الراعي في رسالة الميلاد: نطالب الكتل السياسية أن يهدوا الشعب اللبناني رئيساً للجمهورية
"وأشرقَ مجدُ الربِّ حولهم"
(لو2: 9)
1. عند ميلاد ابن الله إنسانًا في بيت لحم "أشرق مجدُ الرب في قلب ظلمة اللَّيل" (الآية 9). هو المسيح – النور الذي يخرق الظلمات: يمحي الكآبة والحزن واليأس، ويحرّر أسرى الذات وأسرى البشر والايديولوجيات. نوره يُشعل الايمان، وينعش الرجاء، ويملأ الدنيا محبة. فتمّت نبوءة آشعيا:"الشعبُ السالكُ في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، وعلى الساكنين في بقاع الظلام أشرق عليهم نور" (أش 9: 1).
كلّ ظلمة في الحياة تتبدّد بنور شخص المسيح وبكلام إنجيله وبآياته، وبتعليم كنيسته. إنّ نوره في انتظارنا، في انتظار كلّ واحد وواحدة منا ليضع ذاته تحت نوره، وعلى دربه. لا يستطيع المسيح أن ينكر ذاته، وقد قال عن نفسه:"أنا نور العالم. منيتبعني لا يمشي في الظلام، بل يكون له نور الحياة" (يو 8: 12).
2. يسعدني في هذه المناسبة أن أعرب، باسم الأسرة البطريركية، لإخواننا السَّادة المطارنة والرؤساء العامّين والرئيسات العامّات والكهنة والرهبان والراهبات أطيب التهاني وأخلص التمنيات بميلاد المسيح الربّ، مخلّص العالم وفادي الإنسان، بهجة القلوب ورجاء الشعوب. فنهتف معًا: "وُلد المسيح، هللويا!"
هذه التهاني والتمنيات نقدّمها لجميع إخوتنا وأخواتنا في الأبرشيات والرهبانيات، في لبنان ومنطقة الشَّرق الأوسط وبلدان الانتشار، وبخاصّة للّذين يعانون من ويلات الحرب في سوريا والعراق والأراضي المقدّسة وسواها. ونقدّمها لجميع اللّبنانيّين، مسيحيّين ومسلمين، ولاسيّما أنّ عيد ميلاد المسيح الربّ يتزامن في هذه السنة مع عيد المولد النبوي الشريف، كعلامة تؤكّد ميزتنا في لبنان وهذا المشرق، وهي العيش المشترك على قاعدة الاحترام المتبادل والتعاضد والتكامل، وحوار الحياة والثقافة والمصير. ولقد ترسّخ هذا العيش معًا على مدى ألف وأربعماية سنة، بالرّغم من المصاعب والمحن، فبنينا خلالها في بلداننا الشَّرق أوسطية ثقافة مشتركة وحضارة وهوّية اغتنت بالقيم المسيحيّة والإسلاميّة وبالمكتسبات والثوابت الوطنيّة. ونحن حريصون على حمايتها بوجه مخطّطات التفتيت والحروب وافتعال صراع الأديان والثقافات والحضارات. بل مصمّمون على إداء رسالتنا بوجه هذا التحدّي الكبير وحركات التعصّب والتكفير والتنظيمات الإرهابية.
3. "لقد أشرقَ مجدُ الربِّ حولَهم" (لو2: 9).
مجدُ الربّهو يسوع المسيح، الإله الذي صار إنسانًا. ففيه تمجَّد اللهبإظهار محبّته اللامتناهية للعالم، وقد أرسل ابنه الوحيد ليفتدي الجنس البشري من خطاياه، ويخلّص العالم من سلطة الشّر وظلمة القهر والظلم والاستبداد. وهكذا يصبح مجدُ الربّ، على ما يقول القديس إيريناوس، الإنسان الحيّالمستعيد بهاء إنسانيّته المتجلّية في إنسانية المسيح الذي فكّر بعقل إنسان، وصنع الخير بإرادة إنسان، وأحبّ بقلب إنسان.
ومجدُ الربّهو السلام الذي أنشده الملائكة ساعة الميلاد. فبات السلام يحمل اسمًا في التاريخ هو "يسوع المسيح"، ويصبح عطيّة سماويةثمينة توهب لنا جميعًا، أفرادًا وجماعات،لنكون صانعي سلام. ولمّا صار ابن الله إنسانًا لكي نصير أبناءً لله، جعل السلامَ طريقًا لهذه البنوّة، كما أكّد في إنجيل التطويبات، دستور الحياة المسيحية: "طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناءَ الله يُدعون" (متى5: 9).
4. لا أحد يستطيع أن يكون "صانع سلام"، ما لم يمتلكه في داخله "كثمرةٍ لسلامه مع الله في قرارة ضميره. عندها يستطيع أن يبنيهسلامًا اجتماعيًّا مع الناس بحلّ النزاع وسوء التفاهم وممارسة العدالة ورفع الظلم، ومع الفقراء والمعوزين بإغاثتهم؛ وأن يبنيه سلامًا سياسيًّا ووطنيًّا بخدمة الخير العام واحترام القانون وإحياء مؤسسات الدولة وحفظ المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات وإنماء الشخص البشري بكلّ أبعاده الروحية والإنسانية والثقافية والاقتصادية، لكي تتوفّر له حياة كريمة.
إنّنا نحيِّي كلَّ"صانعي سلام" في العائلة والمجتمع، وفي الكنيسة والدولة. نقدّر المبادرات الخاصّة والجماعية في مناسبة الأعياد الميلادية، كما وفي الظروف العادية. ونقدّر عمل المؤسّسات التربوية والاستشفائية والاجتماعية على أنواعها التي تصنع هذا السلام، وتزرع الرجاء والأمل في القلوب.
5. ثلاثة مترابطة ومتكاملة أنشدها الملائكة في ليلة ميلاد المسيح الربّ، وهي عطيّة من السماء مثلّثة: مجدٌوسلامٌورجاءٌ. يدعونا الميلاد لنرفع أنشودتنا من الأرض نحو السماء: أنشودةَرجاءٍنزرعه في القلوب، وسلامٍنبنيه في العائلة والمجتمع والوطن، وتمجيدٍدائم لله.
تقبّل رعاةُ بيت لحم البسطاء والفقراء عطيّةَ السماء هذه، فقصدوا المذود حيث الطفل الإلهي. رأَوا وآمنوا وأخبروا وعادوا بسلام ورجاء كبيرَين، يمجّدون الله ويسبّحون (راجعلو2: 15-20). وتقبّلهامجوس المشرق، علماء الفلك الأغنياء، فسافروا بالرجاء أشهرًا على هدي النجم نحو بيت لحم، وقدّموا للطفل من كنوزهم هدايا تمجيدٍ نبويّة: ذهبًا للملك الجديد، وبخورًا للكاهن الأسمى، وحنوطًا للفادي الإلهي. وبثّوا خبر السلام لهيرودس الملك ولشعب مدينة أورشليم.
غير انّ هيرودس رفض البشرى الخلاصية له ولبلاطه خوفًا على كرسيه فصمّم على قتل المولود الملك الجديد، ملك المجد والسلام والرجاء لكلّ إنسان، كبير وصغير، غني وفقير، ولاسيّما لكلّ شريك في ملوكية الحقّ والعدالة والسلام.ولهذه الغاية أمر هذا الملك المغرور والظالم بقتل جميع أطفال بيت لحم من عمر سنتَين وما دون لعلّ يسوع بينهم(راجع متى 2: 16-18).هي المأساة إيّاها تتكرّر في أيامنا بشكل أو بآخر، من أجل نيل السلطة أوالاحتفاظ بها.
6. لقد تمنّينا مع شعبنا أكثر من مرّة، وطالبناالكتل السياسيّة والنيابيّة في لبنان أن يهدوا الشعب اللبناني والوطن ومؤسّساته رئيسًا للجمهورية، فيرفعون بذلك الشعب من اليأس إلى حالة الرجاء، ومن الخوف والقلق إلى حالة السلام، ويمجّدون الله بممارسة عملهم السياسي الذي يندرج أساسًا في النظام الطبيعي الذي وضعه الله لكي يعيش الناس والشعوب في سلام، ويتفاهموا ويرعوا شؤون مدينة الأرض بحيث ينعمون بالخير والعدل، على يد سلطة سياسية توفّر لهم كلّ ذلك (راجع شرعة العمل السياسي، صفحة 5).
7. لكنّنا اليوم، نعود معكم أيّها الحاضرون، ويا أيّها المشاهدون والسامعون، لنجدّد التمني والمطالبة، من بكركي، هذا الصرح التاريخي الوطني، وفقًا للخطّ الذي سار عليه أسلافي البطاركة العظام الذين قادوا سفينة الوطن من يوحنا مارون الذي ثبّت الهوية والرسالة سنة 686، إلى الياس بطرس الحويك وإعلان دولة لبنان الكبير في أول ايلول 1920، إلى أنطون بطرس عريضه والميثاق الوطني سنة 1943، فإلى نصرالله بطرس صفير ووثيقة الوفاق الوطني سنة 1989.
8. لقد وضعت البطريركية بين أيدي رجال السياسة والشعب اللبناني ثلاث وثائق بمثابة خريطة طريق نحو قيام دولة مدنيّة عصرية قادرة ومنتجة بمؤسّساتها الدستورية والعامّة، مبنيّة على الديموقراطية السليمة، دولة القانون والحقوق والواجبات بالمساواة بين الجميع.
كانت الوثيقة الأولى "شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان" (2009) لتثقيف ضمائر المواطنين وتوجيه الممارسة السياسية نحو جوهرها وأهدافها ودورها في خدمة الإنسان والمجتمع. وكانت الثانية "المذكّرة الوطنية" (9 شباط 2014)لتهيئة عهد رئاسي جديد يمتدّ نحو الاحتفال بالمئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير في أوّل أيلول 2020. فأكّدت على الثوابت الوطنيّة، ورسمت أسس المستقبل وفقًا للأولويّات. وكانت الوثيقة الثالثة "مذكِّرة اقتصادية: اقتصاد لمستقبل لبنان (25 اذار 2015)، بعد مرور سنة من دون انتخاب رئيس للجمهورية، وأمام الوضع الاقتصادي الذي ينبئ بالخطر الكبير بسبب تعاظم الدَّين العام، والشَّلل الاقتصادي الحاصل، وتزايد حالات الفقر، وكثافة هجرة الأدمغة والقوى الحيّة، وإغراق البلاد بالنازحين الذين بات عددُهم مع اللاجئين نصفَ سكّان لبنان.
لقد رحّب الجميع، وفي مقدّمتهم رجال السياسية والاقتصاد والعلم، بهذه الوثائق الثلاث، واعتبروها خريطة طريق متكاملة. لكن سرعان ما تبخّر الترحيب وخنقته المصالح الضيّقة، وشلّه العجز عن اتّخاذ أيّ قرار جريء وشجاع وحرّ.
9. فانطلاقًامن هذه الوثائقنصوغ اليوم معكم المطالب المترابطة التالية:
1) انتخاب رئيس للجمهورية في أسرع ما يمكن، باعتباره مسؤوليةً وطنية جامعة لا تنحصر بالمسيحيّين عامّة والموارنة خاصّة. فالرئيس هو رئيس للدولة، لا ممثّل لطائفة. ولذا، ندعو الكتل السياسيّة والنيابيّة إلى مقاربةجدّية للمبادرة الجديدة المختصّةبانتخاب الرئيس. فإنّها تتّصف بالجدّية كما هو ظاهر في عامل الثقة والأمل الذي أحدثته على المستوى النقدي والمصرفي، وفي الدَّفع الجديد للتفاهم بين فريقَي 14 و8 أذار. فبات على الكتل السياسية والنيابية أن تلتقي حول هذه المبادرة، من أجل كشف الأوراق بموضوعية وشجاعة، واتّخاذ القرار الداخلي الوطني، والذهاب إلى المجلس النيابي وإجراء عمليّة الانتخاب وفقًا للدستور والممارسة الديموقراطية.
فما معنى وجوب "سلّة أو تسوية متكاملة" مع انتخاب الرئيس؟ ومعلوم أنّ البرنامج الأساس لرئيس الجمهورية هو احترام الدستور، وضمانة عمل المؤسّسات العامّة، والحفاظ على وحدة الوطن وعلى استقلاله وسيادته وسلامة أراضيه (المادّة 29 من الدستور)، وحماية العيش المسترك، ورفض أيّ فرز للشعب أو التجزئة أو التقسيم أو التوطين بأيّ شكل أو نوع كان (مقدِّمة الدستور: ي و ط).دور الرئيس تحقيق تصميم اللبنانيّين على قيام الدولة الديموقراطية البرلمانية المدنية ومؤسساتها، وتحفيز دور المجتمع المدني في مسيرة النهوض الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.
2) وضع قانون انتخاب جديد، وهو من مسؤولية مجلس النوّاب كسلطة تشريعية، بحيث يأتي وفقًا للميثاقيّة اللبنانيّة، فيترجم المشاركة الفاعلة في تأمين المناصفة الفعلية، ويضمن الاقتراع الحرّ وحقّ المساءلة والمحاسبة، ويؤمّن التنافس الديموقراطي، ويلغي فرض نوّاب على طوائفهم بقوّة تكتّلات مذهبية (مذكِّرة وطنية، صفحة 12، فقرة 23). فلا يحقّ للمجلس النيابي التلكّؤ عن وضع هذا القانون، لكي يُصار على أساسه إلى إجراء الانتخابات النيابية في بداية ولاية الرئيس الجديد.
3) التزام الحكومة بممارسة مسؤولياتها كسلطة إجرائية وفقًا للدستور، وتفعيل عمل المؤسسات العامّة، ومنع الفوضى والفساد فيها وتحفيز مسؤولية المواطنين، ومعالجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي، وإخراج المواطنين من حالة اليأس وفقدان الثقة بوطنهم. ومعلوم أنّ عمل الحكومة يواجه الكثير من العثرات، بسبب غياب رئيس للجمهورية لكونه السلطة الإجرائية الأولى بموجب الدستور. ولذا ما فتئ رئيسها يطالب في كلّ جلسة ومناسبة بانتخاب رئيس للبلاد لكي يستقيم عمل الحكومة.
لا تستطيع الحكومة إهمال قضيّة النازحين السوريّين إلى لبنان الذين كان عددُهم في العام الماضي مليون ونصف المليون، وقد ازداد ربع مليون بالولادات الجديدة، وأصبح عدد الطلّاب السوريّين أربعماية ألف طالب، كما أشارت ورشة العمل التي عُقدت في المجلس النيابي في 15 كانون الأوّل الجاري، وكشفت حجم الثقل الاقتصادي والاجتماعي على لبنان وتداعياته السلبية على اللبنانيّين. وفيما نحن متضامنون إنسانيًّا مع الإخوة النازحين ومع حاجاتهم المعيشية، فإنّا نخشى، إذا طال بقاؤهم في لبنان، أن يُستغلّوا من قبل المتطرّفين والتنظيمات الإرهابية لأهداف تخلّ بالأمن والاستقرار، وأن يروا نفوسهم مقحمين على ارتكاب جرائم لكسب المال وخلق الفوضى وزعزعة المجتمع.
إنّنا نشكر الله علىالقرار 2254 بشأن سوريا الذي صدر عن مجلس الأمن والخاصّ بإيقاف الحرب وإيجاد الحلول السياسية وتهيئة الظروف المؤآتية للعودة الآمنة للاجئين والنازحين خارجيًّا وداخليًّا إلى مناطقهم الأصلية وتأهيل المناطق المتضرّرة. لكنّنا لا نرضى بأن تكون عودة النازحين "طوعية"كما جاء في نصّ القرار. فما ينطبق على اللاجئين إلى أوروبا وغيرها لا يمكن أن ينطبق على النازحين إلى لبنان للأسباب المذكورة أعلاه، ومنعًا للمطالبة فيما بعد بتوطينهم ومنحهم الجنسية اللبنانية. بل يجب أن تكون العودة إلزامية، لكي يحافظوا على حقوقهم في وطنهم، وعلى هويتهم الوطنية، الثقافية والحضارية. وفي كلّ حال، نواصل صلاتنا من أجل إحلال السلام في منطقتنا التي منها أعلن السلام للعالم، بمولد "أمير السلام" (أشعيا 8: 5)، يسوع المسيح.
10. وإنّا، إذ نجدّد لكم جميعًا، مقيمين في لبنان وبلدان الشّرق الأوسط ومنتشرين، التهاني والتمنيات بميلاد الفادي الإلهي، نسأله أن ينير السنة الجديدة الطالعة 2016 بأنوار الحقيقة والمحبة والعدالة والسلام.
وُلد المسيح، هللويا!