الرّاعي في العنصرة: تزامن عيدي تيلي لوميار والعنصرة علامة ورسالة ومجتمعنا اللّبنانيّ بحاجة إلى نفحة الرّوح القدس
بعد الإنجيل المقدّس، ألقى البطريرك الرّاعي عظة بعنوان: "أنا أسأل الآب فيعطيكم براقليطًا آخر مؤيّدًا يكون معكم إلى الأبد" (يو 14: 15)، قال فيها:
"1. وعدُ يسوع هذا لرسله الإثني عشر تمّ اليوم أحد العنصرة، بعد خمسين يومًا من قيامته من بين الأموات، إذ حلّ بشكل منظور عليهم. يخبر الحدث كتاب أعمال الرّسل. "فإذ كانوا مجتمعين، إذا صوت من السّماء كصوت ريح شديدة انفجر وملأ البيت... وظهر لهم شبه ألسنة من نار وتجزّأت واستقرّت على كلّ واحد منهم، فامتلأوا كلّهم من الرّوح القدس، وطفقوا ينطقون بلغات أخرى على حسب ما آتاهم الرّوح القدس أن ينطقوا" (أعمال 2: 1-4).
ثلاثة عناصر تشكّل العنصرة: الرّيح الشّديدة، والألسنة من نار، واللّغات المختلفة. هذه كلّها علامات حلول الرّوح القدس. يومها خرج الرّسل من عزلتهم كالنّسور يحملون بشرى قيامة المسيح إلى العالم كلّه، على هدي الرّوح القدس المؤيّد لهم إلى الأبد. إنّه البراقليط أيّ المعزّي والمدافع والمؤيّد، الّذي يجعل الإيمان، لا انتماء فحسب، بل حركة تنتقل من الخوف إلى الشّجاعة، ومن العزلة إلى الظّهور والجماعة، ومن التّقليد إلى الرّوح، ومن الصّمت إلى البشارة.
2. العنصرة بحلول الرّوح القدس هي آخر الأعياد السّيّديّة الأساسيّة: فالآب الخالق ومدبّر كلّ شيء، أرسل ابنه الوحيد فاديًا ومخلّصًا، وفي العنصرة يرسل الرّوح القدس ليحقّق نعم الفداء والخلاص في العالم وفي المؤمنين، وهكذا بات زمن العنصرة زمن الكنيسة السّائرة على وجه الأرض بهدي الرّوح القدس، موحّدًا إيّاها، بل هو ميلاد الكنيسة الّتي نزلت إلى ساحة العالم برسالتها السّماويّة الواحدة. نقيم اليوم رتبة السّجود للآب والإبن والرّوح القدس، كتعبير عبادةٍ يشترك فيها الرّوح والجسد للثّالوث القدّوس. كما نبارك المياه لتكون في بيوتكم بركة ونعمة.
3. يطيب لي أن أهنّئكم أيّها الحاضرون، ويا أيّها المشاركون عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ويا أيّها المنتشرون تحت كلّ سماء، بعيد العنصرة، بحيث تتحوّلون من جماعة منغلقة خائفة، إلى كنيسة مُرسَلة، منفتحة، حيّة، ناطقة بكلّ لغة، وشاهدة للقيامة.
وتحتفل اليوم بعيد ميلادها الخامس والثّلاثين محطّة تلفزيون تيلي لوميار وفضائيّاتها. فيسعدني أن أرحّب بأسرتها وإدارتها والقيّمين عليها والعاملين فيها والّذين يضحّون من مالهم في مساندتها. ليس صدفة تزامن ميلادها مع عيد العنصرة. أجل ليس صدفة بل علامة ورسالة. فتيلي لوميار منذ نشأتها حملت مشعل نور كلمة الإنجيل بالصّورة والصّوت، فجعلت من رسالتها الإعلاميّة خدمة إنجيليّة حيّة. ليست تيلي لوميار وسيلة إعلاميّة فحسب، بل منبر إيمان ومساحة صلاة، وجسر تواصل بين الكنيسة وشعبها وسائر الشّعوب في لبنان والعالم. لقد أضحت صوت من لا صوت لهم، وعين الحقيقة في زمن التّلاعب، وجسر وحدة بين الشّعوب. نورها الإعلاميّ ليس تقنيًّا فحسب، بل هو رسالة متكاملة في نقل الإيمان، وحمل صوت الكنيسة، وبناء الوحدة بين النّاس، كما فعل الرّوح القدس يوم العنصرة، حين جعل من كلّ لسان لغة مفهومة، ومن كلّ قلب مكانًا للّقاء.
لنصلِّ اليوم من أجل محطّة تيلي لوميار وفضائيّاتها، لكي يحفظها الله وسيلة أنجلة جديدة، ويقوّي العاملين فيها، ويجعل منها دومًا نورًا لا ينطفئ، ورسالة لا تتوقّف، وشهادة لا تخاف.
4. عيد العنصرة، هو عيد تجلّي محبّة الله. فالرّوح القدس هو المحبّة المتبادلة بين الآب والإبن، فلا يُعطى إلّا لقلوب محبّة. هذا ما أكّده الرّبّ يسوع في إنجيل اليوم بقوله: "إذا كنتم تحبّوني، تحفظون وصاياي. وأنا أسأل أبي أن يعطيكم برقليطًا آخر مؤيّدًا يكون معكم إلى الأبد" (يو 14: 15).
عندما نلتمس في ليتورجيا القدّاس حلول الرّوح القدس، لتأتي علينا وعلى القرابين الموضوعة، إنّما نطلب ليس فقط تحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، بل أن يحوّل كلّ واحد منّا، ويمسّ قلبه، ويشعل فيه نار المحبّة والخدمة. فالرّوح القدس هو الّذي يبني الكنيسة، ويحييها عندما تميل إلى الانغلاق على ذاتها، وهو يحميها من أن تتحوّل إلى هيكل جامد أو إلى خطاب أجوف.
5. ليست العنصرة حدثًا روحانيًّا منعزلًا عن المجتمع، بل هي حركة تغيير وتجدّد. فالرّسل خرجوا إلى الشّارع ببسالة الأسود. والكنيسة بواسطتهم نزلت إلى ساحة المدينة. "فالكلمة صار جسدًا" (يو 1: 14). نحن اليوم في لبنان نعيش زمنًا مليئًا بالتّحدّيات، لكنّه أيضًا زمن فرص جديدة، ورجاء مستمرّ. مجتمعنا اللّبنانيّ بحاجة إلى نفحة الرّوح القدس، تجدّد فينا وفي كلّ مواطن الطّاقات، وتنعش فينا المسؤوليّة الوطنيّة الاجتماعيّة.
عمل الرّوح القدس في المجتمع البشريّ والسّياسيّ هو بناء الثّقة في النّفوس بعد خيبات كثيرة، وهو تجديد لغة العالم السّياسيّ وأدائه بعيدًا عن الخطاب التّقسيميّ الرّامي إلى المصالح الفرديّة المقيتة، وهو إحياء الضّمير الوطنيّ الّذي يرتفع إلى مستوى الخير العامّ.
6. في لبنان يتعطّش المواطنون إلى صدق في القيادة، واستقرار في المؤسّسات، وتعاون صادق بين المكوّنات، وروح متجدّد في المؤسّسات. فشعبنا، رغم الضّغوطات، ما زال متمسّكًا بالإيمان والانفتاح، والرّغبة في أن يكون لبنان وطن الرّسالة في هذا المشرق.
7. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، لكي نكون جميعًا رسل العنصرة الجديدة: في العائلة، حيث نبني بالمحبّة ونسامح.
في العمل، حيث نشهد للحقّ ونزرع الثّقة.
وفي الشّأن العامّ، حيث يتفانى المعنيّون بتوفير الخير العامّ.
وفي الكنيسة، حيث نخدم بمحبّة وتفانٍ.
وفي الإعلام، كما تيلي لوميار وفضائيّاتها، حيث ننقل بشرى الحقيقة والحياة.
ولله الآب والإبن والرّوح القدس، كلّ مجد وشكر وتسبيح، الآن وإلى الأبد، آمين."