لبنان
27 تشرين الأول 2025, 09:45

الرّاعي زار فتوح كسروان، فما كانت أبرز المحطّات؟

تيلي لوميار/ نورسات
حطّ البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، يوم السّبت، رحاله في فتوح كسروان، في زيارة راعويّة، استقبله خلالها كهنة الرّعايا وأبناؤها وفعاليّاتها، في مختلف محطّاتها، بفرح وترحاب ومحبّة وإيمان.

المحطّة الأولى كانت بمباركة مزار القدّيسة ريتا في غبالة، ثمّ بزيارة رعيّة العذراء والعازر حيث قدّم إبن البلدة النّائب السّابق منصور البون مفتاح البلدة إلى البطريرك الرّاعي، فيما قدّم النّائب السابق نعمة الله أبي نصر درعًا تكريميًّا إلى النّائب البطريركيّ العامّ على جونية المطران يوحنّا رفيق الورشا، عربون تقدير ومحبّة. ثمّ أُزيح السّتار عن اللّوحة التّذكاريّة لتخليد المناسبة، وسط تأكيد الرّاعي على أنّ "أبناء العذراء سيبقون مثالًا في الإيمان والتّجذّر والانتماء إلى الكنيسة والوطن."

المحطّة الثّالثة كانت في دير مار بطرس وبولس للرّهبنة اللّبنانيّة المارونيّة، ليكون الرّاعي ثالث بطريرك يزوره بعد البطريرك أنطوان عريضة عام 1935، والبطريرك نصرالله صفير. ومن هذا الصّرح أكّد الرّاعي أنّ "لبنان هو مشروع يُبنى كلّ يوم"، داعيًا إلى تعزيز الرّجاء والعيش المشترك كقيمة إنسانيّة وروحية تحفظ هويّة الوطن.

وقدّمت للرّاعي في ختام الزّيارة درعًا تذكاريّة وكتاب "تاريخ السّنديانة" من تأليف الأب الأباتي تابت، إلى جانب مجموعة كتب مختارة كعربون تقدير.

في محطّته الرّابعة ما قبل الأخيرة، زار الرّاعي مدرسة راهبات الحبل بلا دنس- غبالة، كان في استقباله الأمّ الرّئيسة الأخت غراسيا وعدد من الرّاهبات، والهيئة التّعليميّة، والطّلّاب، وكانت مجموعة من الكلمات التّرحيبيّة، توجّها الزّائر بالرّدّ شاكرًا معبّرًا عن تأثّره العميق بحفاوة الاستقبال، وقال: "المستقبل بيد الّذين يزرعون الرّجاء في القلوب. وأنتم، في رسالتكم التّربويّة والإنسانيّة، تزرعون هذا الرّجاء كلّ يوم. يجب أن نسير الطّريق سويًّا ونتحدّى الصّعوبات معًا. أنتم رهبنة لا غنى عنها في العمل الّذي تقومون به، ولا يسعنا إلّا أن نكون إلى جانبكم في هذه الرّسالة".

أمّا المحطّة الأخيرة فكانت بكنيسة سيّدة الشّقيف- غبالة، حيث دشّن الكنيسة واحتفل بالذّبيحة الإلهيّة، وألقى فيها عظة لخّصت فرحته بزيارته الرّاعويّة هذه، فقال:

"1.يسعدني أن أقوم بهذه الزّيارة الرّاعويّة بدءًا ببلدة غباله حيث كان لنا استقبال شعبيّ فأحيّي الكهنة والرّهبان والرّاهبات ورئيس البلديّة السّيّد طوني الحصري. وباركنا مزار القدّيسة ريتا. ثمّ زرنا بلدة العذرا. فأحيّيها وأشكرها على الاستقبال العاطفيّ برئاسة رئيس البلديّة السّيّد فيّاض كامل وأعضاء المجلس، وعلى تقديم مفتاح البلدة، مفتاح قلوبهم. وزرنا دير مار بطرس وبولس الخاصّ بالرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة، والمركز الثّقافيّ الدّينيّ. فنحيّي رئيسه حضرة الأب فؤاد زوين، والمكرّسين وطلّاب المركز والأساتذة. وأشكرهم وأهنّئهم على الثّقافة الدّينيّة الّتي يحصلون عليها، ويتثقّفون في الإيمان. ثمّ زرنا مدرسة دير راهبات الحبل بلا دنس غباله، وأشكر كاهن الرّعيّة الخوري غسّان عون على كلمة التّرحيب. وأحيّي رئيسة الدّير الأخت غراسيا Maggèse.وأقدّر العمل التّربويّ في المدرسة والرّسالة الّتي تقوم بها الرّاهبات.

2. وها نحن الآن في بلدة غباله من جديد. فأحيّيكم وأشكركم على الاستقبال الرّسميّ والشّعبيّ. في كنيسة سيّدة الشّقيف العجائبيّة الّتي نجّتكم من قنابل الحرب اللّبنانيّة الثّلاث. فسقطت القنبلة الأولى واستقرّت شظاياها في صدر العذراء. والثّانية سقطت على باب المغارة الأثريّة. والثّالثة في الأحراج المحيطة بكنيسة سيّدة الشّقيف، فاحترقت الأحراج، وبأعجوبة أطفأت النّار غيمة ظهرت في السّماء الزرقاء. فتعلّق المؤمنون بعذراء الشّقيف العجائبيّة.

لقد تمّ اكتشاف مغارة سيّدة الشّقيف سنة 1636. وفي سنة 1812 أوقف أولاد يزبك خيرالله أرزاقهم، وبنوا سنة 1899 ديرًا ومدرسة. وسبق وبنوا كنيسة مار سركيس وباخوس الرّعائيّة سنة 1780. وشيّد أبناء يزبك خيرالله كنيسة سيّدة الشّقيف على اسم العائلة.

3. "كنت جائعًا فأطعمتموني" (متّى 25: 35). إنجيل اليوم يضعنا أمام مشهدٍ فريد في بساطته وعظمته: مشهد المجيء الثّاني، حيث يجلس ابن الإنسان على عرش مجده، وتُجمع أمامه جميع الأمم، ويفصل النّاس بعضهم عن بعض كما يفصل الرّاعي الخراف عن الجداء. فالدّينونة العامّة ليست لحظة خوفٍ بل لحظة إعلان للحقيقة، حيث يُقاس الإنسان بميزان المحبّة، لا بالألقاب ولا بالمظاهر ولا بالمعتقدات، بل بما فعله من خيرٍ تجاه إخوته الصّغار.

المجيء الثّاني ليس حدثًا مؤجّلًا في نهاية الأزمنة فقط، بل هو حضور يوميّ للمسيح في وجوه الجياع والعطاش والعريانين والمهمَّشين الّذين يطرقون باب قلوبنا، فيمتحننا الرّبّ في كلّ لقاء، ليرى هل أحببنا حقًّا.

4. هنا، يربط يسوع خلاص الإنسان بمدى محبّته العمليّة والرّحيمة تجاه القريب. ليست المحاسبة على كثرة الكلام أو الصّلاة أو المظاهر، بل على مقدار المحبّة الّتي تتجسّد في أفعال ملموسة: هذه الأفعال ليست فقط مادّيّة، بل أيضًا روحيّة ومعنويّة.

فـ"الجائع" هو أيضًا الجائع إلى العدالة، إلى الكلمة الطّيّبة، إلى الرّجاء.

و"العطشان" هو أيضًا العطشان إلى الحقيقة، إلى المحبّة الصّادقة، إلى الكرامة.

و"العريان" هو أيضًا من جُرّد من احترامه ومن حقوقه.

و"الغريب" هو أيضًا من عاش غريبًا في بيته وبين أهله.

و"المريض" هو أيضًا من كُسرت نفسه وأُهينت كرامته.

و"السّجين" هو أيضًا من قُيّد بخطيئته أو بعزلته أو بظلمه.

إنّها قراءة لاهوتيّة عميقة تُظهر أنّ الدّينونة ليست فقط على ما فعلناه، بل على ما نفعله. فالشّرّ الأكبر ليس فقط أن نسيء، بل أن نقف متفرّجين على الألم دون أن نمدّ اليد.

وفي ضوء هذا الإنجيل، يتّضح أنّ الحساب الإلهيّ يقوم على الأمانة في المحبّة، لأنّ المحبّة هي العلامة الوحيدة الّتي يعرف بها الرّبّ خاصّته. من أحبّ أخاه فقد أحبّ الله، ومن تجاهله فقد تجاهل الرّبّ نفسه.

هكذا نفهم معنى المجيء الثّاني: ليس فقط حدثًا مستقبليًّا غامضًا، بل حضورًا يوميًّا في كلّ لقاء مع المحتاج والمتألّم، لأنّ المسيح حاضر في وجوههم، ينتظر أن نعرفه ونخدمه.

5. إنّ مجيء المسيح الثّاني ليس حدثًا أسطوريًّا بعيدًا في الزّمن، بل هو حقيقة إيمانيّة حاضرة في مسيرة كلّ إنسان. فكلّ مرّة نفتح فيها قلوبنا للمحبّة، نعيش عربون المجيء الثّاني، وكلّ مرّة نغلق قلوبنا أمام الآخر، نعيش حكم الدّينونة على أنفسنا.

المجيء الثّاني هو مجيء العدالة والرّحمة في آنٍ واحد، مجيء الحقّ الّذي يُشرق من وراء ظلال الأنانيّة والظّلم. وعندما يتكلّم يسوع عن مجيئه في المجد، فهو لا يقصد الخوف، بل الرّجاء العظيم بأنّ الخير سينتصر، والظّلم سينتهي، والدّمعة ستُمسح عن كلّ وجه.

الدّينونة العامة، كما يصفها الإنجيل، هي محاسبة على الأمانة في المحبّة. فكل إنسان هو وكيل على نعم الله في حياته: وكيل على وقته، على علمه، على خيره، على موقعه الاجتماعيّ والوطنيّ.

وسوف يُسأل في النّهاية: كيف استخدم هذه النّعم؟ هل شاركها مع من حوله؟ أم احتكرها لأنانيّته؟

فالله لا يحاسبنا على ما نملك، بل على ما أعطينا؛ لا على ما قلنا، بل على ما فعلنا؛ لا على عدد صلواتنا، بل على عمق محبّتنا.

6. إنجيل اليوم لا يخاطب فقط ضمائر الأفراد، بل أيضًا ضمير الأوطان والشّعوب.

فالدّينونة الّتي يتحدّث عنها المسيح، حين يأتي في مجده، لن تكون فقط على مستوى الأشخاص، بل أيضًا على مستوى المجتمعات الّتي ظلمت أو أغفلت أو قصّرت في خدمة الإنسان.

من هنا، يقف وطننا لبنان اليوم، وكأنّه أمام مرآة هذا الإنجيل: جائع إلى العدالة، عطشان إلى الحقيقة، مريض من الانقسام، وسجين في دوامة الأزمة، يئنّ من ثقل الفقر والتّهجير والخراب واليأس.

يسوع، في هذا الإنجيل، لا يوجّه اللّوم إلى من ظلم فقط، بل إلى من رأى ولم يتحرّك، إلى من امتلك القدرة على المساعدة واختار اللّامبالاة.

أيّها المسؤولون في هذا الوطن، إنّ الإنجيل اليوم يخاطبكم كما يخاطبنا جميعًا، ويدعوكم إلى أن تكونوا وكلاء أمناء على بيت الشّعب، على كرامة الإنسان اللّبنانيّ. المسيح لن يسألكم عن المناصب، بل عن الجائع الّذي لم يُطعم، والعطشان الّذي لم يُسقَ، والشّعب الّذي انتظر ولم يجد راعيًا أمينًا.

الوطن، مثل الكنيسة، هو بيعة الله في التّاريخ، ومَن أُقيم عليه، أُقيم ليخدم، لا ليتسلّط. إنّ الحكم في الدّينونة سيكون على قدر الأمانة، وقدر الخدمة، بنعمة الثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."