لبنان
15 نيسان 2022, 13:05

الرّاعي في رتبة سجدة الصّليب: الظّرف الذي نعيشه في لبنان يجب أن يخرج منه ولادة جديدة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي رتبة سجدة الصّليب في الصّرح البطريركيّ في بكركي، وبعد تلاوة الأناجيل ألقى عظة بعنوان" نسجد لك أيها المسيح ونباركك، لأنك بصليبك المقدس خلّصت العالم"، جاء فيها:

"بسماع الأناجيل الأربعة والقراءات التي سبقت، نحن أمام أعظم جريمة ارتُكبت في التّاريخ بحق الله، جريمة ذلّ وحقد وبغض ورفض للمحبّة والحقيقة، ولكنّ الرّبّ يسوع حوّل هذه الجريمة إلى ذبيحة لذاته فداءً لكلّ إنسان يولد لإمرأة في هذا العالم، والصّليب الذي استُعمل كآلة لتعذيبنا حوّله إلى ينبوع خلاص لكلّ شخص يرفع نظره وقلبه إليه، وهكذا علّمنا ثقافة جديدة في العالم، وهي كيف نواجه الشّرّ وبأيّ طريقة نقف كي نحوّل وجه العالم، نحن نلتمس هذه النّعمة اليوم ونحن نتأمّل في سرّ آلامه وننحني أمام سرّ صليبه.

هناك ثلاث وقفات في هذه الرّتبة تضعنا في حالة تأمّل. فحين ننظر إلى المصلوب يجب أن نتذكّر أنّنا نحن أيضًا مخطئون في حقّه في كلّ مرة قد خنّا محبّته وكلامه وابتعدنا عن تعليمه، نكون قد اقترفنا شيء من الخيانة تُذكّرنا بيهوذا الذي خانه بقبلة.

اليوم سيوضع الصّليب على جبيننا ونقبّله في قلوبنا ونقول له كلمة حبّ، وسنسير في الزيّاح معه قبل أن نضعه في القبر، وسنقول له كما قال بولس الرّسول، يا ربّ من أجلي أنا تألّمت، من أجلي أنا متّ كي تفتديني، ومن أجلي أنا قمت كي تعطيني الحياة الجديدة.

هذه الوقفات التّأمليّة هي سجود من القلب للرّبّ يسوع الذي مهما كبرت خطايا البشر وخطايانا، تبقى محبّته أكبر من كلّ الخطايا ولو جُمعت كلّ خطايا التّاريخ من آدم حتّى نهاية الأزمنة، يبقى حبّه أكبر منها كلّها، لذلك يعلّمنا سرّ الحبّ وسرّ الغفران.

أنا معكم أريد أن أتذكّر الكلمات الأخيرة التي قالها من على صليبه وأن أجمعها كي تكون لنا دستور الحياة. سبع كلمات والثّامنة هي كلمة صامتة كانت الأنطق بين جميع الكلمات.

الكلمة الأولى دعوته لنا كي نعرف أنّ الغفران هو ذروة المحبّة، أمام الظّالمين وشرّهم، رفع صلاته قائلاً يا أبت إغفر لهم، لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون. لا يوجد أكبر من هذه العظمة في الحبّ على وجه الارض.

الكلمة الثّانية علّمنا أنه من الألم هناك ولادة جديدة، كلّ آلامنا تحمل ولادة جديدة. الظّرف الذي نعيشه في لبنان يجب أن يخرج منه ولادة جديدة، شهداؤنا الذين أراقوا دماءهم كانوا ولادة جديدة للوطن، أقلّه حُفظ هذا الوطن. هذه الكلمة تظهر لنا عندما وجّه كلامه لمريم وأعطاها الأمومة الرّوحيّة الشّاملة للبشريّة بشخص يوحنّا، حين قال يا امرأة، أيّ يا أم الحياة، هذا ابنك، أيّ كلّ واحد منّا في شخص يوحنّا، وليوحنّا قال، هذه هي أمّك.

دعونا لا نخاف من التّضحية ومن الوجع، فبعدهما حياة جديدة.

الكلمة الثّالثة، هي التّوبة والغفران، فجمال التّوبة مني أنا كإنسان، وعظمة الغفران من الله الذي علّمنا أن نعيشه مع بعضنا. فعندما قال له لصّ اليمين إغفر لي يا سيدي تذكّرني متى تأتي في ملكوتك، كان الجواب، اليوم تكون معي في الفردوس. التّوبة جمالها أنها رائعة وأروع من التّوبة، الغفران.

الكلمة الرّابعة، اختبار الإنسان لصعوبة الحياة أو المرض أو الظّلم أو أيّ ما يؤلم الإنسان في العمق ويجعله يشعر أنّ الله غير موجود، ويختبر صمت الله، هذا ما اختبره يسوع ولكنّه لم يصل إلى اليأس، حافظ على إيمانه وحبّه. صرخ صرخة الإنسان إلهي إلهي، ولكن جوابها كان ضمنها، لماذا تركتني. كلّ انسان يصرخ هذه الصّرخة في حياته ولكن لا وجود لليأس. نشعر أحياناً أن الله غائب أو صامت، ولكن هو هنا.

الكلمة الخامسة، أنا عطشان، وبالتّأكيد ليس عطشاً الى الماء فقط، بل أمام حقد البشر وبغض البشر وتنكيل البشر، والتّصرّفات التي سمعناها في القراءات، قال وسيقولها كلّ منا كلّ يوم، أنا عطشان إلى وجود حبّ في هذا العالم، أنا عطشان إلى رحمة في هذا العالم، أنا عطشان لعدالة وسلام هذا العالم، وهذا العطش هو رسالة كلّ واحد منّا.

الكلمة السّادسة، هي أن نعرف أنه في آخر الحياة يجب أن نسلّم الوديعة، وتكون حياتنا ذات معنى، ولا ندع يومنا يمرّ وكأنه لم يكن. القدّيسة تريز الطّفل يسوع كانت تقول بأن الزمن قصير جداً كي نعيش اللّحظة، لحظة الحب لا نملك إلاّ اليوم، حتّى عندما ننهي مسيرة الدنيا مثل يسوع نقول، لقد تمّ كل شيء، تممّت الرّسالة والغاية اللذين من أجلهما وُجدت.

الكلمة السّابعة، يا أبتي بين يديك أستودع روحي، هذه وديعة الذّات التي نسلّمها يوم الرّحيل إلى الله، كانت هبة من الله لنا في هذه الدّنيا، وعلينا أن نُجمّل هذه الهبة كي نعيدها جميلة إلى الله.

أمّا الكلمة الثامنة، وهي الكلمة الصّامتة التي لم يتكّلم بها يسوع، هي عندما طُعن في الحربة وهو مرفوع على الصّليب، وجرى منه دمّ وماء، الماء رمز المعموديّة التي منها وُلدنا أبناء وبنات لله، والدم رمز القربان الذي هو غذاء نفوسنا، من الدّم والماء ولدنا وولدت الكنيسة. هذه الكلمة الصّامتة ولكن الناطقة كلّ يوم تذكّرني بأنّنا ولدنا من قلب المسيح المطعون بالحربة، من هناك ولدت الكنسية، ولذلك هي الكلمة هي في حالة كلام دائم طالما أنّ الكنيسة موجودة في العالم، وطالما أناس يولودون من المعموديّة ويقتاتون من القربان.

أتمنّى لكم عيدًا مباركًا وقيامة مباركة تجعلنا نقول أنّه مع المسيح لم ينته كلّ شيء يوم الجمعة، بل انتهى يوم الأحد، لذلك يمكننا أن نقول عربون قيامتنا في الوطن وفي العالم، المسيح قام، حقًّا قام!"