الرّاعي في عيد مار مارون: للتّعاون أجلِ أن نبلور حالة وطنيّة تستعيد لبنان وتضعه في مسار نهضويّ
"1. يشبّه الرّبّ يسوع موته وقيامته وثمارهما "بحبّة الحنطة الّتي وقعت في أرض الجلجلة وماتت فأعطت ثمرًا كثيرًا". من موته وقيامته وُلدت الكنيسة، هي جسده، وهو رأسها. لا أحد يستطيع أن يحصي ثمارها في العالم، وهي روحيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة وتربويّة واستشفائيّة واجتماعيّة وإنمائيّة، وثمارها في قدّيسيّها وقدّيساتها. إنّها زرع ملكوت الله وبدايته في التّاريخ، وتعمل على نشره في كلّ العالم. إنّه ملكوت القداسة والمحبّة والعدالة والحرّيّة والسّلام والتّآخي والانفتاح على كلّ إنسان وشعب، مهما اختلف لونه وعرقه ودينه. بانتشار الكنيسة ينتشر ملكوت الله.
2. نحتفل بعيد أبينا القدّيس مارون، وفي القلب غصّة على ضحايا وباء كورونا، كلّهم أعزّاء على قلوبنا وعلى عائلاتهم المحزونة. فنصلّي من أجلهم في هذه الذّبيحة المقدّسة، ومن أجل شفاء المصابين وإبادة هذا الوباء. وفي كلّ حال، نهنّئ بالعيد كلّ أبناء كنيستنا في لبنان والنّطاق البطريركيّ وبلدان الانتشار، وكلّ الّذين يشاركوننا في العيد. ونرحبّ بالرّابطة المارونيّة رئيسًا ومجلسًا تنفيذيًّا.
القدّيس مارون هو حبّة حنطة ماتت في أرض قورش بين مدينتي أنطاكية وحلب، فوُلِدت منها الكنيسة المارونيّة. وهي بدورها انتشرت في القارّات الخمس، بعد أن تأصّلت جذورها في لبنان وكتبت تاريخها الحيّ على أرضه فأضحى الوطن الرّوحيّ لكلّ الموارنة، لأنّ فيه تراثها وقدّيسوها وكرسيّها البطريركيّ وأبرشيّاتها التّاريخيّة ورهبانيّاتها ومؤسّساتها وسائر قواها الكنسيّة والمدنيّة.
القدّيس مارون كاهن تنسّك في العراء على قمّة في منطقة قورش، بين مدينتي أنطاكية وحلب. عاش إنجيل المسيح بالتّقشّف والبساطة والإخلاص، بتفانٍ وبطولة. وأصبح مقصدًا للمؤمنين من مختلف النّواحي ليستشفوا من أمراضهم الجسديّة والرّوحيّة، فكان يشفيهم جميعًا بدواء صلاته.
بلغت إلينا سيرة حياته من رسالة صغيرة وجهّها إليه صديقه القدّيس يوحنّا فم الذّهب، بطريرك القسطنطينيّة، عندما كان في المنفى، ويطلب صلاته المعزيّة. كما نعرفها بالتّفصيل من كتاب المطران تيودوريتس، أسقف قورش، بعنوان "أصفياء الله". ويعني بهم القدّيس مارون وتلاميذه وسائر النّسّاك رجالًا ونساءً في منطقة قوروش.
3.لقد أصبح نهج حبّة الحنطة نهج كلّ مسيحيّ عامّة وكلّ مارونيّ خاصّة. وهو نهج التّضحية والتّفاني في العطاء الّذي منه ثمار تغني الكنيسة والمجتمع المدنيّ. هذا النّهج عاشه أجدادنا عبر العصور فكان لبنان ثمرة جهودهم وتضحياتهم. واليوم، نحن بحاجة لأمثالهم من أجل المحافظة عليه. وعاش هذا النّهجَ مؤمنون تميّزوا بالفضائل، ورهبان وراهبات "يتلألأون كالشّمس، قدّيسون وقدّيسات، في ملكوت الله" (متّى 13/ 43).
4. بقَدْرِ ما هذا العيدُ هو موعدٌ مع القدّيسِ مارون استذكارًا وصلاةً وإيمانًا، هو أيضًا وَقفةٌ وجدانيّةٌ أمامَ تاريخِنا العريق ودورنِا الوطنيِّ ورسالتِنا الحضاريّة في هذا الشّرق، وأمام لبنان الّذي ناضل الموارنةُ وقاوموا قرونًا- لا سنواتٍ- لتكونَ دولتُه على مساحةِ الوطن، وليكونَ الوطنُ لجميعِ بنيه، ويكونَ جميعُ بنيه للوطنِ ولاءً، وللدّولةِ انتماءً، وللنّظامِ احترامًا، وللدّستور وللميثاقِ ولوثيقة الوفاق الوطنيّ ممارسةً شفّافة.
إنّ آباءَنا وأجدادَنا آمنوا بالمستقبلِ بموازاةِ إيمانهم بالله. ونَشدوا السّلامَ بموازاةِ الشّجاعة، وما فَصَلوا بين الأمنِ والحرّيّةِ والكرامة. صَبروا وضحّوا وقاوموا وانتصروا، ورفضوا الذّوبانَ وفقدانَ الخصوصيّةَ الرّوحيّةَ والطقوسيّةَ والمجتمعيّة والحضاريّة. انتشروا في هذه البلادِ الآراميّةِ- الكنعانيّةِ- الفينيقيّةِ- السّريانيّة- العربيّة، واحتمَوْا في جبلِ لبنان. وبَنوْا دولة لبنان الكبير وانفتحوا على المحيطِ شَهادةً لهويّتهم المشرقيّة.
تحمّلوا الجوعَ والبردَ بقوّةِ الإيمانِ والرّجاء فخرجوا من مِحنهم مهما اشتدّت. واجهوا الاضْطهادَ وحالوا دون أن يُصبحَ إبادة. تمسّكوا بالأرضِ قبل أن تكونَ وطنًا لأنّها أرضُ القداسةِ والقِدّيسين. أحبّوا الآخَر أيًّا يكن دينُه وأصلُه ولونُه وتعايشوا معه حتّى أنّهم جعلوا التّعدّديّةَ شراكةً وميثاقًا في إطارِ دولةٍ ديمقراطيّةٍ سيّدةٍ ومستقلّةٍ تشهد للحرّيّةِ وتلاقي الأديان وحوار الحضارات. ونحن اليوم مدعوّون إلى مواصلة هذا النّهجِ سلامًا وصمودًا. فلا نَخف من التّحدّيات، ولا نَخشى الصّعوبات.
5. كون عيد القدّيس مارون عيدًا وطنيًّا، يطيب لي أن أهنّئ بالعيد شركاءنا في الوطن، وأقول لهم: إنّ وجودنا معًا ليس صُدفةً ولا عُنوة. هو خِيارٌ إنسانيٌّ ووطنيٌّ ثابت. هو فرحٌ عظيم أزهرَ في المشرِق. هو فعلُ إيمانٍ بالله ومحبّةٍ للآخَر واعترافٍ به. ولبنان الكبيرُ هو التّجسيدُ الدّستوريُّ الحديثُ والحضاريُّ لقرونٍ من الحياةِ في ظلِّ ظروفٍ مختلِفة. من خلالِ لبنانَ الكبير حوّلنا الوجودَ معيّةً، والمعيّةَ شراكةً، والشّراكةَ وِحدةً. ومنذ تأسيس هذه الدّولة اللّبنانيّة، ونحن ندافع عن الشّراكةِ والوحدة. ونشدّدُ دائمًا على ضرورة الولاء للبنان فقط والتّصرّف على هذا الأساس. لقد وظّف الموارنة كلّ مرّة ثمرةَ نضالِهم في دولةِ لبنان ووِحدتها لأنّهم حريصون على التّعايشِ الإسلاميّ- المسيحيّ. فلبنان قبل أن يكون مساحةَ أرضٍ هو مساحةُ محبّة. ومن دون المحبّةِ تَفقِدُ المجتمعاتُ قوَّتَها ومناعتَها.
6. ولكن يؤسفنا اليوم أن نحيي عيد ما مارون، واللّبنانيّون يعانون العذاباتِ ويقدِّمون التّضحيات بينما دولتُهم منشغلةٌ بأمورٍ صغيرةٍ كثيرة. يتنافس المسؤولون على تعطيلِ الحلول الدّاخليّة ما يدفعنا إلى التّطلّعِ نحو الأمم المتّحدة للمساعدة على إنقاذ لبنان. فمن واجبها أن تَعكُفَ على دراسةِ أفضلِ السّبلِ لتأمينِ انعقادِ مؤتمرِ دوليّ خاصٍّ بلبنان، يعيد تثبيتَ وجودِه ويمنع سقوطه. إلى الأممِ المتّحدةِ توجَّهت جميعُ الشّعوب الّتي مرّت في ما نّمر فيه اليوم. فمنظمّة الأممِ المتّحدة ليست فريقًا دوليًّا أو إقليميًّا أو طائفيًّا أو حزبيًّا ليكون اللّجوءُ إليها لمصلحةِ فريقٍ دون آخر. إنّها منظّمةٌ مسؤولةٌ عن مصير كلّ دولةٍ عضوٍ فيها، وعليها تقع مسؤوليّةَ مساعدتِها في الأزمات المصيريّة. لبنان يحتاج اليوم إلى دورٍ دوليٍّ حازمٍ وصارمٍ يُطبِّق القراراتِ السّابقةَ من دونِ استثناء واجتزاءٍ، حتّى لو استدعى الأمرُ إصدارَ قراراتٍ جديدةٍ. جميعُ اللّبنانيّين بحاجة إلى إنقاذ، فكلّنا في محنةٍ أمام الواقعِ المأزوم. وكلّما أسْرعنا في هذا المسار كلّما جاء الحلّ في إطار وحدة لبنان وشراكتِه السّامية، وكلّما تأخّرنا تاهَ الحلُّ في غياهبِ العنف والانقسام ِمن دون رادعٍ وكابِح، وما من منتصر.
لذلك ندعو جميعَ القوى المؤمنةِ بوحدةِ لبنان وسيادتِه وخصوصيّتِه في هذا الشّرق إلى التّعاون فيما بينها من أجلِ أن نبلوِرَ حالةً وطنيّة تستعيد لبنان وتضعه في مسار نهضويّ. إنّ الكلمة التّي خصّ بها لبنان قداسة البابا فرنسيس في خطابه بالأمس إلى السّلك الدّيبلوماسيّ المعتمد لدى الكرسيّ الرّسوليّ تشجّعنا في هذا المسعى، إذ قال:"أتمنّى تجديد الالتزام السّياسيّ الوطنيّ والدّوليّ من أجل تعزيز استقرار لبنان، الّذي يمرّ بأزمة داخليّة، والمُعرَّض لفقدان هويّته ولمزيد من التّورّط في التّوتّرات الإقليميّة. من الضّروريّ للغاية أن يحافظ على هويّته الفريدة، من أجل ضمان شرق أوسط متعدّد ومتسامح ومتنوّع، حيث يستطيع الوجود المسيحيّ أن يقدّم مساهمته وألّا يقتصر على أقلّيّة يجب حمايتها. إنّ المسيحيّين يشكّلون النّسيج الرّابط التّاريخيّ والاجتماعيّ للبنان، ومن خلال الأعمال التّربويّة والصّحّيّة والخيريّة العديدة، يجب أن تُضمَنَ لهم إمكانيّة الاستمرار في العمل من أجل خير البلاد الّذي كانوا من مؤسّسيه. فقد يتسبّب إضعافُ الوجود المسيحيّ بفقدان التّوازن الدّاخليّ والواقع اللّبنانيّ نفسه. ومن هذا المنظور، يجب أيضًا معالجة وجود اللّاجئين السّوريّين والفلسطينيّين. فالبلاد إضافة لذلك، من دون عمليّة عاجلة لإنعاش الاقتصاد وإعادة الإعمار، معرّض لخطر الإفلاس، مع ما قد ينتج عنه من انحرافات أصوليّة خطيرة. لذلك فمن الضّروريّ أن يتعهّد جميع القادة السّياسيّين والدّينيّين، واضعين جانبًا مصالحهم الخاصّة، بالسّعي لتحقيق العدالة وتنفيذ إصلاحات حقيقيّة لصالح المواطنين، فيتصرّفوا بشفافيّة ويتحمّلوا مسؤوليّة أفعالهم."
7. كلّ هذه الأمنيات نرفعها صلاةً إلى الله، بشفاعة أبينا القدّيس مارون، فللثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، كلّ مجد وتسبيح وشكران الآن وإلى الأبد، آمين".