّومانيّ الخاصّ بالشّرق الأوسط سنة 2012، فيما كان العالم العربيّ يتخبّط في الحروب المعروفة "بالرّبيع العربيّ"، الّذي رأينا فيه يومها بالأحرى "شتاءً عربيًّا". كان البابا بندكتوس، برؤيته النّبويّة، يرى في قلب مريم الطّاهر حضنًا يجمع، ونورًا يهدي، ودرعًا يقي. فالمريميّة ليست عاطفة شعبيّة فقط، بل هي لاهوت الخلاص الذّي يتجسّد في أمّنا مريم.
تكريس لبنان والشّرق الأوسط هو إعلان إيمان ونداء رجاء، بأنّ هذا القلب الطّاهر ما يزال ينبض حبًّا من أجلنا، وما زال يدعو المؤمنين للرّجوع إلى الله وإلى التّوبة والعدالة والسّلام. إنّ قلبها الطّاهر هو الحصن الأخير، والباب المفتوح على الرّجاء، وهو سرّ الثّبات وسط الغموض والفوضى.
3. على ضوء إنجيل زارع الحَبّ، كانت مريم "الأرض الصّالحة" الّتي قبلت في أحشائها الطّاهرة كلمة الله يسوع المسيح الّذي أعطى ثمرة الكنيسة، جماعة مؤمني ومؤمنات الأرض.
كلمة الله بحدّ ذاتها، حيّة وفاعلة وحاملة ثمار، لأنّها شخص المسيح، الإله الكامل والإنسان الكامل. لذلك تقتضي منّا سماعها، وحفظها في قلوبنا، والتّأمّل فيها، والعيش بمقتضاها. هذه الكلمة تشبه تلك الّتي تقع في الأرض الصّالحة فتثمر مئة، فالأرض الصّالحة تشبه كلّ إنسان يسمع الكلمة، ويحفظها في قلبه، ويتأمّل فيها، ويعيش بمقتضاها.
يحذّرنا الرّبّ يسوع من ثلاثة مواقف تجاه كلمة الله وهي: اللّامبالاة، والسّطحيّة، والانهماك بشؤون الأرض.
الأوّل، حالة اللّامبالاة، المتمثّلة بالحَبّ الّذي يقع على جانب الطّريق. هذه علامة الإهمال وعدم الاكتراث بالله وبكلام كتبه المقدّسة، وبالكنيسة وتعليمها. وهذا دليل عن عدم احترام الله والمسيح والكنيسة، وتعطيل لكلام الحياة، وبقاء في حالة الانحراف.
الثّاني، السّطحيّة، المتمثّلة بالحَبّ الّذي يقع على الصّخرة. هذه حالة العقول والقلوب المتحجّرة، الّتي لا تختزن أيّ عمق على مستوى التّفكير، ولا الاستعداد للتّعمّق في سرّ الله وسرّ الحياة ومعنى الوجود، وللتّساؤل حول الخير والشّرّ، وحول مصير الإنسان الأبديّ ودعوته ورسالته في حياته التّاريخيّة. إنّها حالة الّذين يعيشون ولا يطرحون على نفوسهم أيّ سؤال يذهب بهم إلى أبعد ممّا يرون ويفعلون. هؤلاء سطحيّون ولا يوجد عندهم أيّ عمق أو ثقافة روحيّة وأخلاقيّة. فتيبس عندهم كلمة الحياة حالًا بعد سماعها، إذ لا شيء عندهم يُنعشها.
الثّالث، الانهماك في شؤون الأرض، وكأنّها الغاية الوحيدة والهدف من الوجود. تتمثّل هذه الحالة بالحَبّ الّذي يقع بين الأشواك. هي حالة الّذين لا يهمّهم في الوجود سوى الأكل والشّرب واللّبس وتأمين المال وجمعه. هؤلاء يعيشون من الأرض وللأرض. فلا يعنيهم أيّ شيء آخر في كلّ ما يخصّ الله والكنيسة والمجتمع. يعيشون لنفوسهم، حاملين همومهم الشّخصيّة ومصالحهم ومشاريعهم، غير معنيّين بحاجات النّاس، وبالواجب تجاه الله والمجتمع. كلّ شؤون الأرض، بحلوها وبمرّها، تخنق عندهم كلام الله، وتسيطر على ما يقتضيه هو منّا، وما تقتضيه حياتنا الاجتماعيّة والوطنيّة.
4. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، من أجل تكريس لبنان وبلدان الشّرق الأوسط لقلب مريم الطّاهر، بحيث تقف كلّ دولة خاشعة أمام قلب مريم، وتعترف أنّ سلطتها لا تكتمل إلّا إذا تأسّست على الحقّ والخير والرّحمة. ونرفع نشيد المجد والشّكر لله الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."